Translate

الاثنين، 8 يناير 2024

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

 

العين السابعة

قصة قصيرة

تأليف : متولي بصل

       شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ولكن بمرور الوقت أخذت جذوة هذه السعادة تذوي شيئا فشيئا، حتى انطفأت ! وبدأ الجزن يتسلل إلى قلبي؛ حزن أسود، وكآبة شديدة، ورعب قاتل؛ لدرجة جعلتني أتمنى الموت .

       وحيد أنا لا زوجة لي ولا ولد، ولم يكن هذا قط هو سبب تعاستي، فقد اعتدت الوحدة منذ زمن بعيد، ولم تعد تراودني أبدا فكرة الزواج أو الإنجاب، سأعيش وحدي، وأموت وحدي، هذا هو قراري واختياري .

       لكنني منذ سكنت هذه الشقة أسمع أصواتا دائما تأتيني من الشقة المجاورة، جدال لا يلبث أن يتحوَّل لشجار ! ومن خلال ما سمعته عرفت الكثير عن جاري وعن امرأته!

       اسمه "نبيه"  يعمل موظفا في مكتب البريد، ويعمل أيضا  في محل بقالة في فترة المساء، وامرأته "مروة" معلمة في الروضة، وابنهما الصغير "رامي" تقريبا في الخامسة من عمره؛ تصحبه أمه معها كلما ذهبت إلى عملها، أما محور الخلاف بينهما وسبب الشجار اليومي فهو الشقة ! "نبيه" يُصر على بيعها، و "مروة" ترفض فكرة البيع باستماتة، ويساندها في ذلك أن عقد الشقة باسمها .

       يوم الجمعة تزداد حدة الشجار؛ لدرجة أن "نبيه" أحضر المأذون ذات مرة، وكاد يطلقها ! أما يوم السبت فكان أجازة بالنسبة إلى "مروة"؛ فكنت أسمعها وهى تداعب طفلها، وتعلمه بعض الكلمات والحساب، وتنطق الكلمات والأرقام وتكررها؛ ليرددها وراءها، وكانت تردد عليه هذه الحسبة التي حفظتها عن ظهر قلب :

- ماما لها عينان؛ وبابا له عينان؛ وحبيبي رامي له عينان، فكم يكون المجموع يا رامي ؟ انظر إلى عدد أصابعي المفرودة !

ثم أسمعها تكمل قائلة :

- ست عيون .. .. ستة .. .. ستة، اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .

وأسمع الصغير يردد وراءها نفس الكلام كالببغاء :

- اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .

لم أكن أغادر الشقة إلى أي مكان بسبب إعاقتي، فقد انقلبت بي السيارة منذ زمن، وأصبحت خردة، وأصبحت أنا أيضا خردة .. .. أقصد معاقا، لكنني بمبلغ التأمين استطعت شراء هذه الشقة، ومبلغ المعاش رغم أنه قليل لكنه كان يكفيني، رغم أن نصفه كان يذهب كراتب للشخص الذي يحضر لي احتياجاتي وطلباتي .

       إنني أتحرّك داخل الشقة بصعوبة شديدة، ولا أدري لو أن ذلك الشخص الذي يحضر لي احتياجاتي نسي، أو حدث له شيء يمنعه من أداء هذه المهمة، كيف سأحصل على الطعام أو الدواء أو غيرهما ! صحيح أنا أعطيه راتبا شهريا، لكن من الممكن أن تحدث له ظروف خارجة عن إرادته .. .. كلما فكرت في هذا الأمر انتابني الخوف، الأفضل لي ألا أفكر، وأترك الأمر لله سبحانه وتعالى، فليس لي سواه .

       لا أحب التجسس، لكنني مجبر! ويذكرني ذلك بأوقات كنت فيها أشم الكثير من دخان السجائر التي يشعلها من حولي، وتمتلئ رئتي به، رغم أنني لا أحب التدخين، ورغم أنني لم أشعل سيجارة واحدة في حياتي !

       شبح الطلاق لا يريد أن يرحل عن الشقة المجاورة، الكلمة باتت تتردد كثيرا على لسان كل من "نبيه" و "مروة" ، وبدأت أشعر بالقلق والحزن عليهما وعلى ابنهما الصغير .

       اليوم الاثنين، ذهبت "مروة" إلى عملها مصطحبة طفلها كعادتها، وتلكأ "نبيه" ! إنني أسمعه وكأنما يتحدث إلى نفسه، لقد قرر أن يغيب اليوم عن عمله، كما يبدو أن شخصا آخر معه في الشقة ! سمعت "نبيه" يقول للشخص الآخر :

- تعبت يا سامح .. .. تعبت يا أخي ! أكبر غلطة عملتها في حياتي أنني كتبت الشقة باسمها، آه يا ندمي .. .. إذا لم أتمكن من البيع سأدخل السجن، أخوك سيدخل السجن يا سامح !

- ألا توجد طريقة أخرى تسسد بها المبلغ المطلوب.. .. خذ قرضا من البنك !

- البنك لن يوافق لأنني أنا ومروة لا نزال نسدد أقساط آخر قرض أخذناه، لم نسدد منها إلا عشرة أقساط تقريبا، وباقي أكثر من أربع سنوات لنسدده !

- معقول يا "نبيه" لم تسدد قرض البنك بعد، ومع ذلك تورط نفسك في ديون جديدة لتشتري أجهزة كهربائية، نصحتك يا أخي أكثر من مرة، لكنك لم تسمع نصيحتي !

- فات أوان هذا الكلام يا أخي ! أرجوك أنا غرقان، وطوق النجاة الوحيد أمامي الشقة، كيف أقنعها أنها توافق على البيع ؟!

حل الصمت قليلا، ثم سمعت هذا المدعو "سامح" يقول :

- الحل الوحيد إنك تكرهها فيها؛ يعني ممكن تقنعها إن الشقة مسكونة، فيها عفاريت !

- مسكونة ! الله يخرب عقلك .. .. أما فكرة، والله العظيم فكرة عبقرية

أحسست ببرودة شديدة، وقشعريرة، وبشيء من الخوف، وازداد قلقي مما سمعته .

       لم يُضيِّع "نبيه" وقتا، وبدأ في تنفيذ الفكرة المجنونة، طفق يفتعل قصصا وهمية، ويختلق كل ما يسبب الرعب لامرأته، لدرجة أنني كنت أحيانا أسمع صراخه هو وزوجته، وأشم رائحة حريق، وبعد قليل أفهم أنه أحرق شيئا من أثاث الشقة، ليزعم أن أرواحا شريرة هى التي أشعلت الحريق، ومرة أخرى أسمع أصواتا مرعبة ومخيفة ليلا، ولا أدري هل هى مسجلة على ( كاسيت ) أم كان هو من يصدرها بنفسه !

       ولولا الحوار الي سمعته منه هو وأخيه، لمت من الرعب، وبدأت أشفق على المسكينة "مروة" فالتمثيليات التي يحبكها كانت تسبب لي الرعب، فكيف يكون حالها وهى في قلب الأحداث ؟!

       حتى جاء يوم سبت، وسمعت "مروة" كعادتها تنطق بعض الكلمات والأعداد، وتكررها، ليرددها "رامي" ، وعندما بدأت معه الحسبة المعتادة، وتقول :

- ماما لها عينان؛ وبابا له عينان؛ وحبيبي رامي له عينان، فكم يكون المجموع يا رامي ؟ انظر إلى عدد أصابعي المفرودة !

ومثل كل مرة أكملت كلامها قائلة له :

- ست عيون .. .. ستة .. .. ستة، اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .

وأخذ الصغير يردد وراءها نفس الكلام كالببغاء؛ ويقول :

- اثنان .. .. أربعة .. .. ستة .. .. سبعة .

فصرخت فيه قائلة :

- ستة يا حبيب ماما .. .. عينان لماما، وعينان لبابا، وعينان لحبيبي رامي؛ فيكون المجموع ستة

وإذا بالصغير يقول، وكأنه يعد على أصابعه كما علمته أمه :

- عينان لبابا، عينان لماما، عينان لحبيبي رامي، وعين كبيرة، فيكون المجموع سبعة .

فوجئت بالكلمة تثقب أذني، وبينما كنت أقف قريبا من الحائط الفاصل بين الشقتين، مستندا على عكازين، فقدت السيطرة على أعصابي، وأفلت العكازان من بين يديَّ، وسقطا كلاهما على الأرض، وسقطت فوقهما، فارتطمت رأسي بقوة، وقبل أن أفقد الوعي، سمعت صوت المسكينة تصرخ صراخا مفزعا .

       نجح " نبيه" فيما خطط له؛ ووافقت المسكينة على البيع، ولم أعد أسمع أي جدال أو شجار! والعجيب أن الشقة منذ بيعها لم تُسكن، ربما الشخص الذي اشتراها وصل إلى علمه أنها مسكونة بالعفاريت؛ فخاف ولم يجرؤ على دخولها !

       الأعجب من ذلك أنني بعد فترة بدأت أسمع أصواتا غريبة لا يمكن أن تكون بشرية! ولم أعد أستطيع النوم خصوصا في الليل، فقد كانت الأصوات تزداد ليلا! وقررت أن أبيع شقتي أنا أيضا قبل أن أموت من الرعب، لكنني فوجئت أن لا أحد يتقدَّم لشرائها، ووصل بي الأمر أن أعرضها على السماسرة بأقل بكثير من ثمنها الذي اشتريتها به، ومع ذلك لم يطرق بابي أي شخص! وزاد من همي وغمي غياب الشخص الموكل بإحضار طعامي وكل احتياجاتي، مر يومان ولم يحضر، حتى نفد الطعام، وخلت الثلاجة إلا من الماء، ولم يعد أمامي مفر من الخروج، والنزول إلى الشارع قبل أن أموت جوعا، فلبست ملابس الخروج والتي لم ألبسها منذ شهور طويلة، وتوكأت على العكازين، وتوجهت ناحية الباب، لكنني لم .. .. لم أجده، فعلا لم أجد باب الشقة ! أخذت أدور داخل الشقة أبحث عن أي مخرج، وكأنني أدور في متاهة لا نهاية لها، ولا مخرج منها!، فتشت في كل شبر فيها، لكنني لم أجد أي أثر للباب، وحتى النوافذ اختفت كلها؛ الشقة أصبحت حوائط صماء، وسقف فقط !

       الرعب يملأ قلبي، والقشعريرة لا تترك جسدي، أخذت أصيح وأصرخ وأبكي مثل الأطفال، لأفاجأ بالكثير من الأيدي التي تمسك بي، وتحاول تثبيتي وشل حركتي، وشعرت بشيء ينغرس في ذراعي، وأنا أصرخ من شدة الألم، ورأيت فتاة في ثياب ناصعة البياض، تضغط بقطعة قطن بيضاء على المكان الذي غرست فيه سن الإبرة، واثنتان تضغطان بكلتا اليدين على ذراعيَّ وجسدي لمنعي من الحركة! أصابني الذهول عندما اكتشف أنني راقد في سرير، وسمعت صوت رجل قادم، يقول :

- أخيرا .. ..  أفاق من الغيبوبة !

حاولت بكل قوتي أن أرفع رأسي لأعرف أين أنا، وكم كانت صدمتي كبيرة، عندما اكتشفت أنني راقد في سرير، وحولي ثلاث ممرضات، والرجل الذي تحدث عن غيبوبة ما كان سوى طبيب في المستشفى، أسئلة كثيرة تتداعى على عقلي الذي كان في غيبوبة منذ قليل، ولا أعرف إجابة أي منها ! سألت على أمل أن يجيبني أحدهم :

- أين أنا ؟!

أجابني الرجل، وهو يبتسم لي ابتسامة مطمئنة، وقال :

- أنت في المستشفى، فلا تقلق، لن نتركك حتى تشفى كل جراحك !

- جراحي !! أية جرااااااح ؟!

بدأ النعاس يتسلل إلى عينيَّ، وقبل أن أغرق في النوم، سمعت الممرضة التي حقنتني؛ تقول للطبيب :

- يبدو أن مفعول المهدئ قد بدأ يا دكتور .

- يجب أن يأخذ هذا المهدئ في مواعيده، فلن يستطيع تحمّل آلام كل هذه الحروق التي في جسده ! يا إلهي .. .. ما الذي يدفع شاب صغير مثله إلى أن يسكب على جسده الجاز، ويحرق نفسه بهذه الطريقة البشعة ؟!

- يقولون يا دكتور أن الشقة التي يعيش فيها مسكونة بالعفاريت ! وأن الساكن الذي كان فيها قبله انتحر بالسم، ولم تنجح محاولات إنقاذه، لكن هذا الشاب محظوظ أنه تم إنقاذه .

- محظوظ .. .. لا أظن ذلك !


الخميس، 5 أكتوبر 2023

رواية شعبان في خبر كان للأديب المصري / متولي بصل صادرة عن دار أمارجي للطباعة والنشر




رواية

 

شعبان في خبر كان

 

 

متولي بصل




 

رواية

 

شعبان في خبر كان

 

 

متولي بصل

 

 

عنوان الكتاب : شعبان في خبر كان

النوع الأدبي : رواية

المؤلف : متولي محمد متولي بصل

نوع الكتاب : ورق قياس 14 في 21

الطبعة الأولى : 2023 م

عدد الصفحات : 148

تصميم الغلاف : م . حيدر الأكرم

التنضيد والتنسيق الداخلي : أمارجي

طباعة : دار أمارجي للطباعة والنشر - العراق

الرقم الدولي : isbn : 978-9922-9567-7-8

 

1

 

     بورسعيد المدينة الحرة، مدينة البضائع ، باب الرزق  للكثير من الناس ؛ ظل شعبان يحلم بها أياما وأسابيعا منذ حكى له عنها ابن عمه " رضا " الذي تحول في ظرف سنة واحدة من صعلوك الى تاجر كبير، وصاحب محل ملابس في منطقة باب الحرس  !

     الجميع لا يصدقون لدرجة أن بعضهم ظن أن " رضا " يتاجر في المخدرات ! قرر شعبان أن يخوض المغامرة و يذهب إلى مدينة الأحلام، ففرص العمل في بلده أصبحت ضعيفة جدا فهو لا يحب النجارة، وصدره لا يطيق ذرات النشارة، إنه واثق كل الثقة أنه ليس عويلا كما يظن أبوه وكما يدعي أقاربه لقد اشتغل في كل مهن دمياط  تقريبا اشتغل نجار صالونات وأميجي واسترجي  حتى تمزق جلد أصابعه، وتعبت رئتاه من رائحة الجومالاكا والتنر والسيلر، واشتغل منجدا حتى ملأت الكرينة خياشيمه وأحشاءه ، واشتغل عتالا !! هذا العصفور النحيل الذي يقول عنه من يراه أنه جلد على عظم كان يحمل ألواح الأخشاب في مؤسسة دمياط  للأخشاب وسط مجموعة من الرجال من ذوي العضلات المفتولة،  كان يبدو بينهم مثل أحد ضحايا الجفاف والمجاعة في أفريقيا، كان يعمل وسط مجموعة من أبطال كمال الاجسام لقد اشتغل أسبوعا واحدا، وكان دوامه يبدأ من التاسعة صباحا وينتهي في الثانية بعد الظهر، ولكنه ظل أكثر من شهر راقدا في فراش المرض بسبب هذا الأسبوع  ! واشتغل في ورشة شق أخشاب وتعرض  أكثر من مرة لفقد أصابعه، مرة ً أمام صفيحة المنشار، ومرة أخرى أمام كاستير الربوب، وفي إحدى المرات قام بتركيب الكاستير بنفسه وعمل الانطلاقة على الحلايا العمود هذه الماكينة الخطيرة التي ابتلعت أصابع الكثير ممن  يستخدمونها ؛ وبمجرد أن ضغط زر الماكينة ،  ودار عمود الحلايا تحطم الكاستير وتكسَّر الى قطع صغيرة ، كل قطعة انطلقت بسرعة مثل طلقة المدفع في ناحية من نواحي الورشة الواسعة ! كان هذا أشبه بوابل من الرصاص الحي ! وكان من الممكن أن يموت هو وكل من في الورشة جميعا في هذا اليوم لو أن هذه الطلقات بهذه السرعة الجنونية أصابت أي جزء من أجسادهم، ولكن لحسن الحظ  لم يصب أحد بسوء وحالفه الحظ  كما حالفه في أوقات كثيرة . 

     ورغم ذلك فطوال عمره لم ينس هذه الحادثة ، وقرر أن يبتعد تماما عن الأخشاب والنجارة، وأن  يجرب العمل في مخبز، وعندما لم يفلح عمل في مصنع حلويات، وكان من الممكن أن يستمر، ويكمل حياته  كعامل في المخبز أو في مصنع الحلويات لكن الأجر الزهيد الذي لا يكفي فتح بيت جعله يبتعد عن كل هذا. و بمجرد أن قابل رضا وسمع حكاياته الأسطورية عن بورسعيد وعن تجارة المستورد، وتجارة الملابس الجاهزة ، قرر أن يجرب حظه فيها ! 

     وفي صباح أحد الأيام أخذ مكانه في سيارة  ميكروباص ؛ وعندما اكتمل العدد ، و انطلقت السيارة ، وضع يده على جيبه ليطمئن أن المبلغ الذي معه لا يزال في مكانه إنه مبلغ بسيط لكن ماذا يفعل !! ليته استطاع تدبير مبلغ أكبر ليضمن ربحا أكثر، ولكن ما باليد حيلة نظر إلى من حوله في السيارة ،  الجميع عليهم سيماهم ؛  تستطيع بنظرة واحده أن تعرف أن هذه طالبة في المعهد الفني التجاري من الكتب التي تحملها ، كما يمكنك أن تعرف أن الشابين الجالسين بجوار شعبان طالبان في كلية التربية الرياضية أما هذه المرأة التي تجلس بجوار السائق والتي تأخذ كرسيين فهي مهربة ،  فقد كانت تتحدث مع السائق عن أحدث طريقة لإخفاء الملابس  المهربه عن ضباط الجمرك ، وكان جميع من في السيارة  يتحدثون عن الجمرك وعن المفتشين والضباط  لفت انتباه شعبان الرجل البدين جدا الذي يجلس خلف كرسي السائق كان من فرط بدانته يحتل كرسيين ! فوجيء "شعبان " بأن السائق يعرف معظم الركاب تقريبا و يناديهم بأسمائهم انهم يتحدثون وكأنهم أفراد أسرة واحدة ،  من المؤكد انهم يركبون معه يوميا   .

      طوال الطريق الممتد لحوالي تسعة و أربعين  كيلو مترا لم تتوقف السيارة إلا مرة واحدة بالقرب من قرية  " الديبة "  حيث فوجئ الجميع بمقطورة مقلوبة على أسفلت الطريق وأسفل منها سيارة ملاكي تهشمت تماما بمن فيها وأصبحت قطعة صاج واحدة بعدما انطبق السقف على الأرضية وأصبح الركاب كومة لحم واحدة ! صرخ السائق ، وكل من معه  

  -  لا حول ولا قوة  إلا  بالله  ! .. ..  يا لطيف   ..   ..  يا لطيف   ...  ...  يا منجِّي  يا رب !

كانت سيارات الإسعاف وسيارات الشرطة في المكان ونزل عدد كبير من الناس من سياراتهم يشاهدون المنظر الرهيب  عن قرب ، لم يتحرك شعبان من مكانه رغم نزول عدد من الركاب ،  ملأت أنفه رائحة غريبة كانت تملأ المكان ،  قال لنفسه متسائلا 

-         هل هي رائحه الموت   ..  .. إنها تشبه رائحة الدماء ، و .. ..  ؟ 

ركاب الملاكي المنكوبة بداخلها لا يُرى لهم أي تفاصيل ! انهرسوا فلم تعد لهم ملامح كان المنظر غاية في البشاعة ، عاد الركاب الى الميكروباص ، وانطلق السائق ولا تزال آثار الصدمة على وجهه  ،ووجوه  كل من معه في السيارة  ، طوال عمله على هذا الطريق شاهد الكثير من الحوادث  لكن هذه بالتأكيد كانت الأبشع .

     عند مدخل المدينة الباسلة أحس شعبان أنه على أعتاب دنيا جديدة ،  لكنه سرعان ما تذكر منظر الملاكي المنكوبة وقطع اللحم المتناثرة وبرك الدماء على الأسفلت، فتبخر على الفور حلم اليقظة الذي كاد يراوده في ثوان معدودة ،  تجول كثيرا في شوارع المدينة  ولو كان معه ما يكفي من المال لاشتري كل ما رآه ، فالأسعار هنا لا تقارن،  السلعة التي تباع في التجاري أو في باب الحرس في دمياط  بعشرين جنيها تباع هنا بأربعة جنيهات فقط  ! لم يسعفه ما معه من مال إلا في شراء دستة قمصان وبناطيل ولفة  صابون وزجاجة معطر منزلي،  تذكر أباه  لقد أوصاه بشراء شبشب حتى يرتديه في عمله فهو يعمل في قهوة اللؤلؤة  بجوار مكتب"  أبو طبل " للنقل  والشحن إنه يقف على قدميه ما يقارب اثنتي عشرة ساعة يوميا والشبشب سيريح قدميه ؛ قرر " شعبان "  أن يشتري اثنين فقال للبائع 

-         شبطين لو سمحت ! ..   

نظر إليه البائع بذهول ، وقال مستفهما 

-             شبه  ..  ..  شبه إيه  يا أستاذ ؟

-         الشبطين بكام  ؟  

-         مش فاهم حاجه يا ابني مين شبط في مين  ؟  

أمسك شعبان شبشبا معروضا أمامه واشار للبائع قائلا  

-         الاثنين ..  ..  بكام ؟  

-         اه  ..  ..  قصدك عايز شبشبين  !  

وضع شعبان دستة القمصان والبناطيل و الشباشب والصابون وزجاجة المعطر المنزلي ، وكل ما اشتراه أمامه على أحد الأرصفة وفكر هل يفك هذه الأكياس ويرتدي ما بها أم يحملها كما هي ، ماذا يفعل ؟! إنها المرة الأولى له ، ولا يدري ماذا يفعل  !! 

     علي مقربة منه شاهد المرأة التي كانت تجلس بجوار السائق إنها أمامه على نفس الرصيف، فوجئ بها تخلع العباية التي ترتديها .. .. اندهش وهو يراها تخلع عبايتها في الشارع هكذا أمام الناس! ثم رآها تفتح أكياسا كثيرة أمامها بها ملابس حريمي داخلية، و بدأت ترتدي حمالات الصدر فوق بعضها  ارتدت اكثر من خمسين حمالة صدر ! كما ارتدت قمصان النوم الشفافة !  ربما ارتدت أيضا ما يزيد على الخمسين من قمصان النوم و ..  ..  ..  وفي النهاية ارتدت عبايتها!  أصبحت المرأة  بدينة للغاية  ! وعرف " شعبان "  الآن لماذا تحجز كرسيين إن كرسيا واحدا لن يكفيها وهي على هذه الحال .

     كره شعبان كل أنواع التجارة؛  و قرر أن يضع كل ما اشتراه في شنطة بلاستيكية،  ويسير بها هكذا، و عندما وصل إلى موقف الميكروباص؛  سخر منه الراكب الذي يجلس بجواره قائلا :

-         ها يدفعوك جمرك كبير على الدستتين دول  ..  ..  فكهم والبسهم تحت هدومك وهتعدي من غير ولا مليم  !

-         هو جمرك الحاجات دي حوالي كام  .. ما تعرفش ؟

نظر الرجل متفحصا داخل الشنطة البلاستيكية ثم قال :

-         تقريبا..  ..  مائة جنيه 

صرخ شعبان

-         مائة جنيه !  بس انا ما فيش باقي معايا غير أجرة الميكروباص  !

-         يبقى تنزل بسرعه وتلبسهم تحت هدومك،  اتصرف قبل الميكروباص ما يتحرك  !

همَّ " شعبان " بالنزول لكنه لم يستطع كانت أمام باب الميكروباص خناقة بين السائق وبعض من يريدون الركوب وكان السائق يصيح بصوت مرتفع  :

-         ما فيش مُهرب يركب  معايا ..  ..  أنا مستعجل ومش ناقص عطلة ..  ..  اللي معاه  أي حاجة هتوقفنا في الجمرك مايركبش أنا مش ناقص يا جماعة  ! !

رد عليه بعض من يريدون الركوب وهو يمنعهم

-         الشنط دي عباره عن عيش وبعض الخضار والفاكهة   ..  ..  انت ليه بتعمل كده  .. احنا مش مهربين احنا ناس محترمين وبعدين احنا مستعجلين اكثر منك  ! 

هدأ  السائق ، وعندما اكتمل عدد الركاب؛ تحرك الميكروباص ولم يتمكن شعبان من النزول ظل في مكانه، وقال لنفسه :

-         لو صمموا على المائة جنيه ، أسيب لهم البناطيل والقمصان ويا دار ما دخلك شر .. ..  

تحسس بيديه الشنطة للتأكد من وجود الشبشبين فلم يكن ينوي أبدا أن يتنازل عنهما مهما حدث، دخل الميكروباص الجمرك أشار احد المفتشين للسائق بالنزول ،  ابتسم السائق وقال :

-         يا باشا الناس اللي معايا كلهم تمام ، صدقني يا سعادة الباشا  ..  .. دول طلبة  وراجعين من المعهد،  ودول عيلة كانوا بيزوروا قرايبهم، قاطعه المفتش :

-         انزل باقول لك !! 

وأشار للركاب بالنزول،  نزل الجميع؛  اصفر وجه " شعبان " وهو ينزل حاملا هذا الكيس البلاستيكي الكبير وتعثر، وكاد يسقط على الأرض، ولكنه فوجئ بأن أحدا لم يهتم به ! عدد كبير من موظفي الجمرك أحاطوا بالميكروباص وبدأوا يفككون أجزاء كثيرة كالمصابيح الأمامية والخلفية والإطارات و الكراسي وأرضية الميكروباص و ..  ..  ..

وبدأوا يخرجون البضائع المخبأة ،  واندهش الركاب جميعا  عندما رأوا أشكالا وألوانا من العطور والملابس والعلب والكراتين  يتم استخراجها من جسد الميكروباص، وملأت هذه البضائع المهربة مساحة من الأرض ليست بالصغيرة، اقترب أحد الركاب والذي كان يقسم منذ قليل للسائق أنه لا يحمل معه إلا أكياس عيش و خضار وفاكهة؛  وانهال على السائق ضربا وركلا حتى أصابه، وهو يشتمه ويسبه، وعلى الفور تدخل بعض موظفي الجمرك وأبعدوه عن السائق.

          بعد ما يقرب من نصف ساعة، وبعد أن قام الموظفون بتركيب أجزاء الميكروباص مرة أخرى ! أشار المفتش لهم بالركوب ، وقال للسائق :

-         توصلهم دمياط  ..  .. وترجع لي !

نظر السائق بحسرة إلى كومة البضائع الهائلة على الأرض، والتي أخرجوها من سيارته،  ثم ركب وهو يقول بخنوع، ومذلة  :

-         حاضر  يا باشا  ..  .. حاضر يا باشا !

عاد كل واحد الى مكانه ، فرح شعبان لأنهم لم يفتشوه ولم يتغرم مليما واحدا ، لاحظ  نظرة الحسد في عين جاره الذي قال له :

-         حظك في السحاب كان ممكن يدفعوك اكثر من مائة جنيه بس حظك نار  !!

الرجل الذي ضرب السائق وأصابه بكدمة في وجهه قال بغيظ :

  - قاعد تتنِّك علينا وتقول لنا أنا مستعجل ومش ناقص اللي معاه حاجه ما يركبش  معايا  ..  ..  وانت ما فيش خرم إبرة في العربية إلا وفيه بضاعة متهربة ..  ..  كل البضاعة دي يا ظالم  .. .. يا ظالم  !!

لم يرد السائق بكلمة ؛ المرأة التي بجوار السائق التفتت ، عرفها " شعبان " عندما رأى وجهها إنها نفس المرأة التي خلعت عبايتها  ووقفت في الشارع بقميص نوم شفاف لا يستر شيئا  ! إنها نفس المرأة التي ترتدي ملابسا تكفي لفتح محل او بوتيك ملابس حريمي ! !

ردت على الرجل الغاضب قائلة:  

-         بطل بقى يا عم  .. وسيبه في المصيبة اللي هو فيها   .. .. انت عارف ثمن البضاعة اللي خرجوها من العربيه دي كام ؟

فوجئ الرجل وهمَّ بالكلام لكن اثنين من الركاب أمسكا به من ذراعيه ، و توقفت السيارة ، ونزل السائق فنزلت المرأة خلفه مسرعة ، وهي تتشبث بملابسه بطريقة عجيبة ، وتصرخ فيه قائلة  :

-           والله يا   " ابو  نور " ما انت لامسه كفاية اللي احنا فيه خلينا نعرف نفكر هنخرج ازاي من المصيبة دي  !

صرخ السائق في الركاب آمرا :

-         انزلوا مش عايز حد في العربية !  

نزل الجميع ؛ " شعبان " والراكب الذي بجواره ، والراكب الذي ضرب السائق ، و رجل وزوجته وابنته ، ثم ركب السائق وركب الباقون معه ، وبينهم بوتيك الملابس المتنقل قبل ان تنطلق السيارة ،  وقد تركتهم في منتصف الطريق بالقرب من قرية " شطا "  قال الراكب الغاضب وبعصبية شديدة :

-         أكيد دول عصابه تهريب ..  ..  السواق مش لوحده دول عصابه كبيرة .. الله ينتقم منهم !     

تساءل الرجل الذي يصطحب زوجته وابنته معه :

-         طيب هنعمل ايه دلوقتي الليل نازل واحنا في نص الطريق .. ..  يا ريته حتى كان نزلنا في " شطا " كنا عرفنا نركب ونروح بلدنا !

ابتلعهم الصمت والظلام وظلوا واقفين قريبا من الأسفلت، يلوحون للسيارات المنطلقة بسرعة الصاروخ ، المنطقة نائية مقطوعة وغير آمنة وأي سائق مهما أخذته الشهامة ،  سيتردد ألف مرة  قبل ان يتوقف في هذا المكان ، كما أن كمائنا  كثيرة على هذه الصورة يقوم بعملها المجرمون والبلطجية في هذا المكان لإيقاع السائقين وسرقة أموالهم وسياراتهم وأحيانا تنتهي بقتل السائق وإلقاء جثته للكلاب والذئاب المنتشرة في هذه المنطقة المهجورة ،  رغم ذلك فإن بعض السيارات الملاكي كانت تهدئ من سرعتها لاستيضاح الأمر؛  لدرجة أن إحداها توقفت و كان فيها مكان لشخص واحد فقط ، فركب فيه الرجل العصبي ! كان يسب ويلعن ، الرجل الذي كان يجاور شعبان في الميكروباص أمسك بذراعه ، وحاول أن يقنعه أن المرأة وابنتها أولى منه بهذا المكان  ، لكن الزوج  رفض أن يترك زوجته وابنته وحدهما في السيارة مع رجال غرباء فانطلقت السيارة ،  ثم توقفت بعد ذلك سيارة ربع نقل محملة بالبضائع ، وكان في الكابينة السائق وشخص اخر ، ولم يكن المكان يتسع إلا لشخص واحد ، وهنا وبدون كلمة واحدة قفز الرجل الذي كان يجاور شعبان في الميكروباص وركب إلى جوارهما ، و انطلقت السيارة وبقي"  شعبان " والأسرة الصغيرة ؛ الزوج والزوجة وابنتهما ، ارخى الظلام سدوله واكتست الدنيا بالسواد فلم يكن في السماء في تلك الليلة قمر أو نجوم ،  كانت الغيوم تغطي القبة الزرقاء فلا يبدو فيها شعاع ضوء واحد!  وحدها كشافات و مصابيح السيارات المنطلقة على الطريق كانت تكشف وجود هؤلاء المساكين الاربعة .

     أخيرا توقفت سيارة ميكروباص متجهة ناحية دمياط  كان فيها مكان لشخصين فقط ومع ذلك تلاحم هؤلاء الأربعة بطريقة عجيبة وحشروا أنفسهم داخلها ، عندما بدأت اصوات غريبة تصك آذانهم  ! لايدرون أهي أصوات نباح كلاب ام عواء ذئاب !

     عندما عاد " شعبان " ألقي جسده في الفراش وظل فيه يومين من هول ما رأي، بعد ذلك ذهب الى السوق ، وباع القمصان والبنا طيل كان مكسبه كبيرا جدا  ؛ إنها فعلا تجارة تشبه تجارة المخدرات في مكسبها ، ومع ذلك قرر ألا يعود إلى "بورسعيد" مرة أخرى حتى ولو اضطره هذا إلى ان يعمل بقية عمره زبالا ! 

     وبخه أبوه الذي كان يطير من السعادة ، وهو يرتدي هذا الشبشب الخفيف المريح الذي اشتراه له ابنه ، وقال بسخرية وامتعاض :

-         طول عمرك فقري زي ابوك الفرصة تجيلك لحد عندك وترفسها  ..  .. ترفس النعمة وتدوس عليها !

لكن " شعبان "  أقسم ألا يعود الى " بورسعيد"  واتجه الى  " رأس البر"  كان الصيف قد بدأ والعمل هناك في هذا الوقت مربح الى حد كبير،  سألته أمه قبل ان يذهب :

-         هتشتغل ايه يا شعبان يا ابني؟

تلعثم فلم يكن يعرف فعلا ماذا سيعمل في " رأس البر"  لكنه كان يعرف جيدا ان أبواب العمل في هذا الوقت مفتوحة وكثيرة

-         والله يا أمي الشغل في المصيف كتير واليومين دول موسم فيه واحد صاحبي بيشتغل في كازينو على النيل هاشتغل معاه

-         ربنا يوفقك يا  " شعبان " روح يا ابني قلبي وربي راضيين عنك باذن الله ربنا ينجيك وترجع لنا سالم غانم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2

 

موقف رأس البر في الناحية الأخرى من النهر، فضل أن يمشي ويعبر الكوبري العلوي بدلا من ركوب السرفيس أو المعدية ، إن المشي سينعش تفكيره ، فهو حتى الآن لا يعرف فيما سيعمل ! الشغل في رأس البر كثير على البحر ، وعلى النيل ، وفي السوق ، وفي الكازينوهات ، والمقاهي ، والمطاعم المنتشرة ، لكنه حائر يتساءل ماذا سيشتغل !

وهو فوق الكوبري شاهد في الأسفل مجموعة من الصبيان يستحمون في مياه النيل ، بالقرب من الجسر الخشبي الذي تتوقف عنده المعدية ؛ إنه يبدو كلسان صغير يمتد بضعة أمتار داخل الماء ، تذكر أنه لا يعرف العوم ، يكاد يتم الثالثة والثلاثين ، ولا يستطيع السباحة !

تذكر أشياء كثيرة كان يحاول نسيانها ، وكلها تبدأ بالكلمة (لم) ؛ أخذ يردد :

-  لم أكمل تعليمي رغم أن مجموع الثانوية العامة كان ممكن يدخلني أحسن كلية ، و اضطررت بسبب فقري أن أدخل المعهد الفني التجاري !ولم أعين في وظيفة ، ولم أدخل الجيش ؛ لأنني وحيد أبي وأمي ، ولم أفتح ورشة أو محلا ، ولم أتزوج و أدخل دنيا

تساءل بدهشة :

 - يعني إيه ما دخلتش دنيا .. .. يعني أنا ميت ولا إيه معناها ؟!

سمع وهو مازال يسير علي الكوبري أحد المارة يقول لصاحبه ، بينما هما قادمان في الاتجاه المعاكس

- يا أخي كنا احنا يا مصريين بنسافر العراق ، ونشتغل ونكسب دهب .. .. دلوقتي العراق بقى خرابة  ! الأمريكان دمروه .. .. خلاص منجم الدهب اللي كان مفتوح لنا نغرف منه ونيجي بلدنا نشتري أراضي ، ونبني عماير، ونعيش ملوك ، المنجم ده خلاص شطب !

رد عليه زميله قائلا

- المنجم ما خلصش .. .. تقدر تقول إن الأمريكان استولوا عليه ، الذهب كله بقى بتاعهم

قال الأول بمراره واضحة :

 - يا حسرة قلبي على العراق , وعلى خير العراق .. .. ده أنا لولا السنتين اللي قضيتهم هناك كان زماني شحات زي الشيخ المسن اللي قاعد بيشحت على سلم الكوبري ده !

ضحك زميله وقال له :

- احمد ربنا بقى إنك طلت حاجة من خيره  .. .. قبل اللي حصل ده ما يحصل .

كان صوتهما يذهب شيئا فشيئا كلما ابتعدا في الاتجاه الاخر ، وتوقف شعبان فقد وصل الى السلم في الطرف الاخر من الكوبري ، كان على وشك النزول ، لكنه توقف ونظر وراءه وتابع الرجلين ، وشرد ببصره لحظات ، فقد تذكر أنه واتته الفرصة للسفر الى العراق مع خاله ، لكن أمه رفضت بل ومرضت مرضا شديدا في ذلك الوقت عندما علمت أن ابنها سيسافر ؛ ويبتعد عنها مع أنه كان سيسافر مع اخوها ! هز رأسه ، وقال باستسلام كأنما يصبر نفسه :

- نصيب .. .. نصيب ولعله خير .. .. و الحمد لله على كل حال -

ركب شعبان متوجها إلى رأس البر ، نبههم السائق أنه سيتخذ الطريق القديم ، وليس الطريق الجديد الموازي للنيل ، جلس " شعبان " في المقعد الاخير ، وسبقته فتاتان ترتديان ملابس ضيقة ، وملفتة للنظر ؛ قال في نفسه :

-  يمكن غلابه زي حالي و رايحين يشتغلوا في كازينو ، ولا مطعم .. .. الدنيا مظاهر .. .. مظاهر كدابة !

كان الطريق من الموقف وحتى نقطة مرور السنانية طريقا عاديا على جانبيه اصطفت المباني والبيوت، وسور محطة القطار ، وبمجرد أن عبرت السيارة نقطة المرور أصبح الطريق زراعيا تصطف على جانبيه أشجار النخيل والصفصاف والجزورينا ، وعلى امتداد البصر بساتين الجوافة و الليمون ، و أحيانا كانت تبدو بوضوح أشجار الجميز والتوت والبامبوظة ، ألوان شتي تطل على العابرين من على الصفين و في منتصف المسافة ، و بالقرب من كوبري العمدة أصبح الطريق يتوسط ترعتين عن الشمال ،وعن اليمين نظر شعبان في ساعته فوجد عقاربها تشير الى التاسعة صباحا قال في نفسه :

 - هانت .. .. كلها ربع ساعة ، ونبقى في " رأس البر" وهناك يحلها ربنا إن شاء الله أشتغل.. .. أشتغل أبيع لب ، أو ترمس ، أو حتى بطاطا ، اكيد ها لاقي شغل أكيد !

على امتداد الطريق مطبات كثيرة ، و الكرينة مفروشة على الأسفلت والسيارات تعبر من فوقها على مرمى البصر جهة الشمال يشق المساحة الخضراء صرح أبيض شامخ مؤكد أنه مدرسة ، وعلى مسافة منها الأوناش العملاقة داخل سور الميناء ، و الناقلات والسفن الضخمة التي تبدو من بعيد صغيرة جدا وكأنها لعب !

استسلم شعبان لغفوة قصيرة جدا ، رأي خلالها طيورا بيضاء عملاقة تهبط من السماء ، وتخطف كل من بداخل السيارة ، تذكر ان أمه أوصته قائلة له :

-  يا ابني انا ما عنديش غيرك .. .. خذ بالك من نفسك ما تقربش للبحر ولا حتى من الترعة ، زمان وانت لسه صغير، كنت بحميك في الطشت ، وفي مرة سبتك فيه وقمت أفتح الباب لأبوك ، ورجعت لقيتك بتغرق كنت ها تموت يا ضنايا

اختطفت الطيور جميع من في الميكروباص وحتى الفتاتين لدرجه أنهما تشبثتا به ، ولكنه لم يستطع إنقاذهما ! كان لا يزال يحس برد يديهما في يده ! كان مذعورا جدا .

بعد ثوان معدودة أفاق، لكنه كان خائفا جدا من الكابوس الذي رآه منذ لحظات ؛ كما أنه أفاق على خناقة بين السائق وأحد الركاب؛ سمع السائق يقول :

 - مراتك في البيت مش في عربيتي ، شيل إيدك من عليها لو سمحت و إلا ها وقف العربية !

في إيه يا أسطى ما قلت لك الست دي مراتي .. .. مراتي ! -

 - مراتك تبوسها كده علنا قدامنا انت إيه ؟!

-  وفيها إيه يا أسطى ما تخليك فيريه !

 - في إيه قصدك إيه يعني .. .. أركب قرنين انت مفكرني إيه ؟!

رفع الرجل ذراعه عن المرأة التي كانت ملتصقه به ، وقال :

خلاص يا أسطى خلاص بص بقى قدامك خلي عينيك على الطريق .. .. لتضيعنا -

ذهل " شعبان " مما سمع ، و نسي حلمه القصير المفزع ، ولكنه كان ما يزال يشعر ببرودة في يده

فنظر فإذا الفتاة الملاصقة له تمسك بيده بالفعل وتبتسم له ! نزع يده من يدها ، ووضع الشنطة البلاستيكية التي تحتوي على طقم داخلي وآخر خارجي وبعض أدواته الشخصية ، وضعها بينه وبينها حاجزا ، وأخذ يردد بينه وبين نفسه وبصوت لا يسمعه احد :

- أستغفر الله العظيم .. .. أستغفر الله العظيم ! -

هم بأن ينادي على السائق حتى يتوقف فينزل من السيارة ، لكنه لمح وهو غارق في بحر من الارتباك والعرق جيب قميصه خاليا زاد ارتباكه ومد يده إلى الجيب هذا الجيب كان فيه اربع اوراق من فئه الخمسين جنيه ملفوفة مع بعضها أين ذهبت ؟!

أحس بذراع تطوق رقبته إنها ذراع الفتاة الجالسة بجانبه، نظر إليها بتجبهم كان على وجهها نفس الابتسامة ، ابتسامة صناعية، همست في أذنه :

-  انت بتدور على دول .. .. يا عسل ؟!

فوجئ بالأربع ورقات التي يبحث عنها في يدها الأخرى حاول أن يقوم من مكانه ، أن يصيح و يصرخ فيجعل السائق يوقف السيارة ، لكن القدر لم يمهله ففي نفس الوقت عبرت سيارة ملاكي بجوار الميكروباص بسرعه جنونية ، واصطدم جانبي السيارتين فحادت الملاكي عن مسارها واصطدمت بشجرة ضخمة على جانب الطريق أما الميكروباص ففقد السائق سيطرته عليه ، فانحرف عن الطريق، وسقط في الترعة ؛ امتلأ قلب شعبان خوفا وهلعا ، عندما لمست مياه الترعة جسده لقد ملأت المياه الميكروباص في ثوان معدودة اندفع جميع الركاب نحو الباب للخروج والنجاة بأنفسهم لكن بلا جدوى ، ورغم أن الشمس كانت مشرقة والحادثة وقعت في بداية النهار إلا أن المفاجأة شلت الجميع فالركاب بعضهم فقد الوعي بعد سقوط السيارة في الماء وكان من بينهم السائق و الراكبان اللذان بجواره ، فقد ارتطمت رأسه بقوة في المقود فشجت وسالت منها الدماء، والبعض الآخر تسابقوا إلى الباب ليفتحوه ونتيجة تدافعهم أخطأ أحدهم وبدلا من ان يفتح الباب ، اغلق المسوجر؛ فانحبسوا جميعا داخل الميكروباص الذي غاص بدوره في القاع بسرعة عجيبة ، واختفى تحت المياه والحشائش الخضراء !

توقفت بالقرب من مكان الحادث سيارتان ، ونزل من فيهما وخلع أحد الرجال ملابسه الخارجية، ونزل الترعة بحذر شديد ، وغاص لعله يتمكن من إنقاذ الركاب دار حول الميكروباص ، شاهد من فيه وهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة حاول ان يفتح الباب لكنه لم يستطع صعد للسطح أكثر من مرة ليأخذ نفسا ثم يعود حاول أن يكسر زجاج النوافذ؛ أن يفعل اي شيء لكنه لم يستطع إلا أن يشاهد استغاثتهم وتوسلاتهم قبل أن تخشع الأصوات وتخمد الحركات !

صعد إلى السطح بعد أن نفد الهواء من صدره أشار لبعض الواقفين على البر إشارة تعني أنه لا يوجد ناجون ، أحس أن شيئاً يلتف حول ساقيه بل وأخذ يشده إلى الأسفل !وجد نفسه يغوص ثم يطفو ثم يغوص ثم يطفو رغماً عنه فصرخ مستنجدا بمن على البر

- الحقوني .. .. الحقوني !

في المرة الأخيرة جذبه ذلك الشيء المجهول الى الأسفل بقوة كبيرة ؛ فغاص رغما عنه ، دار حول نفسه وهو في غاية الذعر، فرأى ذراعين ممدودتين من داخل إحدى النوافذ ، وقد أمسكتا بكلتا ساقيه واستماتت في جذبهما مد الرجل ذراعيه هو الآخر وأمسك بهذا الشخص الذي كان لا يزال حيا جذبه إلى أعلى بكل قوته .

بعد قليل كان "شعبان" ممددا على البر وأحد الأشخاص يحاول إخراج المياه التي ابتلعها في جوفه التف الناس حوله وكانوا جميعا في غايه التأثر ، وفي نفس الوقت الذي وصلت فيه سيارات الإسعاف وسيارات النجدة وصلت كراكتان ورأى الناس الموجودون عدد من الغواصين ينزلون الى المياه ، تم انتشال جميع الجثث كما تم رصها على ناحية من الطريق وتأكد أحد الأطباء من وفاتهم جميعا

كان" شعبان " قد أفاق ، و شاهد بعينيه الركاب الذين كانوا معه منذ قليل، شاهدهم ممددين وعيونهم لا تزال مفتوحه رأى السائق ورأى الفتاتين اللتين كانت تجلسان بجواره نسى الأربع ورقات من فئه الخمسين جنيها التي استولت عليها إحدى هاتين الفتاتين أنساه مشهد عينيها كل شيء إنهما لا ترمشان ، فقط تلمعان ! ولكن اختفي منهما بريق الحياة ! كاد يفقد وعيه ، لدرجة أنه بدأ يظن أنه من ضمن هؤلاء الأموات وأن روحه تحلق فوق جثته ، لولا أن سمع أحد المسعفين يقول لزميله وهو يشير نحوه :

-  ايوه .. .. هو ده الناجي الوحيد !

في مستشفى دمياط التخصصي تحولت المنطقة الخلفية من المستشفى والموجودة بين المغسلة ومعهد الأورام إلى ساحة مزدحمة بالناس، و ساد الهرج والمرج ! هذه المساحة الصغيرة احتشدت فيها أعداد كبيرة من أقارب الضحايا ؛ صراخ وعويل ونواح كل هؤلاء اجتمعوا على أمر واحد وهو البكاء ، اللغة السائدة بينهم هي الدموع ؛ والحزن يغلف كل شيء بغلاف أسود بدأت الألسنة تنفلت ببعض العبارات التي فضحت ما كان مستورا فالفتاتان كانتا تنتميان إلى شبكة آداب ، وكانتا في طريقهما لممارسة الرزيلة والرجل الذي قبل المرأة التي كانت ملتصقة به ، وادعي أنه زوجها لم يكن إلا عشيقها ! إنهما موظفان في مصلحة من المصالح الحكومية ذهبا ووقعا في كشف الحضور ، ثم تسلل كل منهما على حدة وخرجا، وركبا معا الميكروباص في طريقهما الى المتعة الحرام !

حكايات عن العرض والشرف بدأت تتناقل على الألسنة ألهبت المشاعر التي كانت مشتعلة بالفعل فتحول المأتم الكبير الى معركة كبرى ، وبدأ التشابك بالأيدي والأسلحة البيضاء بين رجال ونساء وشباب ربما بعضهم لا يعرف البعض الآخر ولم يره من قبل، حتى اضطرت إدارة المستشفى إلى طلب قوات الأمن لفض هذه المشاجرات والمعارك وإخراج الأهالي جميعا خارج سور المستشفى !

الوحيد الذي لم يحضر أهله ، بل ولم يعلموا أصلا بما حدث هو" شعبان " فقد رفض أن يعطي عنوانه لأحد ؛ كما أخبرهم أنه سليم وأنه لم يصب باي سوء فما الداعي لإزعاج والديه ! إنهما مسنان ومريضان ولن يتحملا سماع مثل هذا الخبر، لذلك بعد ان انتهي من علاج إصاباته البسيطة ومن سؤاله كشاهد على ما حدث انصرف وغادر المستشفى لائذا بالبيت ، فوجئت أمه وهي تفتح له الباب ، كان يرتدي ملابسه الأخرى التي كان يحملها معه في الكيس البلاستيكي ورغم ذلك كانت تشعر أنه قد عاد بوجه غير الذي ذهب به ضربت على صدرها وهي تسأله بخوف وقلق :

- مالك يا شعبان وشك متغير كده ليه يا ابني .. .. و غيرت هدومك ليه ؟!

لم يخبرها بشيء ، احتضنته كعادتها دائما عندما يعود إلى البيت او يغادره ، كان أبوه جالسا على الأرض على مقعد بلاستيك صغير لا يبدو منه شيء وأمامه طبلية عليها بعض الأرغفة المدعمة وقطعة جبن وطبق به سلطة خيار وطماطم قال أبوه :

 - خير يا ابني اشتغلت ؟!

تمالك شعبان أعصابه وقال لأبيه :

 - الشغل كثير يا بابا بس .. ..

- بس إيه يا ابني .. .. بس ايه ؟!

- بس أنا غيرت رايي !!

- يعني إيه ؟!

- ها شتغل هنا .. ..

-  ها تشتغل هنا .. .. ما انت اشتغلت هنا وما فلحتش .

-  لا المرة دي إن شاء الله ها فلح !

ضحك أبو شعبان ملء فمه وقال :

- صدق اللي قال الكتكوت الفصيح من البيضة بيصيح يا ابني انت حظك وحش زي حظي !

ابتسم" شعبان " لأول مرة منذ وقعت الحادثة ، وقال :

 - لا يا با أنا مش معاك في دي والحمد لله على كل حال احنا أحسن من غيرنا يابا .

اندهش الرجل من كلام ابنه فلم يتعود منه كل هذه الحكمة واستسلم قائلا :

-  عندك حق احنا أحسن من غيرنا الحمد لله يا ابني !

أخفى شعبان كل ما حدث له عن والديه ، لأنه كان يعلم مدى حبهما له فهو وحيدهما لقد رفض حتى أن يعطي عنوانه لإدارة المستشفى ، حتى لا يتصل بهما أحد ويخبرهما شيئا عن الحادثة كما غير ملابسه حتى لا يشعرهما بأي شيء كانت أمه مصرة على أن نعرف سبب تغيير ملابسه فقال لها ليطمئنها

- نزلت البحر واستحميت .. .. حد يروح رأس البر وما ينزلش البحر

اندهشت وقالت له متعجبة وهي متأكدة أنه يكذب عليها

انت رايح تدور على شغل ولا رايح تستحمى -

تلعثم وبعد تفكير قال له:ا

 - يا أمي أنا جاي تعبان وعايز أنام وأرتاح

قاطعه ابوه قائلا له:

 - ها تنام من غير ما تتعشى ده انت وشك مخطوف زي اللي راجع من الموت !

ضربت الأم صدرها بيديها ، ونهرت زوجها ، وقالت له :

-  حرام عليك يا أبو شعبان دي الملافظ سعد، هو صحيح هفتان شوية بس اوعى تقول الكلمة الوحشة دي ثاني هنا ألف ألف بعد الشر عليه هو احنا حيلتنا غيره .

قعد شعبان بجوار أبيه، وتناول رغيفا من على الطبلية، و بدأ يأكل؛ إنه منذ الصباح وهو على لحم بطنه، لم يذق حتى الماء ! وشرب مياه الترعة بما فيها من وحل ، ونباتات طافية خضراء تشبه حبات العدس ، توقف عن الأكل فجأة ، وكاد يتقيأ عندما تذكر أجساد الموتى المرصوصة على الأرض ، وعيونهم المفتوحة اللامعة ، ورائحة الموت التي لا تزال تزكم أنفه فنهض ولم يكمل طعامه ، كان والداه يشعران أنه ليس على ما يرام ، لكنهما تركاه يرتمي في فراشه ، وينام ليستريح !

قالت الأم ، والدموع تبلل عينيها

 - يا حبيبي يا ابني ربنا يفرجها عليك بشغلانة تريح قلبك وتطيب خاطرك !

ربت الأب على ظهر ابنه الذي غرق في نوم عميق ، وكأنه لم ينم منذ شهور وقال :

 - يا ريت يا ابني كنت أقدر أساعدك بس أعمل إيه اللي جاي على قد اللي رايح ، واقف على رجلي في القهوة 12 ساعة كل يوم ، والأجر على قد مصروف البيت .. ..

-  ما تقولش كده يا أبو شعبان انت برده الخير والبركة وبكره شعبان ربنا يوفقه ويشتغل في شغلة كويسة ويسعدك ويبقى سندك .

 - نفسي أطمئن عليه اللي زيه كلهم اتجوزوا وخلفوا وفتحوا بدل المصلحة اثنين وثلاثة أنا مش عارف فيه ايه هو إبني ايه اللي بيه ؟!

 - بكره تتعدل يا عم ارمي حمولك علي الله إن شاء الله بكره ها يبقى أحسن ونفرح بيه وبخلفته !

 - صعبان علي ابننا مش سهل علي أشوفه متلطم كده في بورسعيد و رأس البر، وحتى هنا في بلده يا ريتني ما دلعته وهو صغير، يمكن دلعنا فيه وهو صغير هو اللي مخليه مايثبتش في شغلانة

كفايه كده يا أبو شعبان أنت تعبان وشقيان ومش حمل زعل وهو انت بإيدك إيه تعمله وما عملتوش -

 - والله ما أنا عارف حاسس إني مقصر في حقه

قول الحمد لله إحنا أحسن من غيرنا وكل حي بياخد نصيبه -

 - الحمد لله الحمد لله على كل اللي ربنا يجيبه وعلى رأيك أهو أنا بتعكز و أشتغل إنما فيه ناس ثانية راقدة ولا قادرة تروح ولا تيجي

ربنا ما يقطعنا -

امين امين يا رب -

والله أنا مستبشرة خير وحاسة إن ابننا شعبان ربنا هايجبر بخاطره وهايبقى حاجة كبيرة قوي -

ابتسم الرجل وقال وهو ينظر لها ثم لابنه النائم :

- ربنا يسمع منك .. ..

انصرف الاثنان وذهبا إلى فراشهما، وتركا شعبان الذي كان يغط في نوم عميق .

 

 

3

 

   عندما استيقظ من نومه ، أحس بوخز شديد في جانبه الأيسر ، تحامل على نفسه حتى لا يزعج والديه الكبيرين،  نظر في ساعته فوجدها  تشير الى الخامسة مساء ! تعجب من نفسه ، فقد ظل نائما ما يقرب من عشرين ساعة كاملة !

     أثناء نومه أشفقت عليه أمه ، و فضلت عدم إيقاظه ، وتركته ليأخذ حظه من النوم ، لكنها بمجرد أن عرفت أنه قام من نومه ؛ أعدت له غذاءه ووضعته على الطبلية ! تظاهر أمامها أنه بخير ؛ و ليؤكد لها ذلك ؛ جلس وأخذ يتناول بعض الطعام الذي كان عبارة عن أرز وسمك مشوي ، دعاها لتأكل معه ، وهو يعرف أنها لن تمد يدها إلى الطعام إلا عندما يعود أبوه ، هو نفسه في الظروف العادية كان ينتظر عودته ؛ حتى يجتمعوا حول الطعام ، لكنه كان يعرف أنه في العمل  ، و أنه لن يعود منه قبل ساعة ؛  فهو يعمل من السادسة صباحا حتى السادسة مساء ! تعودوا تناول الغداء مع غروب الشمس بسبب طبيعة عمل والده ! وربما بسبب ذلك لم يكن أبدا يشعر بأي معاناة في صيام شهر رمضان !

     نجح في أن يخفي عنها ما يشعر به من آلام تلهب جانبه ، بل و أقنعها أنه أكل حتى شبع  ؛ وخرج تكلله دعواتها له بالتوفيق .

     بعد قليل كان في إحدى غرف الطوارئ بالمستشفى الأميري المواجه لمبنى المحافظة ، لقد كره أن يتوجه الى طوارئ المستشفى التخصصي الذي كان فيه بالأمس هو وحوالي أربعة عشرة  جثة كانوا هم ضحايا الميكروباص الغارق ، انتظر طويلا حتى جاء الطبيب ليكشف عليه كان طبيب امتياز صغير السن ! بعد أن كشف عليه كتب في تذكرة الدخول اشتباه زائدة دودية ،  وأعطي التذكرة  لممرضة ،  لتقوم بإجراءات الحجز ! عرف من حديث الطبيب مع الممرضة أنه سيحجزه داخل المستشفى لإجراء عملية الزائدة الدودية ،  اندهش شعبان وقال بينما كان الطبيب قد انصرف الى حالة أخرى

-         هي الزائدة مش بتبقى في الجنب اليمين  ؟!

سألته الممرضة وهي تبتسم ابتسامه باهتة

-         هو انت تعبان مالك ..  ..   حاسس بإيه  ؟!

ضحك رغم الألم الشديد الذى يشعر به في جانبه الأيسر ،  وقال  :

  -  أنا صحيت من النوم لقيت جنبي الشمال ..  ..  واخدة بالك  ..  .. جنبي الشمال بيوجعني  ..  ..  جنبي الشمال مش اليمين حضرتك  !

لمح طبيب آخر يعبر من أمامه ، كان يبدو أكبر سنا من الأول ؛  فاستوقفه وسأله بلهفة   :

  -  لو سمحت  ..  ..  لو سمحت هي الزائدة  في الجنب الشمال ولا اليمين   ؟ 

أجابه بسخرية واضحة  :

  -  في اليمين طبعا ..  ..  معقوله انت مش عارف ، مع إن شكلك متعلم  !!

لم ينتظر الطبيب ليسمع رده ! إنهم لا يتوقفون ؛ فغرف الاستقبال مكتظة بحالات كثيرة ، وكل لحظة يستقبلون الكثير من الحالات ، وبعضهم حالات صعبة جدا ! اقتربت منه الممرضة ومعها تذكرة الدخول والحجز ، وطلبت منه أن يذهب معها لإتمام عملية حجزه في المستشفى  وجد نفسه يقوم من على السرير الذي كان راقدا عليه ،ويقول لها

  -  أنا بقيت كويس .. ..  الحمد لله جنبي بقى تمام !

لم ينتظر حتى يرى علامات الدهشة التي ارتسمت على وجهها ، وخرج مسرعا يطوي الممر الذي أمامه ، وعندما عبر بوابة المستشفى ، وخرج ،  قال بصوت عالي كأنما يخاطب الطريق أمامه :

 _  اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ..  ..   يااااااااااه  ..  .. فعلا الداخل مفقود والخارج مولود  !

     خرج من الباب ،  ووقف على الرصيف يحاول أن يستنشق أكبر كمية من الهواء العليل من هواء النيل ، كان يريد أن يُخرج الهواء الذي استنشقه داخل المستشفى ! كان يشعر أنه هواء غير صحي !

     شيئا فشيئا خفت حدة الألم ، وأحس أن جانبه يتحسن بصورة عجيبة أشبه بالسحر! هل كان في حاجة إلى جرعة من الهواء النقي ليشفي جانبه ، أم أنه شفي بإيحاء منه عندما قال للممرضة أنه لم يعد يشعر بأي ألم ! المهم أنه بالفعل لم يعد يشعر بأي ألم .

     وهو يقف على الرصيف كان مبنى المحافظة أمامه مباشرة ، يفصل بينه وبين النيل، تذكر عندما شاهد هذا المبنى لأول مرة  ، حدث هذا عندما كان في السادسة من عمره أي منذ سبع وعشرين سنة و كان بصحبة أبيه داخل حنطور ، في طريقهما إلى المستشفى لعلاجه من عضة كلب، تحسس يده فقد كانت آثار الجرح لا تزال موجودة على معصم يده من الجانبين ، لقد ظل أبوه يصحبه الى المستشفى أكثر من عشرين يوما ؛ ليأخذ الحقنة حتى لا يصاب بداء الكلب !

      هذا المبنى الذي أمامه ما زال كما هو لم يتغير ! مات الكثير، وولد الكثير ، و تغيرت أشياء كثيرة ، ومازال هذا البناء على صورته الأولى لدرجة أنه يشعره وهو ينظر إليه أنه يريد أن ينقض ! عبر الطريق واقترب منه حتى أصبح يقف على رصيفه ، شعر أن المبنى يستغيث به ، تعجب ،  لقد قاموا بترميمه ودهانه وها هي الأعلام تزينه وترفرف على أبوابه ونوافذه حتى أكوام القمامة التي كانت قديما تنال من هيبته ومن صورة حديقته القريبة اختفت ،ولم يعد لها أثر؛ فالمحافظ الجديد كالغربال الجديد له شدة ، وأي شدة ! فلماذا يستغيث المبنى ، ومما يستغيث  إنه بعد ترميمه يبدو كالجديد ! سمع هاتفا يهتف به ، ومن العجيب أنه كان يأتي من أعماقه ، كان يقول له  :

 -  أيها المخدوع إياك أن تصدق كل ما تراه عيناك ،فكل ما حولك ليس إلا فالصو  !

اندهش وظن أنه أصيب بهلاوس  سمعية ، ربما بسبب الأشياء الخضراء التي دخلت جوفه مع ما ابتلعه من مياه الترعة أمس !

          وقعت عيناه على عدد كبير من الكراتين كبيرة الحجم إنها مرصوصة فوق بعضها  على رصيف مبنى المحافظة ، فتح كرتونة ونظر بداخلها فإذا دفاتر وأوراق وسجلات ومحاضر إنها اوراق في غاية الأهمية ! لماذا وضعوها هكذا على الرصيف ؟! ربما أخرجوها مؤقتا حتى يستطيعوا تنظيف الغرف والمكاتب جيدا ، وبعد ذلك سيعيدونها الى مكانها في الأدراج والدواليب داخل المكاتب !

     اختفت الشمس في الأفق البعيد ، وبدأ الظلام يخيم على المكان ، وفي هذا الوقت تصبح هذه المنطقة مهجورة  بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، لا ترى في المكان إلا المترددين على المستشفى الأميري من المرضى وأقارب المرضى أما مبنى المحافظة فحتى الحرس يكونون جميعا في الجهة الأخرى من المبنى أمام البوابة الرئيسية المواجهة  للنيل !

      أغراه فضوله بأن يمد يده مرة أخرى داخل الكرتونة التي فتحها منذ قليل ، سحب أحد الدفاتر، فتحه وبدأ يقلب صفحاته إنه دفتر حضور وانصراف موظفي التنظيم والإدارة ! أعاده مكانه و التقط دفترا آخر فوجده يخص ميزانيات ورواتب الموظفين في المجلس المحلي ! أمسك بعض الأوراق والملفات فوجدها تضم بيانات العاملين بمبنى المحافظة ! أعاد الأوراق إلى مكانها في الكرتونة ، و أعاد الشريط اللاصق عليها كما كان تقريبا

    سمع صوت أقدام تقترب شلت المفاجأة قدميه ؛ فلم يستطع أن يتحرك في أي اتجاه ، هربت الدماء من عروقه ؛ فمن رأى وجهه وهو على هذه الحال ظن أنه أصيب بالصفراء ! كان وسط صفوف الكراتين فلم يره الرجلان اللذان اقتربا  ، وتوقفا أمام صفوف الكراتين التي ترتفع ما يقرب من المترين !  قال الأول لزميله   :

 -  العربية تأخرت قوي همه مش خايفين على نفسهم ولا إيه  ؟

رد عليه الآخر بتوتر واضح :

 -  مشكلة كبيرة  لو الباشا عدى من هنا و شاف المنظر ده وانت عارف ..  .. معاليه  ما بيخصمش يوم و لا حتى أسبوع

هز الأول رأسه مصدقا على كلام الآخر ؛ وقال :

 -  أيوه ما فيش على لسانه إلا خصم شهر أو شهرين يا راجل ده خراب بيوت  ..  ..  خراب مستعجل  !

تساءل الآخر ، وكأنه يسأل نفسه وليس صاحبه  :

 -  طيب نعمل إيه نشيلهم إحنا على أكتافنا لحد محرقة الزبالة اللي بعد مدينة شطا 

 -   ربنا يستر والعربية توصل ، وتشيلهم  ، ونخلص من الهم ده  !

انصرف الرجلان ، وغابا داخل المبنى  ، بينما كان شعبان متجمدا بين الكراتين كالتمثال ، تعجب مما سمعه ، وقال في نفسه :

  -  محرقة الزبالة..  .. الأوراق المهمة دي زبالة   !

لمح شعبان سيارة ربع نقل تهدئ من سرعتها أمام المطب ، بدون تردد أشار للسائق  ، فتوقف على الفور ، وجد نفسه يسأله  : 

 -  فاضي يا أسطى 

هز السائق رأسه بالإيجاب ، وسأله بدوره  :

 -  معاك إيه ؟

بدون أن يتفوه بكلمة أشار إلى الكراتين ؛ فما كان من السائق إلا أن نزل ، وبدأ في تحميلها ووضعها في صندوق السيارة ، وشعبان واقف في مكانه كأن على رأسه الطير، انتهى السائق ودخل كابينة السيارة ، وأشار له بالركوب ؛ فألقى بنفسه داخل الكابينة ، و انطلقت السيارة بهما !

      كانت قديمة جدا ؛ لدرجة أن صوت الموتور كان عاليا جدا كمريض يصرخ من الوجع ، وكانت تهتز بطريقة واضحة وهي تسير كالسلحفاة على أسفلت الطريق ، ورغم ذلك لم يشعر " شعبان " بأي شيء من ذلك ، فقد كان صوت دقات قلبه المتلاحقة أعلي من صوت الموتور، وكان جسده ينتفض ويرتعش وكأنه داخل باب فريزر وليس كابينة سيارة تتحرك   ! 

     بعد  أن اختفت السيارة بقليل ، ظهر أحد الرجلين وعندما وجد الرصيف خاليا من الكراتين قبل كف يده باطنا وظاهرا ، وقال   :

-         الحمد لله العربية شالتهم يااااه   نفدنا من الجزا

في نفس الوقت كان السائق يسأل" شعبان"

-         رايحين فين بالضبط يا أستاذ   ؟

قال له وهو يحاول ابتلاع الغصة التي تقف في حلقه   :

-         شارع طلعت 

عندما دخل البيت وهو يحمل كرتونة بعد أخرى ، وأخذ يرص هذه الكراتين كلها في حجرته القديمة ؛  تساءل والداه في حيرة عما بداخل هذه الكراتين ، فطمأنهما قائلا  :

 -  هي دي الشغلة الجديدة اللي قلت لكم عليها !

سألاه في نفس واحد  :

 -  شغلة ايه يا ابني   ؟

 -  انتم ناسيين إن معايا دبلوم فني تجاري ..  ..  فيه شركة وافقت تشغلني بالمؤهل ده بس شرطهم الوحيد عشان يعينوني إني أراجع لهم حسابات ودفاتر قديمة من سنين فاتت يعني زي اختبار ..  .. ولو نجحت ها يوافقوا يعينوني !

كان الأبوان أميين لا يعرفان القراءة أو الكتابة ولم يجد شعبان أي حيلة أخرى غير هذه ليوافقا على وجود هذه الأوراق داخل البيت ، إن فضوله الشديد جعله يأتي بها ، وهو يعلم أنها ليست أوراقا عادية إنها قنابل وألغام ، قد تودي بحياته وحياة والديه في أي لحظة   !

     ظل بضع شهور عاكفا على هذه الأوراق ، لدرجة أنه أصبح نادر الخروج من البيت ، وانقطع عن أصحابه وأقاربه ؛ حتى أنه أصبح لا يقابل أحدا ممن يزورونهم في البيت ، إنه دائما داخل حجرته  ، والباب دائما مغلق ، وكان رد أمه او أبيه على من يسألونهما عنه ، أنه يقوم ببعض الحسابات في الشركة التي سيعمل بها .

     من خلال الأوراق التي كان شعبان يقرأها مرات ومرات حتى يفهم كل ما فيها ، ويقارن بين البيانات المدونة في الملفات والسجلات ، عرف معلومات و حقائق لم يكن يعرف عنها أي شيء ! كل ما كان يدور و يجرى داخل حجرات المحافظة ، و في مكاتبها أصبح بين يديه  !

      تعب كثيرا !  طوال هذه الشهور تقوس ظهره من كثرة انحنائه على الأوراق  ، وضعفت عيناه ، يبست عظامه من قلة الحركة ، لذلك قرر أن يقطع هذا السكون وهذا الحبس الانفرادي الذي فرضه على نفسه ، ويتمشى على الكورنيش ، ويستمتع بهواء النيل المنعش .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

4

     عندما عاد إلى البيت ، وجد أمه نائمة ؛ نظر إليها فدمعت عيناه ؛ وقبل جبينها ، ويديها، ثم ذهب إلى حجرته ، وارتمى وسط آلاف الأوراق التي تملأ الحجرة ، ورفع ساقيه وأسندهما على إحدى الكراتين بينما شبك أصابع يديه وجعلهما كوسادة تحت رأسه ، إنه في حيرة من أمره ؛ فمن المؤكد أن معرفته لكل هذه الأسرار وراؤها سبب ؛ واطلاعه على كل هذه المعلومات والبيانات ليس مصادفة ؛ إنه الآن يعرف أدق التفاصيل عما يدور في هذه المحافظة المسكينة ، بل ويعرف الكثير عن المشروعات التي لم تتم بعد ، والتي تقرر إنشاؤها في السنوات المقبلة ! خرائط الاتساع العمراني والتي للأسف لا تراعي إلا مصالح الأثرياء وأصحاب النفوذ فقط !هؤلاء لهم كل المكاسب أما الفقراء فلهم الجنة !

     سمع صوت أبيه ، يبدو أنه قد عاد ؛ ويبدو أن أمه قد استيقظت ، بل وجهزت العشاء ؛ سمعها تناديه ؛ فخرج وجلس معهما لتناول الطعام ، فاجأهم الأب قائلا :

-        تصدقي يا " أم شعبان "  إن الأستاذ " شوكت " قريبنا مرشح نفسه لعضوية البرلمان !

اندهشت الأم  ، وقالت :

-       قريبنا ازاي يا " عبد العظيم " ده لا يعرفنا و لا نعرفه !

-       هو قريبنا من بعيد ..  ..  بس ناس كتير بيقولوا إن فرصته في النجاح كبيرة ، الناس في القهوة مفيش لهم سيرة غير الانتخابات والمرشحين لها .

-       يعني لو حتى كان قريبك ، ونجح ..  ..  ها ينوبنا إيه من وراه ؟!

-       ينوبنا إيه ..  ..  أقله يوظف لنا ابننا ، ولا عاجبك قعدته في البيت ..  ..  يعيّنه في أي وظيفة !

التفت إلى " شعبان " وسأله :

-       صحيح يا ابني ..  ..  موضوع الشركة طوِّل قوي .. .. ده فيه ناس بيقولوا لي إنهم أكيد نصابين ، فات أكثر من خمس شهور ، وانت حابس نفسك مع الورق بتاعهم ، ولسه مفيش خبر ، همه ناويين يقبّضوك إمتى يا ابني ؟!

فاجأه السؤال ، وحاول أن يخفي ارتباكه بقوله :

-       هانت يا با ..  .. ما تقلقش فاضل شوية حسابات أخلصها ، وأقدم لهم الورق ، واتعيِّن على طول بإذن الله .

-       يا ابني أنا بس قلقان عليك ، أنا وامك أي حاجة بتكفينا ، إنما انت مشوارك لسه طويل ؛ محتاج شقة ، وعفش ، وشبكة تقدمها ، ومهر ، ومصاريف كتير .. ..  نفسنا نشوفك في بيتك متهني زي كل اللي في سنك !

التفتت إليه الأم ، وسألته باهتمام :

-       بالمناسبة شقة المجلس ، مفيش عنها أخبار ؟

أجابها الرجل بيأس :

-       الشقق من قبل ما تتبني بيوزعوها على الحبايب من بره بره .. .. أمال أنا كنت باكلمك عن قريبنا اللي مرشح نفسه ليه !

-       همه مش جم وعاينوا البيت اللي احنا فيه ده ، وقالوا نازله قرار إزالة ، واننا نستحق شقة ، مش قالوا الكلام ده بعضمة لسانهم !

تكلم " شعبان " الذي كان يسمع بمرارة ، وقال :

-       اللي بيقولوه غير اللي بيكتبوه !

-       يعني إيه ؟!

-       يعني زي ما ابويا قال ..  .. الشقق بتتوزع من قبل ما تتبنى بالرشاوي والواسطة ، واللي زينا ربنا يتولاه !

-       يا خسارة يا ابني ..  .. احنا كنا عاوزينها عشانك انت .. .. عشان تتجوز ونفرح بك !

فاجأها زوجها بقوله :

-       وافرضي الشقة جت .. .. هاندفع مقدمها منين ؟!

قال " شعبان "

-       هانضطر نتنازل لواحد من الأغنيا ، يدفع مقدمها وياخدها هو من الباطن ، واحنا كل اللي ها ينوبنا كام ألف ، هو ده اللي بيحصل !

تحسّرت الأم قائلة :

-       ياااه ..  ..  دي تبقى بقى معمولة للناس المبسوطين اللي معاهم الفلوس ، مش للغلابة اللي زينا !

قال " شعبان " ليخفف عنهما :

-       ما تحملوش همي .. .. إن شاء الله ها تتعدِّل .. .. بكره اشتغل وتفرج بإذن الله !

كل واحد بياخد نصيبه ، مش كده برده ؟!

-       ونعم بالله .. .. ربنا يجعل نصيبك خير ، وينوِّلك من الفرح كله!

ابتسم أبوه ، وقال :

-       والله يا ابني أنا مبسوط منك .. .. انت بقالك فترة بتتكلم كلام كله حكم .. .. وعندك قناعة ورضا .. ربنا يكمّلك بعقلك ويفرحك ويرضيك يا ابني !

     استأذن من أبويه ، ودخل حجرته ، وأوصد بابها المتهالك ، لكنه لم ينم ! ظل طوال الليل عاكفا على الأوراق يقرأ ويكتب ملاحظاته ، لقد قرر أن يستفيد من هذا البحر الهائل من المعلومات التي أصبحت بين يديه ؛ فحبس نفسه أسبوعا آخر يقرأ و ينظم ويدقق ويقارن ، وقد أفادته دراسته في المعهد الفني التجاري فيما يقوم به ، وعندما خرج من محبسه تعمّد أن يمشي مسافة طويلة ، فسار من أمام المعهد الأزهري حتى وصل إلى الكوبري الجديد كانت الشمس تميل إلى الغروب ، وقد بدأ الناس يخرجون إلى الكورنيش للتمتع بهواء النيل المنعش ؛ ثم اتجه إلى القنطرة ، ومر بسوق السمك ، وجده مزدحما بالناس ! فتعجب فهو يعرف أن الزحام يخف شيئا فشيئا قبل غروب الشمس ، حيث يكون الجميع قد اشتروا احتياجاتهم من السمك للغداء ، والآن تغرب الشمس وما زال السوق يعج بالبشر ، تلاشى تعجبه هذا عندما دقق النظر فيمن حوله ، كان معظمهم من المصيفين ، عرف ذلك من وجوههم وجلودهم التي أكسبتها ملوحة البحر ، وأشعة شمس رأس البر صبغة مميزة ! كان الزحام شديدا ، ورغم أن الطريق يتسع لأربع سيارات متجاورة إلا أنه لم يكن يسمح إلا بمرور سيارة واحدة في اتجاه واحد فقط ، بسبب الباعة المتجولين المنتشرين على الرصيف ، بل وعلى الأسفلت في نهر الطريق ، ومن العجيب أن أفرادا من شرطة المرافق ، وشرطة المرور كانوا موجودين في المكان ! وشاهد شعبان بعينيه أحد الباعة يدس يده في جيب أحدهم ، كما رأى صولا يتحدث إلى بائع آخر بود ٍ شديد ٍ ، وهو يعاتبه قائلا :

-        الأولاد نفسهم في الحنشان يا عم زكريا

رد عليه البائع ، وكأنه يكلم صاحبه الذي لا يفارقه ، وقد ارتسمت على وجهه الضخم ابتسامة عريضة :

-       ما يغلاش عليهم يا حضرة الصول ..  .. ها تصبح الصبح تلاقيه بيتلعبط عندك في البيت ، ولو إن الكيلو عدّى المية وعشرين جنيه ، بس ما يغلاش عليهم !

       عبر الزحام الخانق بصعوبة ، ودخل سوق العطارين كان مزدحما هو الآخر ، سار فيه حتى وصل التجاري ، مشى فيه ببطء ؛ وهو يتأمل البيوت العتيقة المتلاصقة إنها تبدو من الأسفل كالجديدة من فرط عناية أصحاب المحلات واهتمامهم بتزيينها ؛ لكنها في الحقيقة بالية ويجب إزالتها ، فقد صدرت لها قرارات هدم وإزالة منذ سنوات ، لكن هذه القرارات بمرور الوقت أصبحت مجرد أوراق بالية في الأدراج ! تذكر وهو يقترب من جامع البدري ذلك الهاتف الذي سمعه وهو يقف على رصيف مبنى المحافظة ، والذي كان يقول ( كل ما حولك ليس إلا فألصوا ) ، تذكر أيضا أن كل قرارات الإزالة توجد صور لها ضمن الأوراق الموجودة عنده في البيت ، تعجب من أن قرارا واحدا منها لم ينفذ حتى الآن ، من المؤكد أن أصحاب المحلات - وهم أكثر أهل البلد ثراء - قد دفعوا الكثير لتعطيل هذه القرارات ، دفعوا أموالا طائلة ليكون مصيرها أن تحرق في محرقة القمامة كما كان مخططا لها !

       ظل يمشي حتى وصل قهوة اللؤلؤة حيث يعمل أبوه ، كان يعلم أن أباه قد أنهى عمله في القهوة وانصرف ، أراد أن يجلس ويستريح ، فتش جيوبه ؛ فوجدها خاوية ، من أين سيدفع ثمن الشاي لو طلبه ؟! قبل أن يولي ظهره للمقهى ، ويعود كما أتى  سمع صوت " عم برقوق "  زميل أبيه في العمل  

-       أستاذ " شعبان " ..  ..  أستاذ " شعبان " !

التفت إليه ، وسلم عليه ، أصر ّ الرجل  ؛ بل وأقسم عليه أن يجلس ، وما أسرع ما أحضر له كوبا من التمر المثلج ، فجلس وما كاد يشربه ، حتى فوجئ به يحضر له كوبا من الشاي !

       وبينما هو يحتسي الشاي سمع الناس حوله يتحدثون عن الانتخابات ، كانوا جميعا متفقين على أن الصراع سيحسمه أصحاب المال والنفوذ ، لكن كانت هناك مناوشات خفيفة بينهم  ؛ فالبعض يؤكد أنه لن يرشح إلا من يراه الأصلح ، والبعض الآخر يقول أنه طالما الأمر محسوم مسبقا لأصحاب النفوذ والمال الذين يشترون الأصوات فعلى الأقل يستفيدون قدر الإمكان ، فهذا الموسم لا يتكرر إلا كل أربع سنوات

       شد انتباهه حوار آخر يدور حول المحافظ الجديد ، يتوقعون أنه لن يطول به المقام بينهم ، لقد فشل فشلا ذريعا ، و لا أحد يدري السبب ، رغم ما كانوا يسمعونه عنه من قبل ، من أنه شعلة من النشاط ، وما اشتهر عنه من نزاهة يده ، ونظافة ذمته ! ووجد " شعبان " نفسه يقول ، وبصوت سمعه الجالسون بالقرب منه :

-       أنا عارف السبب .. .. أنا عارف السبب .. .. رجل نزيه مثله ، بين عصابة من اللصوص .. .. أكيد لازم يفشِّلوه .. .. ومش بعيد يطلَّعوه حرامي !

تنحنح ، وقد أصيب بالارتباك من نظرات من حوله ، لكنهم سرعان ما عادوا إلى أحاديثهم المتلاطمة كالموج ، فقال في نفسه ، وهو يبتسم :

-       ربما حسبوني أحد المجانين الذين كثر عددهم في هذه الأيام ، لكن أنا فعلا عارف السبب ، وعارف كمان إن أي محافظ سيأتي سيكون مصيره الفشل !

       قام من مكانه بعدما شكر " عم برقوق " الذي كان في غاية اللطف والذوق لدرجة أنه أراد أن يحضر له فنجانا من القهوة ، كانت عقارب ساعته تشير إلى الثامنة ، قرر أن يعود من طريق باب الحرس ، ويسير حتى ميدان الشهابية ، قال لنفسه ، وهو يتخيل مشوار عودته الطويل :

-       ياه .. .. مسافة كبيرة قوي .. .. لكن أعمل إيه ومفيش معايا و لا جنيه .. .. يا ترى فيه كام واحد زي داخلين على سن الأربعين وهمه مفلسين .. .. ومافيش في جيب الواحد منهم حتى جنيه يركب بيه مواصلات ؟!

       أثناء سيره رأى عشرات المتسولين، تلح ألسنتهم وأيديهم بالسؤال ! والعجيب أنه شعر أن كثيرا من الناس العاديين الذين يسيرون بجانبه على الرصيف في نفس الاتجاه ، أو في الاتجاه المعاكس هم أيضا تبدو عليهم علامات التسول ، لكنه تسول من نوع آخر ، إنه تسول يعرفه ، ويعيشه ، وقد ذكره هذا بحكاية حدثت له مع ابن خالته ، هذا الشاب الذي سافر إلى العراق ، قبل حرب الخليج ، وكون ثروة كبيرة ، وعندما عاد بنى عمارة كبيرة في منطقة الأعصر الأولى وجعل الطابق الأول كله عبارة عن ورشة كبيرة لتدهيب الموبيليا

لقد ذهب إليه ، وطلب منه أن يعمل عنده ، حتى يتعلم الصنعة ، ويصبح " مدهباتي " لكن وعلى غير ما كان يتوقع ؛ فوجئ به يرفض ! وعندما قال له :

-       ممكن تشغلني من غير أجر .. .. لغاية ما أتعلم !

-       أتكسف أشغلك من غير أجرة .. ..

لقد بخل عليه، وكره أن يعلمه صنعة يأكل منها ، عرف شعبان وقتها أن التسول لا يكون من أجل المال فحسب !

       عندما وصل الميدان فوجئ بأعداد كبيرة من أبناء الصعيد يفترشون الأرصفة ، مجموعات صغيرة متناثرة في أحشاء الميدان ، في انتظار أي شخص يحتاج إلى عمالة ، هدم بناء ، حمل رمل وظلط وطوب ، إنهم على استعداد لأي أعمال شاقة ، وها هم ينامون في العراء ، شاهد شابا يجلس القرفصاء عند كومة من القمامة ، ويمد يده داخل شنطة بلاستيكية ، ياه .. .. إنه يأكل منها ؛ لم يصدق عينيه ! انسلخ من المشهد بسرعة ؛ وألقى بكل ما انتابه من مشاعر خلف ظهره  ، وسار بمحاذاة الكوبري العلوي ، وجد نفسه على مسافة بضعة أمتار من السلم ، كان على وشك أن يعبر الطريق ، لكن شد انتباهه مجموعات من إطارات السيارات مرصوصة فوق بعضها ، وبطريقة تجعل منها ما يشبه كوخا أو عشة عجيبة ، مكان غريب في الفراغ الكبير أسفل الكوبري ، ذهل عندما رأى أطفالا يلعبون حول هذه العشة كانوا متشابهين لدرجة كبيرة ، وزاد من ذهوله أن كل واحد منهم لم يكن يرتدي إلا قطعة واحدة ، فبعضهم يرتدي ما يستر نصفه السفلي فقط ، بينما نصفه الآخر عار ، والبعض الآخر يرتدي ما يستر نصفه الأعلى بينما نصفه الآخر لا يستره شيء ! ظل واقفا في مكانه مذهولا ، رغم أنه كان يشعر أن ساقيه تعجزان عن حمله من شدة التعب ، ووجد نفسه يقول :

-       على أعتاب القرن الواحد والعشرين .. .. وما زال في هذا البلد من يعيشون عيشة القبائل البدائية  !

فوجئ بشيخ يخرج من وسط الإطارات أشعث ممزق الجلباب ، أو ما كان يطلق عليه من زمن ٍ جلبابا ! قعد أمام بيته فوق صخرة كبيرة ، وأشعل سيجارة وبدأ ينفث دخانها في الهواء ، وهو يضع ساقا فوق الأخرى ، بينما الصغار يلعبون ويمرحون من حوله ! ولاحظ " شعبان " أن دخانا كثيفا بدأ يتصاعد من بين الإطارات ، رأى سحبا من الدخان الأسود ، والتي لا يعقل أن تكون منبعثة من السيجارة التي يدخنها الشيخ العجيب ؛ فدقق النظر وإذا بعجوز لم يكن يستطيع رؤيتها ليس بسبب الظلام فقط ، ولكن لأن الثوب الذي يسترها لا يختلف كثيرا عن الصخرة السوداء التي تجلس عليها ! كانت جالسة أمام ما يشبه الفرن الصغير ، أو ما يطلق عليه ( الكانون ) لقد صنعته من صفين من الطوب ؛ أربع أو ست قطع من الطوب ؛ وفي الوسط  وضعت قطع من الخشب ؛ وأشعلت فيها النار ؛ وفوق كل ذلك وضعت وعاء أو قدرا كبيرا ! سأل نفسه بأسى شديد :

-       هل ما زلنا نعيش في قرون الظلام ؟!

عبر من أمامه رجل ، بدا عليه التأثر الشديد ، سمعه يقول ، وهو يهز رأسه متعجبا  :

-        لا حول ولا قوة إلا بالله .. .. لا حول ولا قوة إلا بالله !

-       احنا في سنة كام يا حاج ؟!

-       ألفين يا ابني .. .. ألفين .. ..

فهم الرجل ما أراد " شعبان " أن يقوله ، ولكنه انصرف فما الذي يستطيع فعله ! وقبل أن ينصرف " شعبان " هو الآخر ، لاحظ اقتراب سيارة ملاكي ثم توقفها ، وما لبث سائقها أن أخرج كيسا كبيرا ، ومد به ذراعه في الهواء من النافذة ! على الفور تسابق الصغار نحوه ، والتقطوا الكيس ، انطلقت السيارة ، وقام الشيخ من مكانه بعدما أطفا سيجارته ووضع ما تبقى منها في جيب جلبابه ! زوجته هي الأخرى قامت من أمام فرنها الصغير ، ودخل الاثنان مع صغارهما بالكيس الكبير داخل البيت العجيب !

دمعت عيناه ، فتطلع إلى السماء يُقلب وجهه يمينا وشمالا  ، كان الظلام يبتلع كل شيء حوله ، و لولا أضواء المصابيح في أعمدة الإنارة ما رأى شيئا ! أحس أنه يحمل أثقالا فوق رأسه وكتفيه ، يكاد يسقط على الأرض من هول ما رأى وسمع ، فمن يراه على حالته هذه يظنه سكرانا !

       كل يوم  كان يرى ويسمع ، و يمر مرور الكرام ؛ فما الذي تغير اليوم ، إن قلبه يكاد يتقطع ، ويشعر أن في حلقه غصة هائلة تسبب له الاختناق ! لم يعد يقوى على السكوت ! إنه الآن يعلم الكثير ، ويعرف أن الفتات الذي يتبقى على موائد الفاسدين يكفي لحل جميع مشاكل كل هؤلاء المطحونين ، فلماذا يبخلون عليهم بهذا الفتات ؟!

       عندما عاد ؛ دخل حجرته ؛ أغلق بابها القديم بعنف دون أن يدري حتى أن الباب تفكك  بل وكاد ينخلع من مكانه ، نظر إلى الحائط المتآكل ، إلى السقف الذي تخلت عنه قشرته وسقطت ؛ فانكشفت أسياخ الحديد الصدئة ، ولأول مرة شعر أنه يعيش وسط أنقاض ، هو الآخر يعيش عيشة بدائية ، ووجد نفسه يقول متعجبا :

-       نحن أموات .. .. أموات بلا أكفان .. .. أموات لكن فوق التراب !

ونظر بحسرة إلى أكوام الورق والكراتين التي تملأ المكان ، إنها شاهد عيان ، وشاهد إثبات على الظلم الكبير الذي لا ينتهي ؛ على الحقوق المنهوبة والمسلوبة من أناس بسطاء والذين يسرقونهم هم للأسف المسئولون عنهم ! و يا ليتهم يفعلون كما يفعل الذئب مع الغنم ، فالذئب لا يفترس ولا يأكل إلا إذا كان جائعا ، أما هؤلاء فلا يشبعون أبدا مهما امتلأت بطونهم !

       بيَّت أمرا خطيرا ، وأعد َّ له عدته  ؛ وفي الصباح بدأ في تنفيذه ، قام قبل طلوع الشمس ، بينما كان أهل الحي نائمين يغطون في همومهم ، حمل الكراتين بما فيها من أوراق ، وألقى بها كلها في صندوق القمامة الكبير القريب ، وأشعل النار ، وكلما خبت زادها لهيبا ببعض البنزين الذي كان يملأ به زجاجة كبيرة ، ظل وقتا كبيرا يشعلها حتى تأكد من حرق كل الكراتين بما فيها ، وعندما أحس باستيقاظ بعض الجيران ؛ تسلل إلى البيت ! بينما كانت سحابة سوداء كبيرة تتسع شيئا فشيئا حتى كادت تخفي قرص الشمس الذي كان قد بدأ في الظهور ، وشظايا دقيقة جدا وجمرات متناهية في الصغر تتصاعد في السماء ، مر وقت ليس بالقصير والدخان يتصاعد في السماء إلى أن جاءت الريح فذهبت بالدخان الأسود الكثيف ، وبدأت النار في الصندوق الحديدي تذوي بعدما أتت على كل ما فيه !

       عاد إلى فراشه ، بعدما اطمأن إلى أن أحدا لم يشعر بما فعله لا سيما أبويه ، كانت رائحة الدخان قوية جدا ونفاذة ؛ فدخل واستحم وعطر نفسه وبدّل ملابسه ، تناول الإفطار مع أبويه ، لاحظ أن أباه ليس كعادته ، إنه يبدو مريضا ومرهقا ، ومع ذلك أصر على الذهاب إلى عمله ! تحامل على نفسه فليس لهم مصدر دخل آخر غير عمله في المقهى ! أحس " شعبان "بالخزي والعار ، وهو يرى والده على هذه الحال ولا يستطيع أن يفعل له شيئا ، كان أمل حياته ، وحلم عمره أن يعمل ويساعده ، ويخفف عنه !

       خرج هو الآخر بعدما استأذن أمه ؛ قرر أن يكمل ما بدأه ، ذهب إلى مبنى المحافظة ، طلب مقابلة المحافظ ، حاول كثيرا أن يدخل إلى مكتبه ، لكن محاولاته كلها باءت بالفشل ، وحتى اليوم الذي كان مخصصا للقاء المحافظ بالمواطنين ، حتى هذا اليوم فوجئ بمن ينوب عنه !

       كان يعرف تماما أن هذا الذي ينوب عن المحافظ هو أحد أهم أضلاع الفساد ، ولو أنه عرف سبب مجيئه لنسفه من على الأرض نسفا ؛ لذلك عندما حان دوره للمقابلة ادعى أنه جاء يلتمس الحصول على شقة إيواء له ولوالديه ، فوعده السيد بأنه سينظر في طلبه ، وسيحل مشكلته في أقرب وقت !

       كل يوم كان يذهب على أمل أن يلتقي به ، لكنه كان يرجع خاوي الوفاض ، وفي هذا اليوم وهو عائد قرر أن يتصفح الجرائد المعروضة على الرصيف أمام محل الجرائد القريب من المقهى الذي يعمل فيه أبوه  ، وقف يقرأ العناوين ، فجأة صك أذنيه صوت سرينا الإسعاف، لحظات وشاهد سيارة الإسعاف تنطلق أمامه ، وتقف أمام المقهى مباشرة ! انطلق وقلبه يخفق بشدة ، دقاته أصبحت أسرع من خيل السباق ! مرق كالسهم من بين الأجساد ؛ لمح " عم برقوق " يجلس داخل سيارة الإسعاف ممسكا بيد شخص ممدد على الترول أحس أن قلبه توقف  ، كاد يغمى عليه ؛ لكنه تمالك نفسه وقفز داخل السيارة قبل أن يغلقوا بابها ! نظر في وجه الشخص الراقد ، لم يتمالك نفسه واندفع في البكاء ، بمجرد أن رأى وجه أبيه ،  بادره عم برقوق قائلا :

-       ما تخافش يا أستاذ " شعبان " .. .. هو تعبان شوية .. .. كرشة نفس .. .. ما تقلقش !

أمسك يد أبيه الذي كان غائبا عن الوعي ، وجد نبضه ضعيفا جدا لدرجة أنه لا يكاد يشعر به ! نظر إلى صدره فلما رآه يعلو ويهبط  اطمأن قليلا ، وأخذ يربت على كتفه ، وينظر إليه بحنان وعطف ، لا يدري لما بدا له أبوه في هذه اللحظة وكأنه مومياء فرعونية ، فوجئ به جلدا على عظم ! وعظام وجهه بارزة لدرجة كبيرة ! ياه .. .. إنه لم يره على هذه الصورة من قبل ؛ كاد يصرخ حزنا .. .. تذكر مقولة أحدهم :

-       لقد جئنا إلى هذه الدنيا فقط لنبني لهم أهراما .. .. ثم نخرج منها عظاما !

 

 

 

 

 

 

5

   

في قسم الطوارئ بالمستشفى التخصصي عم عبد العظيم والد شعبان ممدد على سرير، بينما كان ابنه شعبان وزميل الكفاح عم برقوق يستجدون إحدى الممرضات لكي تطلب طبيبا؛ وبعد فترة حضرت طبيبة حديثة السن قامت بالكشف عليه  وقياس ضغطه، وكتبت في تذكرة الدخول أشياء كثيرة ، ثم قالت :

-         لازم يتعمل له آشعة مقطعية على المخ !

سالها شعبان وقد انهمرت دموعه :

-         نعمل الآشعة دي فين لو سمحت ؟

أشارت له بيدها إلى الممر الذي يؤدي إلى باب الخروج، وهي تقول :

-         في الجهاز الهضمي؛ المبنى على مسافة حوالي خمسين متر هتسحب الترول لهناك لعمل الآشعة.

اندهش شعبان، وهمس لعم برقوق :

-         نسحب الترول هو ما فيش تمرجي او ممرضه في المستشفى ؟!

رد عليه عم برقوق باستسلام :

-         بينا يا ابني الوقت مهم علشان نلحق نسعف أبوك !

قام الاثنان بنقل الرجل المريض من على السرير إلى الترول، ثم قام أحدهما بجذب الترول من الأمام، والآخر يدفعه من الخلف حتى خرجوا من قسم الطوارئ وأصبحوا في الممر المؤدي الى خارج المستشفى ! كان في ارضية الممر تكسير وحفر وكاد الترول ينقلب أكثر من مرة، ويقع من عليه الرجل المسكين سمع شعبان عم برقوق يلعن ويسب في المسؤولين وقد أصبحا يقودان الترول خارج المستشفى في الطريق العام بين السيارات وأمام المارة ! وأمام المقاهي والمحلات قابلهم مجموعة من الناس يرفعون ترولا آخر وعليه امرأة مريضة كان الجميع يلعن ويسب، وسمع أحدهم يقول بأعلى صوته؛ حتى سمعه المارة  والجالسون في المقاهي، وفى المحلات التي في صف المساكن المواجهة لسور المستشفى :

-         هو البني آدم مننا له كرامه في البلد دي ما لناش كرامة في بلدنا !

سمع آخر يقول :

-         فين المسؤولين .. و فين المحافظ  ده منظر يرضى حد ؟!

رد عليه أحدهم قائلا :

-         المحافظ  خلاص اتشال .. هيتغير خلاص وهيجيبوا محافظ غيره .

رد عليه شابٌ من بينهم :

-         يا ريت الطقم كله يتغير !

غمغم عم برقوق وقد ظهر عليه التعب:

-         هه .. كلهم شبه بعض !

نظر إليه شعبان، ثم نظر إلى أبيه الذي أفاق، وفتح عينيه من شدة اهتزاز الترول، ثم قال بحزن واضح :

-         فعلا .. كلهم شبه بعض !

     بعد عمل الآشعة المقطعية، والعودة من نفس الطريق، وبنفس الطريقة الشاقة، قرر طبيب آخر - حديث السن أيضا - حجز الرجل في المستشفى؛ سأله شعبان بخوف :

-         هو عنده إيه يا دكتور ؟!

رد عليه ببساطة، وهو يرفع الآشعة ناحية الضوء، وينظر فيها بتركيز شديد :

-         جلطة في المخ !

نزلت الكلمة كنصل بلطة حاد على رأس المسكين شعبان، واعترض عم برقوق قائلا :

-         إزاي يا دكتور .. ده كان في أمان الله، وكان واقف شغال زي الفل .. يمكن تعبان شوية من الشغل ؟!

-         بقولك جلطة على المخ .. واضحة قوي في الآشعة !!

     كان شعبان ينظر بعطف إلى والده، الذي كان قد أفاق قليلا، بل وطلب منه ومن زميله أن يعيداه إلى بيته، فهو يكره المستشفيات، ولا يريد البقاء فيها لحظة؛ ولكنه بمجرد أن سمع الطبيب وهو يقول - بصوت مرتفع – جلطة في المخ؛ أغمض عينيه، وغاب عن الدنيا، وكأنه دخل في غيبوبة أخرى!

     تم نقله إلى أحد عنابر الطابق الثاني، وظل عم برقوق مع شعبان بجوار الرجل، حتى وصلت أم شعبان ومعها خاله؛ فاستأذن عم برقوق ليعود إلى عمله، ولكنه قبل أن يغادر؛ وضع خمسين جنيها في يد شعبان؛ الذي ظل يرفض أخذها، حتى قال له موضحا :

-         دي مش مني .. دي من أجرة أبوك، صاحب القهوة بعتها معايا علشان الظروف دي ..

انصرف عم برقوق إلى عمله، وبدأ الأقارب والجيران الذين علموا بالأمر يأتون للاطمئنان على صحة الرجل المريض.

مرَّ يومان، وحالته تسوء لدرجة أنهم نقلوه إلى العناية المركزة، الممرضات لا تكل من طلب بعض الأدوية، والأدوات الطبية، التي يدّعُون عدم وجودها في المستشفى ! وهو يذهب في خضوع ويحاول توفير ثمنها بكل الطرق، ويشتريها من الصيدلية الخارجية.

     لا يكاد يمر يوم حتى يموت ثلاثة أو أربعة، وكان يرى جثثهم وهى خارجة من العناية إلى المشرحة رأسا ! فقد كان شبه مقيم عند مدخل العناية المركزة، وكان يسمع البعض من الأهالي وهم يصبِّرون أنفسهم، ويقولون إنه الأجل، لكن الكثير منهم كانوا يتحدثون عن الإهمال؛ فبدأ الخوف يتسلل إلى قلبه.

كان خائفا على أبيه، وعلى أمه التي لن تتحمل أي مكروه يصيب زوجها؛ لذلك أخذ الآشعة الخاصة بوالده، وذهب يبحث في طرقات المستشفى عن طبيب كبير؛ ليسأله، ويستشيره، وقد بدأ يشك في الطبيب الذي شخص حالة والده، كل الأطباء شباب حديثي التخرج ، اضطر أن يسأل أحدهم عندما علم أنه طبيب مخ وأعصاب، فسأله :

-         الآشعة دي بتاعة والدي، ممكن تطمني يا دكتور !

بعد أن توجه الطبيب نحو الضوء، وأخذ ينظر إليها طويلا وكأنه يقرأها، قال له :

-         الآشعة نضيفة .. مفيش فيها أي حاجة غريبة ؛ والدك زي الفل .

-         يعني مفيش جلطة؟!

-         جلطة !! يا حبيبي الآشعة واضحة، مفيش الكلام ده .

تسمَّر مكانه، وقد أصابه الذهول، وشعر أن أباه في خطر كبير؛ انطلق حتى وصل قسم العناية، استأذن من العامل الواقف على الباب؛ دخل إلى حيث يرقد والده، نظر إليه؛ إنه في غيبوبة منذ دخل المستشفى، تأمل المحاليل والأنابيب المعلقة والمتصلة بعروق وشرايين رقبته، إنهم يعالجونه منذ أيام على أساس أنه مصاب بجلطة، أراد أن يصرخ بأعلى صوته، ويقول لهم أن التشخيص خاطئ؛ ومد يديه ليفك الأنابيب المتصلة بعنق أبيه، ثم تراجع خائفا، وهو يتساءل :

-         أليس في هذه المستشفى طبيب كبير لديه خبرة.. أين الأطباء ؟!!

خرج من قسم العناية؛ فوجد عمه محمود وعمته فاطمة وزوجها علي؛ أمسك بكتف عمه، وهو يقول له متوسلا :

-         أرجوك يا عمي لازم ننقل أبويا من هنا فورا .. دول كلهم دكاترة صغيرين مش عارفين أي حاجة .. دول بيتعلموا فينا !

-         وهانوديه فين يا ابني ؟!

-         نوديه مستشفى خاص .. نودِّيه دار الشفا .. مستشفى الصفا ..

-         مصاريف كتير قوي .. .. دي الليلة الواحدة هناك بالشيء الفلاني .. ممكن تعدِّي الألف جنيه .. يا ريت كنا نقدر، يا ابني احنا غلابة؛ والمستشفى دي بتاعة الغلابة اللي زينا.

هز شعبان رأسه، وقال :

-         فعلا احنا غلابة .. والغلبان في البلد دي بيموت .

تركهم، وخرج والدموع تغسل عينيه، عبر أسفلت الطريق إلى الناحية الأخرى من الطريق، حيث كورنيش النيل؛ ركب السرفيس ، ونزل عند الملف أمام مستشفى الشربيني الخاص أكمل الطريق مشيا على قدميه نحو مبنى المحافظة، وصل إلى البوابة، وكما توقع كان الحرس في حالة تراخي، وكأن اليوم يوم أجازة، سأله أحدهم :

-         رايح فين ؟!

-         ممكن أقابل سيادة المحافظ ؟!

-         خيرا .. فيه حاجة ؟!

-         ممكن أقابله شخصيا ؟!

-         لو عندك طلب أو فيه شكوى أو ..

-         لا ، أنا عاوز أقابله .. فيه موضوع مهم جدا

-         آسف ، ممنوع .. .. وبعدين ( بصوت منخفض ) المحافظ خلاص ماشي ..

فجأة انتبه الحرس من غفلتهم، انتفضوا؛ ووقفوا منتصبين ، وسمع شعبان أحد الحرس يهمس للآخرين منبها :

-         المحافظ خارج !

رأى شعبان ولأول مرة وجه المحافظ، كان مستديرا يميل للبياض، ورغم هيئته المهيبة، إلا أنه كان يبدو متواضعا، ولم يكن معه أحد، رغم أنه في الظروف العادية لم يكن يسير إلا في موكب كبير. وجدها شعبان فرصة لينادي عليه :

-         سيادة المحافظ  .. .. سيادة المحافظ !

حاول الحرس منعه بل وتوقيفه، لكن  المحافظ  توقف، والتفت له، بل وابتسم ابتسامة خفيفة، جعلت قلب شعبان ينبض أملا، وأجبرت الحرس على أن يفلتوه!

-         سيادة المحافظ !

فوجيء بالمحافظ يمد يده، ويصافحه، وهو يقول له :

-         أيوه والله أنا كان نفسي أخدمك، وأحل مشكلتك، لكن أنا خلاص ماشي .

وبدون تفكير، وجد نفسه يقول وبثقة عجيبة :

-         ممكن تفضل .. سيادتك ممكن تفضل في منصبك، صدقني حضرتك !

اتسعت ابتسامة الرجل، ولم يتكلم، كان قد وصل إلى باب السيارة الذي فتحه، وأمسكه له السائق، استطرد شعبان قائلا :

-         لو ينفع سيادتك نتكلم على انفراد ! عندي كلام مهم جدا

ركب المحافظ ، وأشار له بالركوب، فركب أمام ذهول السائق والحارس الشخصي، ثم قال له المحافظ بعد أن انطلقت السيارة -  اتفضل اتكلم .. احنا تقريبا على انفراد، عايز تقول إيه ؟

بدأ شعبان يحكي له عن التربيطات داخل مجلس المحافظة؛ بين المسؤولين فيه وبين المسؤولين في كل المؤسسات والمصالح الحكومية، وكيف أن الكثير من الملايين تدخل الخزينة وتخرج دون أن يعلم بها أحد ، حتى قال :

-         مؤكد ، خزينة المحافظة الآن فارغة، وهذا هو السبب الرئيسي لاستبعادك يا سيادة المحافظ .

اندهش المحافظ من كم المعلومات والبيانات البالغة السرية التي ذكرها شعبان، واندهش أكثر عندما ذكر له خلو خزينة المحافظة، فسأله متعجبا :

-         انت عرفت منين كل الكلام ده .. .. وعرفت منين إن الخزنة فاضية ؟!

-         سيادتك اسمح لي أحتفظ بسر مصدر معلوماتي، وزي ما قلت لحضرتك ممكن تفضل محافظ  لدمياط !

-         بتتكلم بثقة كبيرة !

-         صدقني حضرتك .. .. ممكن تفضل، وما يتمش تغييرك .

-         ازاي ؟!

-         سعادتك فيه أكتر من مائة مليون جنيه فائض ميزانية المفروض تدخل الخزنة كل شهر، يعني في الست شهور الأخيرة المفروض يكون في الخزنة حوالي ستمائة مليون لكن اللي بيحصل إنها بدل ما بتدخل الخزنة بتدخل حسابات شخصية لبعض المسؤولين، وانا عندي طريقة نرجّع بيها معظم الفلوس دي لخزنة المحافظة مش بس الفلوس دي لا وأضعافها كمان.

-         الموضوع ده محتاج وقت كبير، وأمر استبعادي صدر خلاص .

-         ممكن سيادتك باتصال صغير تؤجل هذا القرار .

-         تقصد إيه ؟

-         المحافظة لأنها محافظة غنية؛ بتساهم بجزء من فائض ميزانيتها وتبعته للحكومة المركزية .. .. تقريبا خمسمائة مليون كل ست شهور، صدقني في خلال أسبوع ممكن المبلغ ده يكون متوفر في الخزنة وأكتر منه كمان؛ جرَّب وسيادتك مش هتخسر حاجة!

كانت السيارة قد وصلت الاستراحة في رأس البر، وكانت زوجة المحافظ في الشرفة، وقد استعدت هى والأولاد للرحيل، الحقائب جاهزة، والجميع ينتظرون الرجل، وكان الحزن يخيم على الوجوه .

     دخل المحافظ؛ رفع سماعة التليفون؛ وأجرى الاتصال، وشعبان إلى جانبه لا يدري كيف تبعه، ودخل خلفه، سمع من بين ما سمع :

-         معاليك في خلال شهر واحد ممكن أوفر لميزانية الدولة نص مليار .. .. يا فندم الشهور اللي فاتت كنا بنزرع .. .. تمام معاليك الحصاد هايبدأ وبإذن الله في أقل من شهر .

كان صوت محدثه من الجهة الأخرى يقول له معاتبا :

-         يا بهاء انت قاعد على كرسي أغنى محافظة في مصر، خليك عارف كده كويس، المحافظة دي كانت بتساهم كل سنة بأكثر من مليار، احنا مش بناخد الفلوس دي نحطها في جيوبنا، الفلوس دي بتسند اقتصاد البلد، فاهم يا بهاء !

-         فاهم يا فندم، وبإذن الله أحاول أوفر للميزانية العامة أكتر من كده ..

-         عموما انت حظك حلو .. .. حركة تغيير المحافظين لم يتم الإعلان عنها رسميا، لا في الجرائد، ولا في التليفزيون؛ اعتبر قرار استبعادك ملغي .. ..

-         أشكرك يا فندم .. .. وبإذن الله أكون عند حسن ظن معاليك .. ..

انتهت المكالمة؛ وارتمى المحافظ على أقرب كرسي، كان في شدة الفرح، فأمامه فرصة يمحو بها آثار الفشل الذي لم يعرف له سببا حتى هذه اللحظة ! وفجأة تجهم وجهه عندما تذكر أنه علق كل أمله على شخص لا يعرفه، فنظر إلى شعبان؛ وسأله بقلق واضح :

-         انت واثق من كلامك اللي قلته من شوية ؟!

-         برقبتي يا سيادة المحافظ .. .. إذا ما نفذتش كلامي طيَّر رقبتي !

تحسّس الرجل رقبته، وأخذ يفك من رابطة كرافتته لعله يخفف من الاختناق الذي بدأ يشعر به، ثم قال :

-         مش رقبتك انت بس اللي ها تطير !

-         عندي طلب واحد بس سيادتك، وأرجو .. ..

-         طلب إيه .. .. اتكلم !

-         والدي تعبان جدا ومحجوز في التخصصي، وهناك إهمال فظيع؛ فلو ممكن سيادتك تؤمر بنقله مستشفى خاص، وأنا مستعد أبقى أسدد التكاليف لما أبدأ أشتغل !

-         بس كده .. ..

رفع الرجل السماعة، وأجرى اتصالا، وهو يتكلم ظهر على وجهه الانفعال الشديد، واحمر وجهه من شدة الغضب، فانتفض واقفا، وألقى السماعة من يده، وقال:

-         يظهر فعلا إني ما كنتش فاهم الناس اللي بتعامل معاهم كويس، مدير مكتبي اللي كان بيقف لي انتباه، ويضرب لي تعظيم سلام، بيكلمني بكل ألاطة، هو إيه اللي حصل في الدنيا .. .. ده من ساعتين تلاتة كان بيقدم لي فروض الطاعة والولاء !

-         يا فندم كلهم مفكرين ان حضرتك تم استبعادك خلاص !

-         صحيح كلامك مظبوط .. .. بإذن الله كل واحد هايتحاسب .. .. أما بالنسبة لوالدك فكن مطمئن؛ أنا هنقله مستشفى دار الشفا، وبالنسبة للتكاليف ما تحملش هم، هو هيتعالج على حسابي الخاص .

-         أنا مش عارف أشكر حضرتك ازاي .. .. أنا .. ..

-         أنا اللي مش عارف أشكرك ازاي، أنا كنت هامشي وأنا في نظر الناس والحكومة؛ محافظ فاشل، دلوقتي عندي فرصة أصلح الوضع ده .. ..

قاطعهما دخول السائق الشخصي، الذي قال بلهجة مفعمة بالاحترام :

-         كل شيء تمام سعادتك، الهانم والأولاد ركبوا العربية ، وفي انتظار معاليك .

اقترب منه المحافظ، وربت على كتفه، وهو يقول مبتسما :

-         بلّغهم يا سليم إن أمر الاستبعاد تم إلغاؤه، وإني ما زلت محافظ دمياط .

-         حقيقي يا فندم .. ..

-         حقيقي يا سليم، خليهم ينزلوا الشنط ويرجعوا كل حاجة زي ما كانت !

نظر سليم إلى شعبان وهو يبتسم، فقد كان يعرف أنه السبب في بقاء المحافظ، كانت نظرة سريعة، ثم قال قبل أن يغادر :

-         حاضر يا فندم  هابلغهم فورا .

استأذن شعبان من السيد المحافظ الذي بدوره كان مصرا على بقائه لتناول الطعام معه هو وأسرته، ولكن شعبان هو الآخر أصرّ على أن يذهب ليطمئن على والده المريض؛ فكلف المحافظ سائقه الخاص بتوصيله إلى مستشفى دار الشفا وفي قسم العناية المركزة وجد والده في غرفة مكيفة، ووجد أمه نائمة على سرير بالقرب منه، وكم كانت سعادته ودهشته في نفس الوقت عندما رأى والده يبتسم، ويفتح ذراعيه له؛ احتضنه بقوة وهو يبكي من شدة الفرح، سمع أباه يقول بصوت ضعيف يشبه الهمس :

-         بتعيّط ليه يا ابني .. .. ما تعيطش أنا بقيت كويس؛ أنا بخير يا حبيبي !

لم يصدق شعبان أذنيه، وهو يسمع صوت أبيه؛ فقد ظل محروما من سماع صوته أياما؛ صاح بفرحة غامرة :

-         انت بتتكلم يا با .. .. الحمد لله .. .. الحمد لله !

استيقظت أمه على صوت بكائه، ظنت أن زوجها أصابه مكروه، فلما رأته يحرك عينيه، وصدره يعلو ويهبط؛ اطمأن قلبها، وقالت لابنها تعاتبه :

-         فيه إيه يا ابني، بتعيط ليه .. .. أبوك بخير، ربنا نجدنا من مستشفى الموت يا ابني يظهر إننا صعبنا على مدير المستشفى؛ فنقلنا وجابنا المستشفى النضيفة دي؛ دي مستشفى كبيرة وفيها دكاترة كبيرة على أعلى مستوى ناس بتفهم، وكل شوية دكتور جاي، ودكتور رايح !

قاطع كلامها دخول مجموعة من الأطباء، والممرضات، ثيابهم نظيفة وبراقة، ووجوههم نضرة، ظلوا وقتا يفحصون الرجل، ويقيسون له النبض؛ الضغط؛ السكر؛ .. .. ، وعندما خرجوا من الباب؛ خرج وراءهم شعبان، سأل أحدهم، وكان طبيبا كبير السن يبدو عليه الوقار :

-         لو سمحت يا دكتور .. .. هو والدي عنه إيه ؟!

-         والدك كان بيعاني من إجهاد زائد، واضح إنه ضغط على نفسه في الشغل، وشال فوق طاقته، كل ده عمل حِمل زائد على قلبه، إنما هو أصبح في أحسن حال، ومش بعيد أكتب له على خروج بكره بإذن الله.

-         بس يا دكتور، الدكاترة في التخصصي قالوا ان عنده جلطة على المخ !

-         شوف حضرتك .. .. لا توجد أي شبهة جلطة، وعلى فكرة عملنا لوالدك آشعة مقطعية جديدة، اطمئن حضرتك، ولعلمك والدك كان في عِداد الأموات لو كان فضل ياخد علاج الجلطة، والمحاليل اللي متعلقة له دلوقتي مجرد فيتامينات ومقويات، اطمئن !

تركه الطبيب واقفا مذهولا أمام باب الغرفة، أغمض عينيه، ورفع يديه للسماء وهو يردد :

-         الحمد لله .. الحمد لله !

ثم عاد ليبشر أمه وأبيه، سبقته أمه بقولها، والفرحة تملأ عينيها :

-         سمعت الدكتور وهو بيقول انه هايكتب لابوك على خروج بكره أو بعده بالكتير .

-         أيوه تمام .. .. هو لسه كان بيبشرني .. ..

انفتح الباب، كان وجه عم برقوق يطل بفرحة ممزوجة بالدهشة، كان شعبان يجلس على طرف السرير الذي يرقد عليه أبوه، دخل عم برقوق وجلس على الحافة الأخرى من السرير، وهو يقول بسعادة واضحة :

-         ألف حمد وألف سلامة عليك يا أبو شعبان، بسم الله ما شاء الله أنا شايفك النهارده أحسن ألف مرة من قبل كده .. .. الحمد لله .. .. الحمد لله !

حاول عبد العظيم أن يقوم من رقدته، ويقعد، ثم قال :

-         كتر خيرك يا صاحبي .. .. كتر خيرك والله، أنا فعلا حاسس إن روحي ردت في جسمي تاني، ده انا كنت هاموت في المستشفى الشؤم دي .. .. جلطة إيه اللي عاوزين يلزقهوا لي، حرام عليهم والله العظيم .

-         يا عبد العظيم الحمد لله انك جيت هنا .. .. ده انا آخر مرة شفتك في التخصصي قلت انك خلاص !

-         افتكرتني مت .. .. والله عندك حق كلامهم يموت !

ضربت أم شعبان صدرها بيدها، وهي تقول معاتبة :

-         بعد الشر .. .. بعد الشر عنك يا أبو شعبان !

-         دانت لا كنت بترمش ولا بتتحرك، بصراحة أحسن انك خرجت ونفدت من بين إيديهم، اتكتب لك عمر تاني والله العظيم .

-         أخبار القهوة إيه .. .. والمعلم أبو السيد أخباره إيه ؟!

-         سيبك من القهوة، وخليك في صحتك .. .. صحتك وسلامتك بالدنيا !

-         تسلم يا صاحبي .. .. بس يا ريت تبلغ المعلم أبو السيد إني يوم ولا اتنين وراجع الشغل بأمر الله، بلّغه ليجيب حد تاني !

حرّك شعبان يديه في الهواء معترضا، وقال متوسلا :

-         لا يا با، شغل لأ .. .. انت محتاج راحة .

-         وهانصرف منين يا ابني .. .. دي الدنيا كل يوم بتزيد غلا .. .. ولا تكون اتعينت في الشركة ؟!

-         فعلا اتعينت وبمرتب كبير كمان .

ظهرت علامات الفرح على الجميع، لدرجة أن عبد العظيم قام من مكانه، وأنزل ساقيه ولمس بهما الأرض، وقعد على حافة السرير ملاصقا لابنه؛ وربت بيده على ظهره، وهو يقول بفرح :

-         ربنا يوفقك يا ابني، والله العظيم أنا حاسس إني شفيت خلاص !

رفعت أمه يديها للسماء، وهي تدعو وتقول:

-         ربنا يوفقك، ويكتب لك في كل خطوة السلامة والخير كله يا رب !

-         ألف ألف مبروك يا شعبان

-         الله يبارك فيك يا عم برقوق

-         واتعينت في شركة إيه يا ابني ؟!

-         شركة بتشتغل في المينا .. .. هاشتغل عندهم في الحسابات

-         مينا دمياط .. .. ما شاء الله ! ربنا يوفقك ويثبت أقدامك

أحس شعبان بسعادة كبيرة عندما اطمأن على صحة أبيه، كانت المستشفى الخاصة فعلا على درجة عالية من الكفاءة؛ ومزودة بأحدث الأجهزة الطبية الحديثة؛ وبها طاقم من الأطباء من ذوي الخبرة، وأثناء وجوده، أقبل عدد كبير من الأقارب والجيران لزيارة أبيه، وكانوا جميعا يبدون دهشتهم، بل وتساءل بعضهم عمن يسدد تكاليف هذه المستشفى، وهم يعلمون أنها باهظة التكاليف !

     مرّ الوقت سريعا، وأنساه فرحه بشفاء أبيه وعده للمحافظ، وفوجيء شعبان بالباب يُفتح، ويدخل منه سليم السائق الخاص بالمحافظ، فما كان منه إلا أن استأذن من والديه وأقاربه، وقدَّم سليم لهم على أنه مندوب من الشركة التي سيعمل فيها، ثم انصرف معه، ودعوات أمه وأبيه تودعه

     ركب شعبان بجوار سليم، وطول الطريق إلى مبنى المحافظة كان الصمت ثالثهما، استقبله السيد المحافظ  في مكتبه بحفاوة كبيرة، ولم ينس شعبان هو الآخر أن يشكره على اهتمامه الكبير بأبيه المريض، ورعايته وعلاجه، وبادره المحافظ بقوله :

-         يا شعبان أنا مقدِّر إنشغالك بمرض والدك، ومقدِّر الظروف اللي انت فيها، لكن زي ما انت عارف السكِّينة فوق رقبتي، والمهلة رغم إنها شهر لكن أنا شايف إنها قصيرة جدا، وانت بتقول إن ممكن نجمع المبلغ الكبير ده في خلال أسبوع ! .. .. صحيح ؟!

ابتسم ابتسامة الواثق، وقال :

-         ممكن سعادتك نسترد كل اللي تم نهبه  في الست شهور الماضية، وممكن كمان نسترد كل اللي نهبوه طول السنين اللي فاتت، وبرضاهم ومن غير ما يحسُّوا أو يشعروا بأي شيء !

ظهرت الدهشة على وجه المحافظ، وقال متعجبا :

-         إزاي ؟!

همس شعبان في أذنه :

-         ممكن نكمِّل كلامنا في الجنينة؛ سيادتك فيه مثل بيقول ( الحيطان ليها ودان ) !

تجوَّل المحافظ  بنظره في أرجاء المكتب، ثم هز رأسه موافقا، وخرجا حتى أصبحا في وسط الحديقة، قال شعبان معتذرا :

-         آسف يا سيادة المحافظ، لكن أي خطة بيكون مصيرها الفشل إذا فقدت سرِّيتها .

-         كلامك صحيح، لكن مكتبي مؤمَّن، مفيش حد يجرؤ يتجسس أو يتصنت  .. ..

قاطعه شعبان بثقة :

-         سعادتك الاحتياط واجب، وعموما الخطة سهلة جدا، أنا عارف الأشخاص بالاسم وعارف الطرق اللي بيتم بيها تحويل الأموال من رسوم كانت هتدخل ميزانية المحافظة إلى عمولات ورشاوي بتدخل حسابات  شخصية ! كل ده طبعا هيتم وقفه .

-         تقصد بإقالة الأشخاص دول، وتحويلهم للنيابة لاسترداد الأموال، ده موضوع هيحتاج وقت طويل، واحنا مفيش قدامنا وقت !

-         يا فندم لو تمت إقالة الناس دي نبقى قضينا على الخطة من قبل ما نبدأها ، الفاسدين دول لازم يفضلوا في مناصبهم بدون أي تغيير، وكل اللي هيحصل إننا هنعمل لهم مصيدة؛ خطة محكمة بس ما يعلمش بها حد غير سيادتك .

ظهر الضيق على وجه المحافظ، ولاحظ شعبان ذلك؛ فقال :

-         حضرتك عارف المثل اللي بيقول ( لولا الطماع ما كان النصاب )

-         يظهرعليك غاوي أمثال ، كمِّل عاوز تقول إيه ؟!

-         ممكن نطمَّع الناس دي عن طريق عمل مصيدة؛ عبارة عن إعداد أوراق وملفات خاصة بتقسيم مساحات كبيرة من الأراضي في مناطق نائية على الشريط الساحلي الممتد من رأس البر ودمياط الجديدة حتى جمصة؛ وتكون هذه المشروعات بعناوين برّاَقة، مثل : ( مدينة رأس البر الجديدة ) ، ( لؤلؤة دمياط الجديدة ) ، وأن يتم تحديد فترة قصيرة لإنشاء هذه المشروعات لا تتجاوز خمس سنين، يتم فيها إنشاء الطرق والمرافق الخاصة بهذه المدن الكبيرة، وأن يُرفق مع أوراق هذه المشروعات قرار من سيادتك بأن جميع المنشآت والمصالح  الحكومية في المحافظة، سيتم نقلها إلى إحدى هذه المدن الجديدة لتصبح عاصمة المحافظة .

قاطعه المحافظ بانفعال واضح :

-         الموضوع ده هيحتاج موافقة وزارات وجهات كثيرة و .. ..

-         سيادتك لن نحتاج أي موافقة من أي جهة .. .. الموضوع كله عبارة عن حبر على ورق ! صدقني سيادتك  هؤلاء الناس سيشترون المتر بخمسمائة جنيه مع أنه لا يساوي مليم واحد

-         لكن ده يبقى نصب !!

-         صحيح يبقى نصب لو تم الإعلان عنه، لو تم عمل دعاية له، يبقى نصب لو بعنا .. ..

-         أمال احنا هنعمل إيه ؟!

-         كل اللي هنعمله مجرد كلام، وخطط مفبركة على ورق، والمفروض إنها سرية وغير معلنة، وإنها ما زالت تحت البحث والدراسة؛ مجرد مقترحات، وصدقني في وقت قصير جدا سيتسابق كبار اللصوص لشراء هذه الأراضي سيحاول كل واحد منهم أن يحصل على أكبر حصة !

-         لكن انت بتقول المتر لا يساوي مليم، لأنها أراضي نائية وبعيدة ! إزاي هنعمل طرق ومرافق دي محتاجة تكلفة رهيبة ؟!

-         يا فندم إحنا مش هنبيع، همه اتعودوا على نظام الرشاوي والعمولات، والشراء من تحت الطرابيزة، همه هايشتروا  وهيدفعوا وهيوردوا فلوسهم للخزنة؛ وهمة في غاية الرضا والسعادة؛ يا فندم ده اللي بيحصل كل مرة قبل الإعلان عن أراضي أوشقق بيعرفوا قبل أي حد .. .. عندهم ألف طريقة وطريقة، دول بيحجزوا معظم الوحدات السكنية قبل ما ينزل الإعلان عنها؛ وبمجرد الإعلان بيكونوا تمموا أوراقها ! صدقني يا فندم الخزنة هتكون مليانة، وبكده نبقى رجَّعنا الفلوس اللي اتنهبت .

-         وبعدين ؟!

-         وبعدين .. .. هو حد ضربهم على إيديهم يشتروا هذه الأراضي؛ الجشع والطمع هو اللي دفعهم يخسروا فلوسهم .

سأله المحافظ بقلق :

-         انت واثق من الخطة دي، أصل مش معقول تعدِّي عليهم بالسهولة دي ؟!

-         سيادتك أنا من قبل ما أقابل حضرتك، وأنا بافكر في الخطة دي، بقالي شهور بفكر في طريقة ترجَّع للبلد فلوسه المنهوبة.. .. صدقني  الطمع هيعمي عنيهم .

     لم يكن أمام المحافظ حلا آخر، وكانت البداية بناء سور طويل جدا حول مساحة كبيرة قريبة من رأس البر، واقترح شعبان أن يكون السور عبارة عن أجولة كبيرة يتم ملؤها بالرمل ثم غلقها بإحكام؛ ثم رصها في صفوف فوق بعضها ؛ بطريقة هندسية؛ كان بناء السور بهذه الطريقة البسيطة سهلا جدا؛ ولم يستغرق غير وقت قصير، رغم أن ارتفاعه بلغ خمسة أمتار ! كما أن تكلفته كانت زهيدة جدا، فالرمال في كل مكان، وعلى الأبواب تم تعليق لافتات مثل ( مدينة رأس البر الجديدة ) ، ( مدينة المستقبل ) ، ( العاصمة الجديدة ) .. ..

     وكما توقع شعبان تهافت الكثير على قطع الأراضي لشرائها؛ لدرجة أن بعضهم اشترى أكثر من قطعة ! وامتلأت الخزينة عن آخرها ! ووفى المحافظ بوعده، ورغم أن كل شيء كان تحت سمع وبصر المحافظ، إلا أنه لم يصدق ما يحدث؛ وتساءل متعجبا :

-         الناس دول كلهم عرفوا منين بأمر المشروع الوهمي، وهو لسه مقفول عليه في الأدراج ؟!

-         سعادتك .. .. الناس دول عاملين زي عصابة كبيرة بتربط بينهم  مصالح وتربيطات زي ما يكونوا شبكة كبيرة؛ ولهم عيون في كل مكان حتى جوه مكتب سيادتك، ولهم عيون في كل المكاتب المهمة، وبمجرد ما يكون فيه مشروع أي مشروع، بيعرفوا ويعرَّفوا بعض، ويوزعوه على بعض زي ما يكون فطيرة !

سأله المحافظ سؤالا لم يتوقعه :

-         إنت معاك إيه يا شعبان، شهادتك إيه ؟!

أجابه وهو في غاية الحرج؛ لأن شهادته متواضعة جدا :

-         دبلوم فني تجاري !

-         معقول أنا مش مصدق، إنت أكيد بتهزر، دي خطتك اللي اسمها المصيدة ما تخطرش على بال أعظم خبراء الاقتصاد في بلدنا، إنت فلتة من فلتات العصر

ثم استطرد، وهو يربت على كتفه بإعجاب :

-         أنا قررت أعينك مستشاري الأول .

-         ممكن أكون مستشار حضرتك، لكن في السر بدون أن يعلم أحد !

-         تقصد إيه ؟!

-         اعتبرني مستشارك السري؛ وعينِّني في وظيفة عادية داخل مبنى المحافظة، أنا بشخصيتي الحالية المغمورة، أقدر أمشي وسط الناس؛ وأعرف كل صغيرة وكبيرة؛ وده هيساعدنا كتير، لكن المنصب الرسمي الكبير، هيسلط عليَّ الأضواء ويقيِّد تحركاتي، الأفضل لنجاح خطتنا إني أكون في الظل .

أبدى المحافظ إعجابه بكلامه، وقال له مؤيِّدا :

-         عندك حق .. .. فكرتك دي عبقرية، يا ريت أقدر أعمل زيك، لكن المشكلة إن كل الناس حافظين صورتي !

 

6

أصبح شعبان المستشار الأول للمحافظ، وأصبحت جميع الخيوط في يديه، يحركها في الخفاء كما يشاء، ودون أن يعلم أحدٌ بأمره، لقد نجح في أن يظل بعيدا عن الأضواء، ربما كانت هذه طبيعة شخصيته، لكن هذا الأمر بالفعل أفاده كثيرا، وكفاه شر مؤامرات وعداوات رهيبة كانت تدبَّر في الخفاء لإسقاط المحافظ ! لا سيما عندما قام مؤخرا بتغييرات

كبيرة طالت  الذين يشغلون الوظائف القيادية في المحافظة؛  فبعد أن امتلأت الخزينة، وسدد التزاماته للحكومة؛ شرع في إقالة الكثير من المسؤولين وعلى رأسهم مستشاريه القدامى، بل وأحالهم للنيابة للتحقيق معهم .

     ساعده على هذا، ذلك الصيت الرهيب الذي اكتسبه عندما ظل فوق الكرسي، ولم يتم استبعاده أو تغييره ضمن حركة التغييرات التي طالت الكثير من المحافظين، فعندما تم إعلان حركة تغيير المحافظين رسميا في التلفاز، وفي الصحف، ولم يذكر اسمه ضمن المستبعدين - كما أشيع من قبل – أصبح لدى الجميع قناعة بأنه مسنود جدا لدرجة كبيرة، ولا يمكن إزاحته من منصبه .

     في خلال أشهر معدودات تغيرت أشياء كثيرة للأفضل، وتحسنت أحوال الناس، الشوارع أصبحت نظيفة، كان الناس يستيقظون كل يوم فيجدون شوارعهم تلمع، فقد صدرت الأوامر بأن يكون دوام عمال النظافة ليلا، كذلك زادت المعاشات، رغم أن الحكومة لم تعلن عن أي زيادة، فقد بدأت المحافظة تخصص حصة من مكاسبها في بيع الأراضي؛ تساهم بها في رفع قيمة المبالغ المصروفة لأصحاب المعاشات؛ وكان لذلك أثرٌ كبير في النفوس، كما انتشرت بين الناس شائعة ما لبثوا أن تأكدوا من صحتها؛ فقد بدأت المحافظة في صرف حصص كبيرة من الأخشاب والأبلكاش للنجارين، وبنظام التقسيط المريح ؛ كما أن الشوارع التي كانت تختنق من كثرة الإشغالات، ومن الباعة الجائلين؛ تحسَّن حالها؛ فتم رفع هذه الإشغالات، وأصبح في كل شارع عدد من الكاميرات للمراقبة؛ كما تم مد طريق الكورنيش وتوسعته وتزيينه، كما بُدئ في إنشاء عدد من الكباري الجديدة على النيل ، وإقامة مدارس جديدة، ومستشفيات، ومصانع .. ..

     إن حجم الأموال التي نجح المحافظ في وقف اختلاسها كان أكبر بكثير من المتوقع ! لقد كان هؤلاء الفاسدون بالفعل من مصاصي الدماء الذين يستنزفون موارد البلد، وينهبون خيراته     

     أصبح شعبان في نظر العامة أحد موظفي التنظيم والإدارة في مبنى المحافظة، وله مرتب كبير، كما أصبح لديه شقة واسعة تطل على النيل مباشرة، يعيش فيها مع أبويه، كما صرفت له المحافظة شقة في دمياط الجديدة؛ إنها الشقة التي كانوا ينتظرون الحصول عليها وهم في البيت القديم .

     تبدلت الأحوال، وترك الحاج عبد العظيم عمله في المقهى الشعبي بعد إلحاح كبير من ابنه، واشترى له شعبان محلا صغيرا في شارع الشرباصي، حوَّله إلى بوتيك لبيع الملابس ووظف فيه فتاتين لتقوما بكل العمل، وكان الحاج عبد العظيم يجلس أمام المحل، وأحيانا تأتي أم شعبان فتجلس بجوار زوجها   

وتتأمل تيار الحياة الجارف، الذي يعبر الشارع ولا يتوقف، وأحيانا كانت تشارك الفتاتين في عملية البيع، ولطيبتها الشديدة كانت تلين لإلحاح الزبائن وفصالهم؛ وتبيع بأقل من سعر البيع المحدد، وأحيانا تعطي قطعة الملابس لزبونة بدون مقابل، إذا وجدتها فقيرة، فتدفعها لها وهي تقول :

-         دي هدية .. .. والنبي قبل الهدية !

كان المكسب زهيدا، لكن شعبان كان سعيدا بسعادة والديه، خصوصا عندما كان يأتي أصدقاء والده، مثل عم برقوق ويجلسون معه أمام المحل، وكان يسمع أباه يتباهى به أمامهم، وجاء الكثير من أقاربه، بل وظهر لهم أقارب لم يرهم من قبل ! وبدأت الحياة تبتسم لهذه الأسرة الصغيرة، وتفتح لها ذراعيها .

     حتى جاء يومٌ كان فيه شعبان يقف مع المحافظ على الكورنيش أمام مبنى المحافظة، وفاجأه بقوله :

-         بارك لي يا شعبان !

قال دون أن يسأل عن السبب :

-         ألف مبروك يا فندم !

تابع المحافظ قائلا :

-         وصلني من مصادر موثوق منها في مؤسسة الرئاسة إني مرشح لمنصب وزير .

ابتسم شعبان ابتسامة كبيرة، وقال بفرح :

-         ألف ألف مليون مبروك .. .. حضرتك تستحق تكون رئيس وزارة مش بس وزير .

-         إنت شايف كده يا شعبان ؟

وهو يحك ذقنه بيده، رد قائلا :

-         بصراحة  لو سعادتك عايز رأيِّ .. .. أنا شايف إن محافظ  أفضل بكتير من وزير !

لم يتمالك نفسه من الضحك، وهو يتساءل متعجبا :

-         إزاي ؟!

-         سعادتك بدأت طريق ولازم تكمِّله، الناس هنا طايرين بيك، وبيهتفوا بإسم معاليك، المشاريع اللي بدأتها  مجرد ما تمشي هيكون نصيبها الإهمال، ومش بعيد - زي العادة - المحافظ الجديد يوقف العمل في  كل المشروعات دي، ويهد كل اللي احنا بنيناه، وبعدين سعادتك وضع الحكومة اليومين دول ما يطمنش، وأي منصب فيها يعتبر على كف عفريت .

-         بقول لك فيه تغيير وزاري وشيك؛ يعني هيكون فيه استقرار !

-         سعادتك عارف إن التغيير في بلدنا ما بيفرقش كتير، يعني وزير الإعلام هيبقى وزير الثقافة، وبتاع الثقافة يقعد على كرسي وزير الرياضة، مجرد تغيير أماكن بس

-         مش للدرجة دي .. .. بدليل إني محافظ، وهيتم تعييني وزير .. .. أكيد فيه تغيير في الأشخاص .

-         أنا بقول لحضرتك الكلام ده لأني عايش وسط الناس، وحاسس بيهم، وصدقني سعادتك الناس مش راضية عن أداء الحكومة الموجودة؛ الناس بتغلي .

-         عايز تقول إني بعد ما أبقى وزير ممكن أتشال بسرعة معقول الكلام ده ؟!

-         لا يا فندم ! أنا كل قصدي إن حضرتك محبوب هنا والناس سعيدة ومبسوطة بشغل سعادتك، إنما لما تبقى وزير وسط أعضاء الحكومة الحالية المكروهة من الشعب، مهما يكون أداؤك فأنت في نظر الناس هتكون جزء من المنظومة الفاشلة، السيئة بتعم والحسنة بتخص .

-         كلامك مظبوط لكن فيه حاجة مهمة إنت مش واخد بالك منها .. .. قرار تعييني وزير هو قرار تكليف، ورفضي أو اعتذاري هيكون له مردود سيء جدا جدا عند الرئاسة

-         فعلا، النقطة دي كانت غايبة عني .. .. ربنا يوفق سيادتك، ويعينك على هذه المسؤولية الكبيرة !

-         ويوفقك، إنت فاكرني هسيبك هنا، إنت هتفضل مستشاري الأول، أنا اللي بيشتغل معايا وبستريح له بيبقى واحد من عيلتي، وانت خلاص بقيت واحد من العيلة .

-         ده شرف كبير يا فندم، وأنا بشكر حضرتك على هذه الثقة الغالية، لكن أنا طول عمري عايش في دمياط، وما أقدرش أسيب والدي ووالدتي، ما أقدرش أبعد بعيد عنهم .

-         بسيطة ينقلوا معانا، مصر جميلة جدا، وصدقني الحاج والحاجة هيستريحوا قوي هناك، واهو تغيير .

     تذكر شعبان أن والديه لم يخرجا يوما من دمياط، ولم يبتعدا عنها أبدا؛ فاستأذن وانصرف، صعد مكتبه، وغيَّر ملابسه، فهو أثناء العمل يرتدي بدلة وكرافتة، ونظارة سوداء كبيرة تخفي الكثير من ملامحه ! كما أنه يقوم بتسريح شعره بطريقة مختلفة جدا، وتثبيته بالجل، أما في الشارع فيكون على سجيته، حتى أنه كان يمشي المسافة التي تفصل بين شقته ومكان عمله، فالمسافة قصيرة جدا، وكان والداه لا يعودان إلى الشقة إلا في وقت متأخر، بعد أن ينتهي العمل في المحل، فالجلوس في الهواء الطلق، في شارع الشرباصي النابض بالحياة، أفضل بكثير من الجلوس في شرفة شقتهما، لذلك اندهش كثيرا عندما سمع صوتهما داخل الشقة في هذا الوقت المبكر، وسرعان ما عرف السبب؛ عندما سمع أيضا صوت ضيوف، وكان من الواضح أنهم ضيوف مهمون جدا بالنسبة لوالديه، عرف ذلك من الاهتمام البالغ والحفاوة الكبيرة التي يبديانها لهم .

     أبدى ترحيبه بهم، ثم استأذن ودخل حجرته، فوجد أمه وراءه كظله تتبعه، وتعاتبه :

-         معقول يا ابني هتسيب ضيوفك، وتدخل أوضتك !

-         معلش يأ أمي أنا راجع من الشغل تعبان، ومش هقدر أقعد معاهم، وبعدين انتي وأبويا الخير والبركة ,

-         لا يا ابني دي مش أصول .. .. الناس جايين علشانك !

-         علشاني ؟!

-         أيوه .. .. علشان تشوفهم وتتعرف بيهم، دول جيرانا ساكنين في عمارة قريبة من هنا ، إزاي نبقى ساكنين في منطقة واحدة وما نعرفش بعض ؟!

-         طيب أتعرَّف بيهم بعدين

-         يا ابني تعالى بس وشوفهم، دول طيبين وولاد حلال قوي، والا بنتهم يا سلام عليها جمال وأخلاق و .. ..

-         واضح كده من الآخر إنه موضوع خطوبة !

-         نفسي يا ابني أشوف عيالك قبل ما أموت ويتاويني التراب

انكب على رأس أمه، ويديها يقبلها، ويقول باضطراب :

-         بعد الشر عنك، ربنا يديكي الصحة انتي وأبويا، ويطول لي في عمركم !

-         يا شعبان يا ابني انت عديت الخمسة وتلاتين سنة، انت عارف أبوك اتجوزني وهو عنده كام سنة ؟!

-         عارف .. .. عارف والله العظيم، كان عنده تسعتاشر سنة ! بس الظروف اتغيرت فيه ناس دلوقتي بتتجوز وهي في الأربعين .

-         لا يا ابني .. .. إنت كده هتزعلني أنا وأبوك، هو انت مستكتر علينا نشوفك ع الكوشة انت وعروستك .. .. نفسنا يا ابني نشوف خِلفتك !

رأى الدموع تنهمر من عينيها، فاحتضنها بعطف وقد نفدت منه كل الحجج، كانت حجته  - من قبل – في عدم الزواج ضيق ذات اليد، الفقر قطع طريق الزواج عليه طوال السنوات الماضية، ولم يكن يجرؤ على التقدم لأي فتاة، وكيف ذلك ولم يكن يملك إلا عدة لاءات؛ لا شقة؛ لا مهر؛ لا مال لديه لشراء الشبكة؛ لا .. .. ؛ لا عمل ثابت ومستقر ينفق منه! أما اليوم فقد ذاب جبل الجليد، انتهى فقره الأسود، وأصبح لديه شقة فارهة في موقع متميز على النيل، ووظيفة مرموقة، وراتب كبير؛ يضمن له ولمن سيتزوجها حياة كريمة .

     أراد أن ينتشل أمه من موجة الحزن، والدموع العاتية، فقال لها معاتبا :

-         وبعدين هي الدنيا انقلب حالها .. .. مش كان زمان العريس هو اللي بيروح يشوف العروسة في بيت أهلها ؟ دي أكيد بقى عروسة سَكَّة !!

ابتسمت، وهي تقول له :

-         ما تظلمشي البنيَّة يا شعبان .. .. دي عروسة لقطة .. .. أميرة بنت أمرا .. .. وبصراحة أنا وأبوك اللي عملنا كده

-         عملتوا كده ؟!

-         عزمناهم عندنا علشان تشوفها وتشوفك، ما انت دايما مشغول، وكل ما نقول لك معزومين عند ناس تتحجج بالشغل ! وحتى الأفراح ما بتروحهاش زي ما يكون معمول لك عمل مكرَّهك في الجواز !

لم يجد بدا من الذهاب مع أمه إلى حجرة الضيوف، والجلوس معهم، كانوا كما قالت له أمه في غاية الذوق والاحترام، وكانت الفتاة آية في الجمال، بل كان جمالها مبهرا، إنها فاتنة بصورة ملفتة للنظر ! ورغم انبهاره بجمالها الأخاذ، إلا أنه لم يشعر نحوها بأي عاطفة، ولم تحرك لديه ساكنا، حتى أنه تعجَّب من حاله هذا، وشعر بمزيج من الحزن والخوف !

     تركهما الأهل وحدهما، وجلسوا بعيدا عنهما، وعلى مرأى منهما؛ كانت جريئة جدا كفتنتها الطاغية، فبادرته بهذا السؤال :

-         هو حضرتك بتشتغل إيه بالظبط ؟

-         موظف في ديوان المحافظة .

-         أيوه .. .. أنا عارفة كويس إن حضرتك متعين في المحافظة، بس أنا أقصد نوعية شغلك !

-         أنا بشتغل في قسم خدمة المواطنين ..

بتلقائية منها وضعت ساقا فوق الأخرى، وقالت :

-         بس مرتبات الموظفين في قسم خدمة المواطنين أقل مرتبات !

وجد نفسه يقول لها مؤيدا :

-         فعلا !!

وجدها تسأله وكأنها نحقق معه :

-         إسمح لي أسألك إزاي في سنتين اتنين وبمرتب الحكومة الهزيل ده قدرت تشتري شقة تمليك في مكان راقي زي ده، ومحل تمليك في أغلى حتة في الشرباصي ؟!

فوجئ بهذا السؤال العجيب الذي لم يكن في حسبانه، ولم يخطر على باله أنه سيتعرض له؛ فلم يجهز له إجابة، لكنه تمالك نفسه، وقال لها :

-         هو حضرتك بتشتغلي في الضرايب ؟!

-         لا أبدا .. .. لا ضرايب ولا حاجة .. .. بس يهمني جدا إجابتك على السؤال !

-         مش فاهم قصدك إيه ؟

-         بصراحة، وحضرتك عارف إحنا مش صغيرين، إنت على حسب ما عرفت عندك خمسة وتلاتين سنة، وأنا كمان عندي .. ..

-         خمسة وتلاتين برده ؟!

ضحكت حتى بدت أسنانها، كانت ناصعة البياض ومنسقة مثل حبات اللؤلؤ المنضود، وقالت :

-         لا أبدا .. .. لا .. .. لا مش للدرجة دي .. .. أنا في أكتوبر الجاي أتم تلاتين سنة بس

احمرَّ وجهها قليلا لا يدري لما، ربما اعتراها بعض الخجل عندما ذكرت له عمرها، سألها هو الآخر :

-         وحضرتك بتشتغلي إيه ؟

-         الحقيقة أنا خريجة حقوق، وتدرَّبت سنتين في مكتب محامي مشهور جدا، لكن قررت في النهاية ما أشتغلش في مهنة المحاماة .

-         ممكن أعرف ليه ؟!

-         بصراحة الشغل في مكاتب المحاماة بيكون في جو غير نقي .. .. إنت عارف إن الضمير أصبح سلعة وبالفلوس الحق يبقى باطل، وبالفلوس الباطل يبقى حق، يعني مثلا أنا فوجئت إن تجار مخدرات بفلوسهم اللي بيدفعوها أتعاب للمحامي بياخدوا براءة !

-         الكلام ده موجود في كل مكان، كل مكان فيه الصالح والفاسد، إيه المانع إنك تشتغلي محامية وتكوني نموذج مشرف يدافع عن الحق، ويدافع عن الأبرياء .

-         ويا ترى لما تجيلك قضية وتدافع فيها عن متهم وتبرأه، وبعدين تكتشف إنه مجرم وكان يستحق العقوبة، تعمل إيه ؟!

-         كل إنسان معرَّض للخطأ، و لا توجد  مهنة تخلو من الأخطاء، الأخطاء وارد حدوثها .

-         فيه حاجات ما ينفعش فيها الكلام ده، غلطة واحدة ممكن تحيي إنسان، وممكن تموِّت إنسان، وبصراحة أنا ما أقدرش أتحمِّل ذنب أي إنسان .

تأمَّلها بعمق، وهو يعبر لحظة صمت، حاول فيها أن يكشف سرا واحدا من أسرارها، لكنه فشل فشلا ذريعا !

سأل نفسه متعجِّبا ( كل هذا الجمال والعقل والعلم، ولم تتزوج حتى الآن مؤكد هناك سبب !) لم يستطع أن يوجِّه لها هذا السؤال، بينما وجدها تسأله بجرأة واضحة :

-         بتصلِّي ؟

-         طبعا .. .. هو فيه حد ما بيصليش ؟!!

-         وإيه رأيك في النقاب ؟

-         من ناحية إيه ؟!

-         يعني إيه رأيك فيه، هل تعتقد أنه سنة، أم فرض ؟

-         أنا مش مفتي، وبصراحة ما أقدرش أحكم في الموضوع ده، يعني حضرتك اللي انتي لابساه على شعرك ده مناسب جدا، وشكله جميل .

-         ده مجرد إيشارب، لا هو حجاب ولا هو نقاب !

-         بس والله لايق عليكي جدا !

-         المسألة مش مسألة لايق ولا لأ .. .. المسألة حكم الشرع إيه، حلال ولا حرام !

قاطعهما اقتراب الأهل منهما، جلسوا معهما، وانخرطوا في الحديث معهما، وكانوا جميعا  يشعرون بالتفاؤل، والفرح يبدو على الوجوه، وبعد أن انصرف الضيوف، اقترب الأب من ابنه، وأحاطه بذراعيه بعطف وحنان، وهو يسأله بابتسامة كبيرة :

-         إيه رأيك يا ابني ؟ بذمتك مش قمر أربعتاشر ؟

نظرت إليه الأم نظرة تحمل الكثير، رد عليهما بسؤال واحد :

-         هي ما اتجوزتش من زمان ليه ؟!

وكأنها كانت جاهزة بالرد؛ عاجلته قائلة :

-         اتقدم لها خطاب كتير، بس النصيب يا ابني لسه ما جاش !

-         معقول الجمال ده كله، والثقافة والعلم، وبنت حسب ونسب، ولسه لغاية دلوقتي ما اتجوزتش !!

تنحنح أبوه، قبل أن يقول :

-         الناس دول يا شعبان أعرفهم من سنين، دول ناس مبسوطين ومستورين طول عمرهم، ومحترمين قوي، ومتدينين قوي، والأستاذة ريم إتقدم لها ناس كتير، وكانت بترفضهم، تصدّق يا شعبان إنها رفضت وكيل نيابة علشان بيشرب سجاير، ورفضت محامي مشهور عارف ليه ؟ بتقول إن أكتر فلوس المحاميين حرام !!

-         علشان كده كانت بتسألني عن الشقة والمحل جبتهم منين ؟

-         هز أبوه رأسه، وقال :

-         بقول لك ناس متدينين جدا، وعلى فكرة همه عارفين أصلنا وفصلنا، عارفين إننا ناس معجونين بالفقر، وربنا من علينا وأغنانا من فضله، ولعلمك يا شعبان أبوها معجب قوي بيك وبشخصيتك، وبيقول عنك إنك إنسان عِصامي، بدأت من الصفر، وبيتوقع لك مستقبل كبير .

ربتت أمه على ظهره، وهي تقول له متوسلة :

-         وافق يا ابني علشان خاطري، والله العظيم دي عروسة لُقطة، ما تضيعهاش من إيدك زي اللي قبلها !

وجد نفسه يقول لهما باستسلام :

-         أنا ما أقدرش أزعلكم، بس سيبوني أفكر شوية !

-         يا ضنايا العمر بيجري، وإذا عِشنا لك النهاردة، مش هنعيش لبكره .. .. نفسنا في الفرحة دي يا ابني !

-         ربنا يخليكم لي َّ .. .. اللي تشوفوه !

لم تتمالك الأم نفسها من الفرحة، وحاولت أن تزغرد لكن صوتها كان ضعيفا واهنا، فما كان من الحاج عبد العظيم إلا أن زغرد زغرودة عجيبة بالنيابة عنها !! وغرقوا ثلاثتهم في الضحك، ثم نام عبد العظيم وزوجته، ودخل شعبان حجرته وأغلقها عليه، وظل ساهرا، كان حائرا لا يدري في أي موضوع يركز تفكيره النهك، في المشروعات الكبرى التي تحتاج إلى كل ثانية من تفكيره، أم في هذا الموضوع الجديد والخطير والذي لم يطرأ يوما في تفكيره، ولم يكن ضمن حساباته، وهو تعيين السيد المحافظ وزيرا في الحكومة الجديدة؛ وبالتالي لا يدري ماذا سيكون مصير كل هذه المشروعات التي تتم لأول مرة في محافظته، والتي بهرت الجميع، بل ولا يدري ماذا سيكون مصيره هو شخصيا، فمن المؤكد أنه سيتأثر، فمنصبه السامي والسرِّي كمستشار أول، وسكرتير للمحافظ هو سر بينه وبين المحافظ، لا يعلمه إلا عدد قليل وبالتالي فلن يبقى له في المحافظة إلا وظيفته المتواضعة في قسم خدمات المواطنين ! أيضا ذلك الموضوع الجديد الذي تجنبه طوال السنوات الماضية، وظل يتهرَّب منه، ولو شاء الزواج لتزوج بمجرد أن تغيرت أحواله المادية، فقد تحسنت حالته المادية بصورة كبيرة، وأصبح له راتبان؛ راتب وظيفته المعلنة؛ وراتب وظيفته السرِّية . لقد ظل يتهرب من موضوع الزواج تماما كمن يتهرب من الموت؛ فإذا به يأتيه وهو في عقر داره ! سئم والداه من حججه وتسويفاته، أيصارحهما ؟! إنهما يعيشان على أمل زواجه، ويحلمان برؤية أولاده، لو أخبرهما الحقيقة فسيقضي عليهما، ولو طاوعهما وتزوج، فسيفرحان قليلا ثم تكون الصدمة أكبر من الفرحة، وفي هذه الحالة سيظلم نفسه، ويظلمهما ويظلم تلك الفتاة البريئة، وضع رأسه بين يديه كأنه يسندها قبل أن تسقط منه، تذكر مقولة سمعها من قبل، ووجد نفسه يرددها:

-         ما طار طير وارتفع      إلا كما طار وقع .

وتساءل بينه وبين نفسه :

-         هل حان وقت السقوط .. .. لقد ارتفعنا عامين فقط ؟!

كان يكلم نفسه من شدة حيرته، ووجد نفسه يقول بصوت مرتفع :

-         لو أقدر أقنع أبويا وأمي بطريقة يكون فيها شوية رحمة ، طريقة تقنعهم .. .. ياه أحمدك يا رب .. .. أحمدك يا رب، فعلا بالطريقة دي ممكن يتقبلوا الأمر، هما مؤمنين وبيرضوا دايما بقدر ربنا، من بكره أقوم بعمل فحوصات وتحاليل الزواج، ناس كتير بتعمل تحاليل الزواج علشان تطمئن، وبكده الفحوصات والتحاليل هي اللي هتقول اللي أنا عاوز أقوله .

أقنع نفسه أن هذا هو الحل الأمثل، فهو يحتفظ بسره من سنوات، ولم يبح به حتى لوالديه، خشى أن يصيبهما الحزن إذا علما أن وحيدهما، ابنهما الوحيد، ضاع حظه في الزواج والإنجاب منذ سنوات طويلة ! حدث هذا عندما كان يعمل عتَّالا في مؤسسة دمياط  للأخشاب، كان يحمل على كتفه صفا مرصوصا من الأخشاب السوِّيد، كانت الأخشاب طويلة، وكان زميله يحملها معه من الخلف، بينما شعبان يحملها من الأمام، وزميلهما الثالث يأخذ لوحا بعد لوح من الرصة، ويضعه فوق عربة كارو طويلة يجرها حصان؛ فانزلق اللوح من بين يديه؛ فأصاب جسد الحصان؛ فهاج الحصان وماج وطفق يرفس بقائمتيه الخلفيتين، وكان شعبان الأقرب إليه؛ فأصابته حوافر الحصان، وطار في الهواء مسافة غير قصيرة، ثم سقط على الأرض وهو يتلوى من شدة الألم، كانت رفسة قوية في أسفل بطنه، نقل على أثرها إلى المستشفى، وظل فيها ست ساعات، أجريت له فيها الإسعافات ، وبعض الفحوصات، ووصف له الطبيب بعض الأدوية، والراحة في البيت لمدة شهر كامل! وقال له :

-         الرفسة دي ممكن تموِّت أسد، إنت إنكتب لك عمر جديد، بس المشكلة إنك هتفضل تعاني منها طول عمرك، واحتمال كبير إن الإصابة دي تحرمك من الجواز والخِلفة، لأنها في مكان حساس جدا، فمطلوب منك إنك بعد شهر راحة تعمل التحليل ده، علشان نطمِّن عليك !

لم يخبر أبويه وقتها بما جرى، كان دائم الخوف عليهما، فأخبرهما بأنه تعب من الشغل وأغمي عليه، وأن الناس ذهبوا به إلى المستشفى وهناك اطمأنوا عليه، وأقسم لهما أنه لن يعمل عتالا بعد ذلك أبدا، وظل أكثر من شهر في الفراش لا يبرحه إلا للذهاب للحمام، وبعد أن تعافى، ابتلعته دوامة الحياة، فلم يعمل التحليل، ولم يذهب إلى أي طبيب للمتابعة، وحتى لا يعذب نفسه ويعذب والديه، قرر ألا يفكر أبدا في الزواج، وأعانه على ذلك الفقر المدقع الذي كان غارقا فيه حتى أذنيه، فلا يوجد في هذا العالم أبٌ أو أمٌ ستضحي بابنتها وتزوجها له وهو لا يستطيع أن ينفق على نفسه .

       وحتى عندما تحسَّنت الأحوال، وأصبحت له وظيفة محترمة في قسم خدمات المواطنين في المحافظة، هذا غير وظيفته الغير معلنة كمستشار للمحافظ، وهي وظيفة مرموقة، تتيح لأي شخص الزواج من أي فتاة، لكنه كان عازفا تماما، وزاهدا في هذا الموضوع لدرجة أن العديد من الذين تعاملوا معه كانوا يلقبونه بلقب ( الشيخ ) أو ( القديس ) فطوال عامين كاملين لم تؤخذ عليه أي هفوة فساد مالي أو أخلاقي، رغم الفساد الذي كان الكثير ممن حوله غارقين فيه !

       وفي عصر اليوم التالي، توجَّه إلى معمل البرج؛ أجرى التحليل باسم مستعار، لا يدري لم فعل ذلك، ربما عمله السري عوَّده على التخفي، أو ربما خوفه من نتيجة التحليل أجبره على ذلك، فاجأه طبيب التحليل عندما طمأنه، وأخبره بأنه بخير، ولا توجد أي موانع تمنعه من الإنجاب ! لم يصدق ما سمعته أذناه؛ وذهب إلى عيادة طبيب مشهور، حجز بنفس الاسم المستعار، وعندما حان دوره، وأصبح هو والطبيب في حجرة الكشف؛ حكى له ما حدث له منذ سنوات، ثم أطلعه على ورقة التحليل، أبدى الطبيب تعجبه الشديد خصوصا بعد أن كشف عليه، وقال بدهشة :

-         إنت ظلمت نفسك سنين طويلة، وعشت في ظل الكلام اللي دكتور امتياز قاله لك، وده غلط ، كل إنسان وارد إنه يغلط ، والطبيب اللي كشف عليك من سنين أخطأ في تشخيص حالتك، أنت زي الفل وممكن تتجوز وبإذن الله هتخلف بنات وولاد، لأن مفيش أي مانع عضوي أو مرضي .

كان شعبان ينصت لكلام الطبيب، وكأنه يستمع إلى كلام قاضي المحكمة الذي سيحكم له بالبراءة، أو سيحكم عليه بالإعدام ! دمعت عيناه وهو يسمعه يطمئنه بل ويؤكد له أنه سينجب بناتا وأولادا، واستطرد الطبيب قائلا :

-         إنت سليم يا أستاذ، وممكن تتجوز من دلوقتي، وبإذن الله هتخلف زي ما قلت لك .

-         لكن يا دكتور أنا ما بحسش بأي إحساس تجاه الجنس الآخر، الستات يعني ! الموضوع ده مش موجود خالص !

-         ده حقيقي وأنا مصدقك فعلا .. .. العامل النفسي مهم جدا جدا، وانت فضلت عايش مقتنع مائة في المائة إنك خلاص ما لكش في الجواز، يعني اللي بتعاني منه نفسي مش عضوي؛ وأنا هكتب لك بعض الأدوية، وزي ما قلت لك أهم شيء العامل النفسي، أهم شيء إنك تشعر إنك سليم وطبيعي زي أي حد !

-         يعني يا دكتور أقدر أتجوز ؟!

-         من بكره لو حبيت .. .. ومن بكره ليه من النهاردة !

قام شعبان، وقد  سالت دمعتان من عينيه، أسرع ومسحهما بيده، ابتسم له الطبيب قائلا :

-         ما تنساش تعزمنا بقى على الفرح !

خرج وهو يكاد يطير من الفرح، انطلق يجري في الشوارع، وهو لا يصدق نفسه، حتى وصل شارع الشرباصي، رأى من بعيد شمسه وقمره في هذه الدنيا، إنهما نيله وفراته، توقف ليلتقط أنفاسه، واقترب منهما برِقة بالغة، واحتضنهما معا أمام الناس، وقال لهما بعذوبة بالغة، وفرحة غامرة :

-         خلاص يا أعز الناس، لو عايزين أتجوز من بكره مفيش مانع، هو أنا أقدر أرفض لكم طلب .

       في مساء اليوم التالي كان شعبان ووالداه ضيوفا عند أهل ريم ، قرؤوا الفاتحة، وكانت ليلة رائعة، قضاها الجميع في سعادة، واستأذن الوالدان، وانصرفا تقريبا في الحادية عشرة، وتركا ابنهما مع عروسه، وهو بدوره ظل حتى الواحدة صباحا ثم استأذن هو الآخر وانصرف، وعندما وصل إلى باب العمارة التي يقطن فيها وجد سليم في انتظاره! رأى الخوف والذعر في ملامحه، وبقع دماء على ملابسه، وقبل أن يسأله عما حدث، صدمه سليم بقوله :

-         سيادة المحافظ  نقلوه في طيارة هليوكوبتر لمستشفى القوات المسلحة في القاهرة، وقبل ما يغيب عن الوعي أمرني أبلغك تروح مكتبه فورا؛ فيه ملفات مهمة وخطيرة، قال لي إنت عارفها كويس، وعارف هتعمل فيها إيه .

-         إيه اللي حصل ؟!

-         انضرب عليه نار، وانصاب إصابة كبيرة !

وجم مما سمع، فقد كان منذ ثواني يُحلق من شدة فرحته في سابع سماء، والآن يشعر أنه يغوص في سابع أرض، كانت الصدمة كبيرة لكنه تماسك، وركب بجوار سليم، وانطلقا بالسيارة، وصعد معه سليم إلى المكتب ليساعده في تنفيذ الأمر بسرعة، وبعد فترة نزلا،بعد أن جمعا عددا من الملفات والأوراق ، وركبا السيارة من جديد، قال له سليم :

-          عارف هتعمل إيه بالملفات دي ؟!

هز رأسه، وهو ينظر إلى الأوراق، كان عنوان الملف الأول مشروع مدينة رأس البر الجديدة، كانت هذه أولى حلقات المصيدة، تلك الخطة التي نفذها لاستعادة أموال المحافظة ممن نهبوها . وفي الطريق تذكر مقولته التي كان يرددها دائما على سمع المحافظ، فقد كان يقول له :

-         الغاية تبرر الوسيلة كما قال ميكافيللي .

أحس أنه السبب في محاولة اغتيال المحافظ، فمعظم القرارات التي كان يراها تصب في مصلحة المواطنين ومصلحة المحافظة، كانت ضد أصحاب النفوذ والمال الذين يحتكرون كل شيء، لقد وضع الرجل في مرمى نيرانهم دون أن يدري !

مشروعات كبيرة لمدن جديدة تم تخطيطها على الورق فقط، وتم خداع هؤلاء الكبار، فاشتروا الكثير من الأراضي بملايين الجنيهات، ثم اكتشفوا بعد ذلك أنهم اشتروا الوهم، مجرد حبر على ورق، دفعوا مبالغ طائلة لشراء أراضٍ لا تصلح للبناء، ولا حتى للزراعة، فهى أراضي معرضة لطغيان البحر، وستصبح مغمورة بمياه البحر في أي وقت ! إنه يثق تماما أنهم جميعا لصوص وهذه الأموال سرقوها من البلد، وهو بالفعل أعاد للبلد أمواله، إنه ليس نادما، لكنه يخشى مما ستؤول إليه الأمور .

       وصلا بالسيارة إلى دمياط الجديدة، أوقفا السيارة أمام العمارة التي فيها شقته ( شقة المجلس ) صعدا معا، كانت في الطابق الثالث، لم يأخذا وقتا في حرق الأوراق والملفات، تذكر شعبان وهو يقوم بهذا الأمر، سطح البيت القديم، والبرميل الصاج الذي أحرق فيه الأوراق والملفات في المرة الأولى منذ عامين، بعد أن انتهت المهمة عادا إلى دمياط القديمة، وكأن شيئا لم يحدث .

      محاولة اغتيال محافظ  دمياط الناجح أصبحت العنوان الأبرز في معظم الجرائد والصحف المصرية، بل وفي نشرات الأخبار، الحديث عن إنجازاته، قراراته الحكيمة، وحب الناس له، الأخبار التي تسربت من أفواه بعض الأطباء ليست مطمئنة، الرجل بين الحياة والموت .

       ويبدو أن المنصب كان يتم تجهيزه للقادم الجديد؛ لذلك لم يمر أسبوع حتى وصل المحافظ الجديد، وكما توقع شعبان من قبل، أصبح مجرد موظف في قسم خدمة المواطنين فقط، لم تعد له أي علاقة بمكتب المحافظ  ولا بالمشروعات .

       مرَّت الأيام على شعبان شديدة سوداء أكثر من الفقر الأسود، هذه الأيام بالفعل هي أيام الخوف الأسود، فقد كان خائفا من أن يشي به البعض لدى مافيا رجال الأعمال؛ فيكون مصيره كمصير المحافظ القديم طلقة رصاص في صدره !

الشيء الوحيد الذي كان يخفف عنه كان يوم الثلاثاء من كل أسبوع عندما كان يلتقي بخطيبته، لكن هذا اليوم هو الآخر كاد يسود في وجهه ! فقد بدأ ترحيب أهلها به يفتر، وخطيبته الفاتنة المثقفة التي كانت تبدي شغفها به، بدأ شغفها يذهب شيئا فشيئا بطريقة ملفتة؛ لدرجة أنه بدأ يشك في الأمر! إنه لا يزال في وظيفته في قسم خدمة المواطنين، فلماذا تغيَّرت معاملتهم له ؟! هل كانوا يعلمون بقربه من المحافظ، ودوره كمستشار له ؟! قرر أن يكتشف الأمر، إن الليلة هي ليلة الثلاثاء، وغدا سيكون عندهم، وسيحاول بكل الطرق أن يفهم سر هذا التحول الغريب .

       في اليوم التالي وقبل أن يذهب، مرَّ كعادته من أمام المحل ليطمئن على أبويه، فوجئ بعم برقوق يجلس مكانهما، ولا أثر لهما ! بدأ القلق يتسلل إليه، كلَّمه عم برقوق، كان يحاول أن يخفف عنه من وقع الخبر عليه، وفي النهاية قال له آسفا :

-          والله يا ابني إنت ألف واحدة تتمنى عريس زيك، إنت عريس لقطة، أنا مش عارف الناس دول عملوا معاك كده ليه، يبعتوا الحاجات والهدايا والشبكة ويقولوا خلاص بكل بساطة كده، مش همه كانوا موافقين وفرحانين ؟! دا أبوها هو اللي خطبك من أبوك قدامي هنا حتى اسأل إيمان وحنان !

كانت العاملتان تقفان أمام المحل تنظران بحزن إلى شعبان الذي شعر أن الأرض تميد به، لكنه تمالك نفسه عندما تذكر والديه، فتماسك وكان كل همه أن يطمئن عليهما ، فذهب إلى الشقة، فوجد أباه راقدا في فراشه، أخبرته أمه أنهم نقلوه إلى المستشفى لأنه أغمي عليه عندما وصله خبر فسخ الخطبة، وأن الطبيب الذي قام بالكشف عليه وإسعافه أخبرها بأنه أصيب بداء السكر . أحس أن بركانا يفور ويغلي في صدره، رغم حرصه على أن يبدو هادئا أمامهما، حاول أن يبدي لهما عدم اهتمامه بأمر الزواج، كان كل ما يشغله هو مرض والده، لقد أصيب بالسكر بسببه، غافل أمه وخرج، ذهب إلى شقتهم، فاجأه بواب العمارة بقوله :

-          دول سافروا يا أستاذ .. .. هيقضوا كام يوم في شقتهم اللي في اسكندرية .

       كان له أصدقاء مميزون في معظم المؤسسات، اكتسب صداقتهم طوال عامين أثناء وجوده في مبنى المحافظة ليس كموظف عادي، ولكن بفضل دوره الخفي كمستشار للمحافظ القديم، ارتدى البدلة والكرافتة، والنظارة السوداء الضخمة، وذهب إلى صديقه الرائد حسام طلب منه أن يساعده في دخول شقة أهل خطيبته السابقة، فوجئ بصديقه الوفي يجهز له إذنا باقتحام الشقة، وأعد القوة لتنفيذ الأمر، فقال له موضحا :

-          أنا محتاج أدخل الشقة في هدوء بدون ما يعلم أي حد .

-          خلاص نلغي حملة المداهمة، ونبعت معاك فلفلة .

لم يفهم ما المقصود بفلفلة إلا عندما استدعاه الرائد حسام إلى مكتبه، فوجئ بأنه بلطجي سرقات، لا يستعصي عليه باب شقة، لديه كلمة السر لجميع الأبواب المغلقة، يفتحها دون أن يترك أي أثر، وكأنه فتحها بمفتاحها الأصلي ! ذهب معه، فتح له الباب بكل سهولة، بدأ شعبان يبحث عن أي أوراق أو صور أو حتى مذكرات، يريد أن يتأكد من هؤلاء الناس الذين اقتحموا حياته فجأة دون سابق إنذار، ثم تركوه فجأة دون أي أعذار، وفي نفس الوقت كان فلفلة يقوم هو الآخر بعمله، يبحث عن الذهب والنقود وكل ما خف حمله وغلا ثمنه، فصرخ فيه شعبان محذرا :

-         انت بتعمل إيه ؟!

-         بنفذ الأوامر يا باشا .. .. لازم يبان الموضوع على إنه عملية سرقة علشان سعادتك ما تنكشفش !

-         الأوامر يا فلفلة إنك تنفذ أوامري .. .. وأنا بأمرك ترجَّع كل حاجة لمكانها وتوريني عرض كتافك بسرعة، انت دورك تفتح لي الباب بس .

لم يجادله، فقد كان مرشدا تعوَّد على تنفيذ الأوامر، غادر الشقة، فأصبح شعبان وحده يبحث عن أي مستندات توضح له حقيقة ما حدث . وفجأة سمع صوت أقدام عند باب الشقة، ظن أن فلفلة قد عاد، كان في غرفة ريم يبحث في مقتنياتها، فلما وجد صوت الأقدام يقترب وأنوار الشقة تضاء، تمدد على الأرض ودخل تحت السرير مختبئا، دخلت ريم وتبعها أبوها، جلسا على حافة السرير ، سمعهما يتحدثان :

-         يا بابا عم عبد العظيم راقد في السرير، أصيب بمرض السكر من حزنه بعد ما سمع الخبر، وكان ممكن يموت فيها، وشعبان ذنبه إيه في كل اللي حصل، أنا ضميري بيأنبني قوي .

-         يا بنتي قلت لك قبل كده إن حياتنا مش ملكنا، إحنا مجرد ترس صغير ضمن تروس كتير، وحركتنا لازم تكون محسوبة، وإلا مش إحنا بس إللي هنضيع، التنظيم كله هيضيع .

-         لكن يا بابا إيه ذنب الناس الغلابة دول نظلمهم معانا، دول ناس طيبين قوي ومسلمين زينا .

-         يا بنتي إحنا ما ظلمناش حد، شعبان كان هو المحافظ الفعلي، وكان هو اللي بيقرر، وهو اللي بينفذ، كان اللاعب الأساسي من ورا الستارة، وكان مؤكد عندنا إنه هيكون عضو بارز في الحكومة في يوم من الأيام رغم مؤهله الحقير، وشهادته المتواضعة !  إنتي عارفة إحنا كسبنا عدد كبير من كراسي البرلمان، وكنا محتاجين نحجز لنا كراسي في مؤسسة الرئاسة، لكن للأسف بدون أي مقدمات، الرجل الحديدي اللي كان بالنسبة لنا الكوبري اللي هنعدِّي عليه للحكومة لم يعد له وجود، أصبح مجرد موظف بالدبلوم في خدمة المواطنين !

استطرد قائلا :

-         يا بنتي إحنا قربنا قوي من الهدف المنشود، اللي بقى لنا سنين طويلة بنحلم بيه، شمس الفرعون بدأت تزول، والبديل الوحيد أمام الشعب هو احنا، أي مشاعر أو أحاسيس هتعطل مسيرتنا لازم ندوس عليها، كل شيء يهون في سبيل قضيتنا العظيمة .

دخلت عليهما الأم، قالت متعجبة عندما لاحظت الدموع في عيني ابنتها :

-         معقول يا ريم بتعيطي، وكل ده ليه ؟! علشان واحد عجوز كان مريض أصلا، إنتي عارفة كام واحد بيموتوا كل يوم على الأسفلت من الحوادث؟ عارفة كام واحد بيموتوا في السجون من التعذيب؟ كام واحد بيموتوا كل يوم من الأكل المسموم والمسرطن ؟  وكام واحد بيصاب بالسرطان وبالأورام ؟ ضمير إيه اللي بتتكلمي عنه، بصي حواليكي، إحنا عايشين في غابة، ولما نمسك إحنا البلد ممكن ساعتها نتكلم عن الضمير، قومي يا بنتي نتعشي، واركني مسألة الضمير دي على جنب !

-         قومي يا بنتي نتعشى ونرجع اسكندرية تاني، واهو انتي اطمنتي إن الراجل العجوز رجع بيته، ومسألة السكر دي حاجة بتاعت ربنا، ده قضاء وقدر .

 خرجت الأم، ثم تبعها زوجها وهو يتأبط ذراع ابنته، ويربت بيده الأخرى على ظهرها، خرج شعبان هو الآخر من تحت السرير، كان مذهولا مما سمع، انتصب واقفا وأخذ ينظر حوله، كان يفكر في إيجاد مخرج له، تسلل على أطراف أصابعه، سمع المرأة وزوجها يتحدثان في المطبخ، بينما لمح الفتاة تتجه نحو الحمام، كان على باب الشقة ترباسان مغلقان ! فتحهما بهدوء ثم خرج دون أن يشعر به أحد، نزل السلم مسرعا، ولم ينتظر الأسانسير، وجد البواب على مقعده الخشبي يحتسي كوبا من الشاي الذي ملأت رائحته الهواء، أخفى وجهه بكلتا يديه، ومشى سريعا، كان بالبدلة والكرافتة والنظارة الكبيرة يبدو شخصا آخر .

       قضى أياما لا يدري عددها يذهب إلى وظيفته، ثم يعود منها ليجلس في الشقة معظم الوقت، ورغم أن والده قد تغلَّب على حزنه، وبدأ يخرج، وعاد للجلوس مع زوجته أمام المحل، وكأنه استسلم للأمر الواقع، لقد أصبح مريضا بالسكر، وحزنه لن يخفف عنه بل سيزيد من مرضه؛ لذلك قرر أن ينسى أحزانه ويعيش أيامه الباقية، لكن شعبان لم يستطع أن ينسى، وظلت جذوة غضبه في صدره، أصبح  كثير الصمت يتابع نشرات الأخبار، ويقرأ الجرائد، و لا يذهب إلى المحل إلا نادرا، عزل نفسه عن الناس، لدرجة أنه أخذ أجازة اعتيادية لمدة أسبوعين، وأقنع أباه وأمه بالذهاب معه إلى شقة دمياط الجديدة  للاسترخاء ، وأخذ قسط من الراحة .

 

 

 

 

7

       انقضت فترة طويلة منذ محاولة الاغتيال الفاشلة للمحافظ  بهاء الدين طاهر، وسفره للعلاج في ألمانيا، انقطعت فيها أخبار الرجل، ولم يعد له ذكر حتى في نشرات الأخبار، وكان قد تم تشكيل حكومة جديدة، لم يرد فيها اسمه كما كان متوقعا من قبل؛ قد يكون تم استبعاده نظرا لحالته الصحية، رغم تسريبات تحدثت عن تماثله للشفاء، وبالنسبة للمحافظ الجديد - فكما توقع شعبان - لم تنل أي من مشروعات سلفه أي استحسان لديه، فكان مصيرها الإهمال، بل سارع بمحو بعضها بحجة أنها مرتفعة التكاليف، وتستنفد حصصا كبيرة من ميزانية المحافظة ! كان همه الوحيد جمع الأموال بأي طريقة وبأي شكل من الأشكال، لدرجة أنه فرض رسوما جديدة وغريبة على المجتمع الدمياطي، ورفع تسعيرة بعض الخدمات الأخرى التي تقدمها بعض هيئات المحافظة للمواطنين بعدما كانت تُقدَّم بأسعار رمزية ! كان من الواضح أنه يعرف أصول اللعبة جيدا؛ فكلما اجتهد في جمع الأموال، والتزم بما تعهد به للحكومة كلما حافظ على منصبه أطول وقت ممكن، والمواطنون هنا هم الطرف الخاسر في هذه اللعبة، وبسبب ذلك سرت موجة من الكراهية والاستياء في قلوب الناس تجاه المحافظ  الجديد، أما الكبار من رجال المال والأعمال وأصحاب المناصب، فكان لهم رأي آخر. فكل قرش زيادة في الأسعار يزيدون معه تسعة وتسعين قرشا، فتزداد ثرواتهم، وتتضخم رؤوس أموالهم أكثر وأكثر .

       عاد شعبان مع أبويه إلى شقتهما في دمياط القديمة، ومن أجل إرضائهما وافق على طلب أمه أن تخطب له ، كان كل همه أن يفرحهما، وكان يرى في الخطوبة الجديدة فرحة لأبيه قد تنسيه حزنه، وتخفف عنه الصدمة التي تعرَّض لها.

       اختارت له أمه فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، لم تكمل تعليمها، كانت من أسرة فقيرة، وتسكن في منزل قديم متهالك، في منطقة القنطرة المشهورة بسوق السمك، رشحتها لها بعض النسوة اللائي يتقابلن في جامع البحر، سعادة أبويه الكبيرة جعلته يتم إجراءات الخطوبة، كانت متوسطة الجمال، واكتشف بعد الخطوبة أنها تعاني من حَوَلٍ واضح في عينيها، وتعجَّب كثيرا، وتساءل كيف لم يلاحظ ذلك من قبل ! لكنه كان سعيدا بسعادة والديه، وبدأ يحس بألفة وبشيء يجذبه لها، لا سيما عندما اكتشف طيبتها الشديدة التي قد تصل لدرجة السذاجة، إنها من عصر آخرغير هذا العصر، كان كلما ذهب إليها تذكر مقولة أمه :

-         البنت دي من توبنا ومن طينتنا، وأهلها فقرا صحيح ، بس ما احنا كلنا فقرا يا ابني .. .. الغني هو الله سبحانه وتعالى .

فترة الخطوبة كانت قصيرة، بضعة أشهر فقط، ثم تزوجا، تحمَّل هو كل أعباء وتكاليف الزفاف والجهاز والعفش، ولم يكلف أهلها شيئا، فأهلها البسطاء لم يكن في مقدورهم تجهيزها، رحبت هي الأخرى بالعيش معه في كنف أبويه، أحس أنه مسؤول عن أسرتها الفقيرة؛ لذلك حاول أن يساعد أهلها في تدبير تكاليف المعيشة، وبدأ يتعود على حياته الجديدة، لا سيما بعد أن أنجبت له ابنته الأولى، والتي استبشر بأن يجعل اسمها صفا، لقد أصبح مسؤولا عن أسرة كبيرة تشمل والديه وزوجته وابنته وأهل زوجته، لذلك نسي بسهولة موضوع خطوبته الأولى، ونسي ريم وأهلها، والتنظيم الذي ينتمون إليه، ولا يعرف شيئا عنه، ولا حتى اسمه ! كذلك بدأ ينسى فترة عمله مع المحافظ السابق بهاء الدين طاهر، وإن ظل حبه ووفاؤه لهذا الرجل وأسرته محفورا في قلبه، رغم بعدهم عنه، فلم يعد يسمع عنهم شيئا، وانقطعت أخبارهم عنه، رغم محاولاته للاتصال بهم، والاطمئنان عليهم . ورغم عدم التجديد له في وظيفة رئيس قسم خدمة المواطنين بحكم أنه حاصل على مؤهل غير جامعي، فأصبح مجرد موظف عادي في هذا القسم، بل وتم نقله فيما بعد إلى الأرشيف، وهو بدوره لم يتظلَّم، ولم يتقدم بأي شكوى، فقد كان يعرف أن وظيفة رئيس قسم أكبر بكثير من مؤهله، وتقبَّل الأمر بصدر رحب، وحمد الله على أنه لم يخسر الوظيفة .

       انخرط في حياة روتينية، وزعها بين وظيفته، وعمله كصاحب محل يتاجر في الملابس الجاهزة، وبين أسرته التي كانت مصدر أنسه وسعادته في هذا العالم .

       ولم يكد يمضي عام آخر حتى أنجبت له زوجته ابنته الثانية، واستبشر أيضا بأن يجعل اسمها مروة، رغم كثرة الأسماء التي اقترحتها عليه زوجته وأمه وحماته ! اشترى أيضا سيارة، كما اشترى قطعة أرض في مكان مميز خلف السوسنة، ارتفع ثمن المتر فيها بعد بضعة أشهر إلى أكثر من عشرة أضعاف !!

       تعوَّد كل أسبوع أن يصطحب عائلته مساء كل خميس إلى شقتهم في دمياط الجديدة؛ لقضاء يومي الجمعة والسبت على شاطئ البحر، ثم العودة ليلة الأحد .

       واستطاع شعبان في خلال سنوات قليلة أن يكوِّن ثروة كبيرة تُقدَّر بالملايين، وبالطبع لم تكن من تجارة الملابس الجاهزة، ولا من وظيفته المتواضعة، فقد أخذ أجازة طويلة بدون مرتب يقوم بتجديدها كل سنة، بسبب اتساع دائرة أعماله، ولرعاية رأس ماله الذي يتضاعف بطريقة كبيرة بعد أن قرر الاستفادة من المعلومات التي اطلع عليها طوال عامين قضاهما في مبنى المحافظة، لذا شرع في شراء الكثير من الأراضي في المناطق التي كان يعلم سلفا أن سعر المتر فيها سيزداد بسبب دخولها ضمن كردون المباني، أو ضمن تقسيمات التوسع العمراني الجديد، وتوصيل المرافق والخدمات إليها، ولم يكن ذلك حبا منه للمال وللأرباح، بل كان يحاول جمع كل ما يستطيع جمعه من أموال؛ ليوزعها بعد ذلك على الفقراء، في صورة إعانات شهرية؛ لذلك أنشأ جمعية للأعمال الخيرية، أطلق عليها جمعية الصفا والمروة، وقام بترخيصها، وكان ينفق عليها من أرباحه ومكاسبه من تجارة الأراضي والعقارات . كما أنشأ العديد من المشروعات التي كان يهدف من ورائها إلى تشغيل بعض الفئات من الذين لا يجدون لهم عملا، وكان يحرص على أن تباع منتجات هذه الشركات والمصانع بأسعار رمزية، بسعر التكلفة . ودون قصد منه أصبح اسمه يتردد كثيرا على كل لسان، وفي كل مكان، لدرجة أن بعض المقربين منه بدؤوا يُشيرون عليه أن يرشح نفسه في انتخابات مجلس الشعب !

لكنه لم يكن مهتما بالترشح لأي انتخابات سواء مجلس الشعب أو الشورى أو حتى انتخابات المجالس المحلية !

       بعض التكهنات بدأت تنتقل على ألسنة الدمايطة، تتنبأ برحيل المحافظ، واقتراب الإعلان عن حركة جديدة للمحافظين بمجرد الانتهاء من انتخابات مجلس الشعب في ذلك الوقت، تبعتها تنبؤات وتكهنات تتعلق بشخصية المحافظ الجديد، وانتهت الانتخابات بعد صراعات دموية عنيفة، لم تكن موجودة من قبل، وبدأ الناس يتساءلون عن اسم المحافظ الجديد، والذي تأخر الإعلان عنه، ويتساءلون كذلك عن التغيير الحكومي المرتقب .

       وفي مساء أحد الأيام بينما كان شعبان في مكتبه الكائن في أحد أبراجه، فوجئ بسكرتيرته تبلغه بأن شخصا غريبا يريد مقابلته، وأن هذا الشخص قال لها :

-         بلغيه فقط أن سليم يريد مقابلته !

سرح قليلا  بفكره، وغاص في أغوار ذاكرته المنهكة، يبحث عن صاحب هذا الاسم، وعندما رآه قام بلهفة، واندفع نحوه واحتضنه وكأنه واحد من أهله، لم يصدق عينيه، إنه هو سليم  السائق الخاص للرجل العظيم بهاء الدين طاهر، قال له بفرح، وقد تهللت أسارير وجهه :

-         ياه !! إزيك يا عم سليم .. .. أنا مش مصدق إني شفتك .. .. والله العظيم واحشني !

رد عليه معاتبا :

-         لو كان الكلام ده صحيح كنت سألت عليَّ أو على معالي الباشا !

أشار له شعبان بالجلوس، ثم جلس على الكرسي المواجه له، وطلب من السكرتيرة إعداد فنجانين من القهوة، وألا تسمح لأحد بالدخول، ثم قال له معتذرا :

-         عندك حق .. .. أنا مقصر قوي، بس انت عارف قد إيه الدنيا اتشقلب حالها، المحافظ الجديد مسح كل اللي عملناه بأستيكة، هد كل شيء !! وحاولت أتواصل مع حد من معارف الباشا، بس كان قرار سفره للعلاج في ألمانيا صدر، وما قدرتش حتى أشوفه وأطمئن عليه ! هو معاليه أخبار صحته إيه دلوقتي ؟!

-         هو كويس جدا .. .. في أحسن حال، بس فضَّل يقضي السنين اللي فاتت دي بره، بصراحة كان خايف على أولاده يصيبهم أذى أو ضرر.

ثم مد يده في جيبه، وأخرج هاتفا نقالا صغير الحجم، وأعطاه له، وهو يقول :

-         هو عايز يكلمك في موضوع مهم جدا، وسري للغاية .. .. هيكلمك على الخط اللي في التليفون ده !

مد يده وتناول هاتفه النقال من على المكتب، وقال مبتسما :

-         والله العظيم .. .. الباشا واحشني جدا ونفسي أسمع صوت معاليه، ممكن أكلمه من على تليفوني ؟!

ضحك سليم لأول مرة منذ دخل المكتب، وقال محذرا :

-         بقول لك موضوع سرِّي للغاية، وبعدين إنت تليفوناتك كلها متراقبة !

انتفض شعبان، ووقف منتصبا كأنما لدغته أفعى، وتساءل متعجبا :

-         تليفوناتي متراقبة .. .. ليه ؟!!

وقف سليم هو الآخر، وربت على كتفه، وهو يقول له مواسيا :

-         أعداء النجاح ملفقين لك شوية تهم، لكن متقلقش معاليه عارف كويس إنك نضيف، وعشان كده قرر إنك تشتغل معاه .

-         مش فاهم .. .. تهم متلفقة لي أنا، طب ليه ؟!

-         الباشا هيكلمك ويقول لك بنفسه .. .. هيكلمك على التليفون الصغيّر ده !

-         طيب .. .. عرَّفني بس ملفقين لي تهم ليه يا عم سليم ؟!

-         يا راجل إنت بتسألني، المفروض إنك عارف، ده إنت قالب الدنيا، ووقفت حال التجار ورجال الأعمال اللي عندك هنا في دمياط، ومش عايزهم يلفقوا لك كام تهمة، ده الزيت والسكر انته بتبيعهم بأقل من تمنهم في التموين ! ده انت خربت بيوتهم، ده مش بعيد يكونوا بيدبروا لك طريقة لاغتيالك .

شعر بغصة في حلقه، وأحس بالخوف الشديد على والديه، وعلى زوجته وبناته، وتساءل بتعجُّب :

-         أنا بس بحاول أخفف عن الناس الغلابة أعباء الحياة، والله العظيم ببيع الحاجة بتمنها، مفيش أرباح و لا مكاسب، غرضي بس إن الفقرا يعيشوا !

-         فيه ناس ما يهمهمش غير اللي داخل جيوبهم، حتى لو مات كل الفقرا اللي في العالم، والناس دول إنت وقفت حالهم، وعشان كده بيخططوا يخلصوا منك بأي طريقة . خد احتياطاتك، وانتظر مكالمة من معالي الباشا !

كان سليم يشرب قهوته أثناء الحديث، بينما شعبان لم يمس فنجانه، استحوذ عليه الخوف، وسرح ببصره، وبينما كان سليم يودعه، ويخرج من باب المكتب، وجد نفسه يقول :

-         مش بعيد يكونوا بيفكروا ينتقموا مني في أهلي زوجتي وبناتي .. .. إزاي أنا ما خدتش بالي من الموضوع ده ؟!

خرج من مكتبه مسرعا، وركب سيارته منطلقا بها على الطريق نحو رأس البر، حيث كانت عائلته هناك؛ كانوا قد قرروا أن يقضوا صيف هذا العام في رأس البر بدلا من دمياط  الجديدة  كتغيير، أطلق العنان لسيارته  رغم ازدحام الطريق بالسيارات المتجهة للمصيف، الأسفلت الأسود لا يبدو منه موضع قدم، والقبة الزرقاءأصبحت سوداء، إنها ليلة مظلمة لا قمر فيها ولا نجوم، تساءل وهو يمرق وسط هذا الظلام الشديد السواد :

-         هل تغيِّم السماء في ليالي الصيف .. .. لكأنها ستمطر !!

ومن العجيب أن قطرات من الماء بدأت تتساقط على زجاج السيارة؛ فقلل الكثير من سائقي السيارات من سرعتهم، وداس هو بقدمه على الفرامل ليخفف من السرعة، لكن المكابح لم تستجب له، ضغط كثيرا عليها وهو يحاول إبطاء سرعة السيارة لكن بلا فائدة، السرعة الكبيرة التي ينطلق بها جعلت سيارته ترتطم بالسيارات التي أمامها أكثر من مرة، كان الراديو شغالا، سمع مذيع النشرة الإخبارية يعلن أن سيادة رئيس الجمهورية قد كلَّف السيد بهاء الدين طاهر بتشكيل الحكومة الجديدة، كان يحاول السيطرة على سيارته لكنه لم يستطع؛ ترنحت من كثرة اصطدامها بغيرها ثم انحرفت عن الطريق، وانقلبت عدة مرات قبل أن تسقط في مياه النيل، أحس بطعم الدماء في فمه، ورائحتها في أنفه، وأحاطت به المياه من كل جانب، وأخذت تملأ السيارة، سمع رنين الهاتف النقال الذي أعطاه له سليم فأخرجه بسرعة قبل أن يصل الماء إليه، فتح الخط، صك سمعه صوت الرجل، وكأنه يأتي من مكان بعيد، كان يقول له :

-         آلو .. .. إزيك يا شعبان .. .. أنا بهاء الدين طاهر ! يا شعبان .. .. يا شعبان !

كانت المياه قد وصلت إلى كتفيه، وبدأت ترتفع نحو رقبته، فصرخ بأعلى صوته مستغيثا :

-         إلحقني يا بهاء بيه أنا بغرق .. .. أنا بغرق !

مدّ يده أكثر من مرة ليفتح مزلاج الباب، حاول تحريكه، لكن يبدو أن مقدمة السيارة وسقفها تحطما، وانثنت أجزاء منهما على الباب؛ مما جعل فتحه مستحيلا، وصلت المياه إلى فمه وأنفه، وشعر بالسيارة تغوص به في القاع، بدأت فقاقيع الهواء تتسرب من رئتيه، وتتصاعد، واستحكم الظلام، وغاب عن الوعي .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

8

       داخل قسم العناية المركزة، في مستشفى التخصصي، رقد شعبان ممددا على سرير في نهاية إحدى الحجرات، وقد غرزت في جسده بعض الأسلاك والأنابيب، المتصلة ببعض الأجهزة الطبية، بينما إلى جوار سريره سرير آخر هو الأقرب إلى باب الحجرة، ترقد فوقه امرأة، أفاق دون أن يشعر به أحد، فتح عينيه المغمضتين المصوبتين إلى أعلى، فرأى ظلالا وأشباحا في السقف، بدأت الرؤية تستقر قليلا ، كان السقف مادة شبيهة بالزجاج تعكس صورة بعض الممرضات  الواقفات في الحجرة ؛ سحب نفسا عميقا وكأنه يستعد للغوص، ثم حرك رأسه ناحية الشمال، جهة باب الحجرة، رأى ثلاث ممرضات تحيط بالمرأة التي على السرير، كانت غائبة عن الوعي، وجهها أبيض بياضا ناصعا لدرجة أنه حسبها تمثالا من الشمع ! سمع إحدى الممرضات تقول :

-         مش المفروض تلبس الجونتي بتاعك يا سعد ! ولا تحب أبلَّغ عنك !

فاجأه صوت رجل يرد عليها قائلا :

-         الحق عليَّ ، بوفّر لك الجوانتيات يا جي جي !

ردت عليه نفس الممرضة قائلة :

-         والله ! .. .. بتوفَّر و لا .. ..

رد عليها بجرأة واضحة :

-         و لا .. ..

نظرت له نظرة استنكار، ثم نظرت لزميلتها متعجبة، فأشاحت بوجهها بعيدا متصنعة الحياء، بدا الأمر لشعبان كما لو كانوا ينظفونها، يغسلونها بقطع من الإسفنج أو القطن المبلل يمررونها على جسدها، تساءل  وما زال عقله في شبه غيبوبة :

-         أهي جثة امرأة، يقومون بتغسيلها ؟!

سَرَت في جسده قشعريرة، فعاد برأسه كما كان، ثم شيئا فشيئا أغمض عينيه ، ونام، غاب عن الوعي من جديد .

       أفاق مرة ثانية، حدَّق في السقف الذي يشبه المرآة، لم يجد إلا صورته، وصورة المرأة على السرير الآخر، تساءل وهو يشعر أنه بين النوم واليقظة :

-         لماذا تركوها بجواره ؟!

شعر بالخوف الشديد، فهو وحده في هذه الحجرة الكئيبة مع جثة امرأة، كاد قلبه ينخلع من مكانه عندما رأى جفونها تتحرك ! لقد أخرجت ذراعها من تحت الغطاء، ربما يكون كل ما يراه هلاوس بصرية، فوجئ بها تعطس، لقد عطست أكثر من مرة، سمعها جيدا، لا يمكن أن تكون هذه أيضا هلاوس سمعية، التفت برأسه ناحيتها، شعر بألم في رقبته، فتأوه، فوجئ بها تلتفت نحوه بوجهها الأبيض كالشمع، سمعها تقول له :

-         حمد الله على سلامتك !

لم يصدق أذنيه، رغم أنه رآها تبتسم له ابتسامة واهنة، وجد صعوبة شديدة في ابتلاع ريقه، ثم تشجَّع، وسألها :

-         إنتي حية ؟!

رغم ضعفها الواضح، انتفضت كأنما لدغها عقرب، وصرخت فيه :

-         حية .. .. حية .. .. هي جت هنا ولسِّنت عليَّ .. .. قالت لك عنى حية .. .. العقربة .. .. العقربة الله ينتقم منها !

ثم تحاملت، وجلست على السرير، واستطردت تقول بعصبية شديدة :

-         مش كفاية كنت هموت بسببها، كمان جاية عشان تكمِّل عليَّ، الله يخرب بيتها مطرح ما هي قاعدة، يا رب ارزقها بقطر حشاش يحشها حش !

لم يكن شعبان متأكدا هل قالت ( قطر قشاش ) أم أنها قالت ( قطر حشاش ) ! على أي حال كان من جديد قد بدأ يغيب عن الوعي، وكان آخر ما سمعه صوت إحدى الممرضات التي جاءت مسرعة لتهدئة المرأة، لم يكن يعلم أن سؤاله البريء ( إنتي حية ؟! ) سيصيبها بهذه الحالة الجنونية، ولم تهدأ المرأة إلا عندما جاءت ممرضة أخرى بحقنة مخدرة، وغرزت سنها في الانتفاخ البلاستيكي الذي كان يصل منه المحلول عبر أنبوب رفيع إلى ذراع المرأة، وبمجرد أن بدأ المخدر يسري في المحلول ثم في عروقها هدأت، ثم استسلمت للنوم .

       مرة أخرى أفاق، لكنه في هذه المرة فوجئ بثلاثة رؤوس تطل عليه ! رآهم من النافذ تين الصغيرتين الغائرتين في صفحة وجهه، ميز وجوههم، إنهم هم، ذلك الممرض الذي لم يكن يرتدي الجوانتي، إنه الآن يرتديه في كلتا يديه، والممرضتان إنهما نفس الممرضتين اللتين كانتا تنظفان جسد المرأة، تذكر المرأة، إنها غير موجودة في الحجرة ! اقتربت منه الأيدي، أمسكت بالرداء الرقيق الذي يغطي جسده، كشفوا صدره، لحظات وانضم إليهم شخص رابع، وضع سماعة على صدره العاري، وأمسك معصمه فترة ثم تركه، تكلم قليلا مع الممرضات، كان من الواضح أنه طبيب، لقد ميز شعبان من كلامه هذه الجملة، التي كان لها وقع السحر عليه :

-         طمنوا أهله، عرفوهم إن ممكن يخرج من بكره !

ردت عليه إحدى الممرضات قائلة :

-         بس يا دكتور ده على طول في غيبوبة، ما بيفوقش إلا دقايق ويرجع تاني يدخل في غيبوبة تانية !

قال لها بثقة :

-         ده من تأثير المسكِّن، وواضح عليه إنه لا بيدخن سجاير، ولا بيشرب حتى قهوة، وعشان كده المسكِّن مؤثر عليه قوي، لكن هو بقى كويِّس وممكن يخرج !

فرح كثيرا، أخيرا سيرى والديه، ويرى زوجته وابنتيه، أغمض عينيه وهو يستحضر وجوههم، كان يريد أن تشرق شمس الغد بسرعة، ليراهم .

عندما فتح عينيه، وجد وجه أبيه يطل عليه كالنهار، واحتضنته أمه بفرح، ورأى وجوها كثيرة يعرف الكثير منها، إنهم أقاربه وبعض جيرانه ومعارفه، لاحظ أيضا أن سقف الحجرة مختلف عما كان عليه، إنه سقف حجرته القديمة، أسياخ الحديد الصدئة العارية تطل من خلف القشرة الأسمنتية المتهالكة، نظر حوله ودقق النظر، إنها بالفعل حجرته القديمة، نفس الحوائط المتآكلة، سرح ببصره من خلال الباب المفتوح، فاصطدمت عيناه بالطبلية تتوسط الصالة ! تساءل في ذعر هل كان يحلم ؟! وهم بأن يسأل أمه عن حال زوجته وابنتيه صفا ومروة، لكنه فوجئ بأبيه يقول له :

-         الحمد لله على سلامتك يا ابني ! ألف حمد وألف شكر لك يا رب .. .. الحمد لله إن ربنا نجاك لنا، ربنا عالم بالحال، إوعى تشتال هم شغل بعد كده يا ابني، ولا تفكرش تسافر أي مكان كفاية اللي جرى لك يا حبيبي !

وسمع أمه تقول بلهفة :

-         رب هنا رب هناك .. .. رزقك هيجيلك يا ابني بس ما تبعدش تاني عن عينينا يا ضنايا !

وسمع عم برقوق يقول :

-         الحمد لله إن ربنا طمنكوا عليه، والله العظيم النهاردة عندي عيد إنه فتح عينيه، وفاق من الغيبوبة اللي كان فيها .

تساءل شعبان وهو ينظر إلى أبويه :

-         هو أنا كنت في غيبوبة ؟!

ردت عليه أمه، والدموع تترقرق من عينيها :

-         أكتر من شهر يا ضنايا وانت غايب عن الدنيا، لحد ما الدكتور طمِّنا عليك امبارح، وكتب لك خروج، فجبناك على البيت طوالي .

سمع خاله يقول لأمه، وهو يربت على كتفها :

-         إحمدي ربنا يا أم شعبان، ده ربنا بيحبكم .. .. نجاه من بين أربعتاشر ولا خمستاشر بني آدم ، الله يصبّر أهلهم !

-         الحمد لله .. .. الحمد لله هو عالم بحالنا !

تعرّف على صوت عمه محمود وهو يقول :

-         أنا مش عارف الحكومة ما بتشوفش حل لمشكلة الشباب اللي مش لاقي شغل ليه ؟ ده كل يوم نسمع عن مركب بتغرق وعليها شباب زي الورد، هاجِّين من البلد ورايحين يدوروا على شغل في بلاد الغربة ! والله حرام يعني البلد مش قادرة توفر لولادها شغل ؟! هو احنا خِلقة عن البلاد التانية ولا إيه ؟!

جاء الرد من رضا ابن العم الآخر :

-         ما الدولة عاملة مشروعات كتير قوي زي توشكى، وعرضت على الشباب فدادين يشتروها بأسعار رمزية، ويستصلحوها، والحكومة بتوفر لهم المرافق وكل شيء، بس شبابنا همه اللي اتعودوا على الحاجة الجاهزة، مش عاوزين يتعبوا في أي حاجة !

قاطعه عمه محمود بحِدة قائلا :

-         فدادين !! روح شوف الشباب المسكين اللي ما صدَّق وأخد له كام فدان، لا هو عارف يستصلح شبر، ولا قادر يدفع أقساط، المشاريع دي معمولة لرجال الأعمال اللي معاهم الملايين، هو الشاب اللي لسه بيبدأ حياته هيقدر يصرف ويستصلح ويعمّر منين؟ ما هو لو الشباب معاهم فلوس كانت المشكلة انحلت، وكانوا شغلوها وهم في مكانهم !

احتدت المناقشة ثم هدأت، وفتر الحماس للحديث، وبدأ البعض يتسللون من الحجرة، وظل والداه بجواره يسامرانه حتى غلبه النعاس، ثم خرجا، وأغلقا الباب .

       لا يدري كم من الوقت مرَّ عليه وهو نائم، لكن الغريب والعجيب جدا أنه عندما فتح عينيه، وجد نفسه يقف في محطة قطار، كان أمام شباك التذاكر، استطاع أن يحصل على تذكرة درجة ثانية مكيفة، دفع ثلاثين جنيها مقابل التذكرة، كانت المحطة مكتظة بالناس، شق طريقه وسط الزحام، من شدة التدافع كاد يسقط على الأرض  سمع رنين هاتف، نظر حوله، الجميع يمسكون هواتف نقالة، لكن كان الرنين يصدر من الهاتف الذي في جيبه، مد يده ودسَّها داخل جيبه، وجد الهاتف، فتح الخط، سمع صوت زوجته تعاتبه :

-         إتأخرت ليه يا شعبان القطر طالع من المحطة .. .. إنت فين ؟!

طاف ببصره أرجاء المكان، كان الزحام يغلق أمامه مجال الرؤية، صك أذنيه صوت قطار يتحرك، وشاهد القطار؛ اتجه نحوه بقوة، لكنه كان يتحرك بسرعة، شاهد زوجته وابنتيه صفا ومروة، إنهم يطلون برؤوسهم من إحدى النوافذ، وينادون عليه، ويتوسلون إليه أن يلحق بهم، لكنه كان محشورا بين عشرات الأجساد، دفع نفسه بكل قوة في اتجاه القطار الذي كان قد بدأ يسرع، شاهد العديد من الناس الذين استطاعوا أن يتعلقوا بأبواب القطار، وبمجرد أن أسرع؛ تساقطوا تحت عجلاته؛ وتناثرت أشلاؤهم على القضبان !

       اختفى القطار عن الأنظار، بعد أن وصل شعبان إلى حافة الرصيف، لقد وصل لكن بعد فوات الأوان، تذكر الهاتف النقال الذي كان في يده، بحث عنه فلم يجده، مؤكد أنه سقط منه بسبب الزحام والتدافع الشديد، نظر خلفه إن الزحام يزداد، والجو يختنق أكثر، من أين يأتي كل هؤلاء الناس ؟!

أخرج التذكرة من جيبه، وفكر سريعا، وأخيرا قرر أن يعود أدراجه، ويبحث عن الهاتف، ليتصل بزوجته، وعندما يصل إلى باب المحطة يمكنه أن يخرج ويستقل تاكسيا ليلحق بأسرته ويقابلهم في المحطة التالية، كان على حافة الرصيف يتشبث بعمود إنارة حتى لا يسقط بسبب اندفاع الناس وشدة تزاحمهم !

أراد أن يجازف، ويترك العمود، ويسبح ضد التيار، ويخترق أمواج البشر أمامه لكنه لم يستطع أن يفعل، أحس أنه إذا أقدم على هذه الخطوة، فستكون النتيجة سقوطه من فوق الرصيف .

 

 



        المؤلف:

متولي محمد متولي بصل

مواليد محافظة دمياط – جمهورية مصر العربية

·        أعماله:

·          روايات: -

*     الربيع الذي لا يأتي؛

*     شعبان في خبر كان؛

*     العجوز والبحر

·          مجموعات قصصية: -

*     الديك ذو العرف الأبيض؛

*     الحب في الوقت الضائع؛

*     مأساة حصان.

*     الرجل الذي سرق دبا ( قصص قصيرة جدا )

·          ديوان شعر فصحى: -

*     من يهتف في الميدان؛

*     بحار بلا مرسى؛

*     قبل أن ترفع الجلسة

·          ديوان شعر عامية: -

*     نفسي اشوف النيل بيضحك؛

*     ليه يا بلد؛

*     العمر لحظة حب

*     أغاني مصرية

·        للتواصل مع المؤلف

الهاتف :

01095640130

01061289965

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة