البحث والتجريب والسعي خلف روح الحقيقة
مبحث نقدي في منهجية الأدب السردي للأستاذ/ محمد البنا.
بقلم الأديبة والناقدة/ كنانة عيسى
................................
ما أتت معظم نصوص أستاذنا الفاضل محمد البنا إلا تحت مظلة النصوص الوجودية التي ترتطم في وعي قارئها تاركة الأثر في تعدد رؤاه والمعنى باختلاف تأويله، وما قصدت بالقراءة السيميولوجية (المطلقة) إلا الغوص في معايير (الشكلية،والنزعة السردية ،و أساسات علم السرد و استنباط العلامات وسيمياء المعنى والوصف) ، بمعنى البحث الدقيق عن الكلمة بدون تأويل روحها، لروح الكلمة في نصوص الأستاذ البنا، حيز رحب محلق يدعو للتفكر والتأمل بذائقة ترقى لما يشبه المنهج العقلاني لأنها نصوص قصدية، فيقصيك عن منهجية دراسة السرد الكلاسيكية، فكأنه مكوث عميق في الفكرة أولاً، فاللغة بسيطة واضحة، والمشهدية عالية التجذر، فكأنها انتهاك لمسلمات القارئ العادي، وإعادة تجربة التعاطي مع النص ككائن سردي ندي للقارئ النخبوي.
والقصد بالبحث الكلاسيكي القائم على منهجية جافة وتقميش ببغائي وتبعية عمياء لمدارس النقد المتعددة على اختلافها. لكن ذلك لا يلغي مدارس النقد وتوجهها ومنهجيتها على الإطلاق، هي دعوة لنظرة شمولية خاصة تحيط بالمعايير ولا تتشبث بها.
. ولكي أؤكد ما ذهبت إليه في مبحثي عن المنهجية السردية للأستاذ/ البنا، سأسوق لكم بعض الأدلة من نماذج قصصية له
فمثلا في قصة " ذرات رصاص " نلحظ اتكائه على الظاهر والباطن كبنية أساسية تنتمي للأدب القوطي، يبدع أستاذنا الكبير محمد البنا في رائعة مدهشة، تختزل عناصر السرد المكتملة وتجلياته في أسلوب رمزي مبتكر
اعتمد وجودية الموضوع و الحدث وغموض وقوعه الظاهري بتغيير طبيعة الأشياء وماهيتها.
فالسارد الغامض يحدثنا عن( مجهول ما)
قد أنشبت الحيرة مخالبها في قوة بصره الفيزيائية الظاهرة، التي تنقّله مكانيًا وزمانيًا في تجاربه الإنسانية، فتختزن ذكرياته وأحلامه و كل مايراه بارتباطها بعقله، وتمتلك نواصي حواسه ما ظهر منها وما خفي، فتقف به أمام مفترق طرق جوهري، مرتبطة بكينونته المتذبذبة القلقة في حقيقة وجوده، فالبقعة العمياء - التي اتكأ عليها ظاهر النص - في عيوننا هي نقاط لا تستقبل الضوء، لانها عند مدخل العصب البصري، وحتى تكمل صور ما نراه، تقوم أمخاخنا بملء الفجوة بما تتوقعه من اكتمال.وتتلاحق لحظات العمى بتلاحق الأنفاس، فطالما نحن على قيد الحياة نعمى.. باحثين عن الحقائق بين البصيرة والتبصر والبصر، فكم من تفاصيل واقعية يمكن أن تتغير في الصورة ونحن نرمش فلا ندرك حقيقتها، بينما يعوضها الحدس الذي لا دليل على واقعيته. ولعل ما يلخص هذا النص الرائع والمذهل لكاتبنا المبدع هو
ما نشرته دورية «نيو ساينتست» عن ذلك اللغز تحت عنوان مخيف هو: «الوهم الكبير» هو وهم أن ترى عيوننا ما تعمى هي عنه.
وفي قصته " هباءً منثورا "
في هذا النص نحن خارج عملنا العقلي المعتاد، نحن تلاميذ الحقيقة، لن نتكل على المنطق ولا على قوة العقل بل على حدس ماهو قائم تحت المظهر الملتوي، أنه الباب السري للب الأشياء ودرب المطلق الروحي لنقرأ بأرواحنا.. كما نقرأ مظاهر الطبيعة، كما تقبّل نسمة الهواء راحة اليد، كما ينمو برعم صغير في ظل شجرة عملاقة، متحديًا ظلها، كما يغتسل جناحا عصفور في ماء النبع، فلنقرأ هذا النص مرة بعد مرة، وللنظر للأبواب التي ستفتح مرارًا وتكرارًا أمام عتبة الذهول والدهشة.
أمام خوفنا وقلقنا وألمنا الذي سيغدو (هباءً منثورًا) أمام المعرفة الكلية.
وفي قصته القصيرة * اغتصاب *
يجبرنا أدب القبح دائما على التعامل مع أطوار متناقضة من الشخصيات التي لا ترى ذاتها خلال الآخر، بل تنتقل في تشوهات متصلة مثيرة بذلك اللافهم والدهشة والاستنكار في رحلة بحث عن مجاهل الدرك الأسفل من النفس وشهواتها.
لا يمكن لنا كمتلقين أن نتعاطف مع هذه المرأة المكسورة في بداية المتن، بل نتقبل فضولها بانتظار الاحتدام والاصطدام وبروز ريبة الحدث، فهي لا تمتلك تمزق( آنا كارنينا) الوجداني بين الأمومة والانتماء الطبقي و الحب الجارف، لكنها تمتلك فضول( مدام دوباري) اللاأخلاقي خليلة البلاط الفرنسي السيئة السمعة ورفضها لأناها الحقيقية وتقبل ذاتها الشبقة اللامسؤولة برحابة صدر وعلنية ولكننا في لحظة اكتشاف الحقيقة نتعاطف معها في مواجهتها لنفسها، تعاطفنا مع( ديدمونة عطيل) المتهمة زورًا وبهتانًا بالخيانة وهي بريئة منها، وكأننا بذلك نتقبل حيوانية الإنسان الخبيئة في لا وعيها الشمولي والتي ظهرت في هدا السرد كرغبة محرمة بدأت بوشاية وانتهت بسقوط مدو.
يتميز النص بلغته السلسة الدقيقة الواضحة التي فرضت مفهوم (عدم التحيز) و كسر الصورة النمطية و وتقويض مصطلحات الجنوسة المعروفة وقلب الموازيين،، فالاغتصاب هنا فعل أنثوي عن سبق رصد وإصرار وليس ذكوريًا عدوانيًا بالعرف العام ، وله مقوماته الأنثوية أيضًا فهو قائم على الإسراف بالوهم (خيالات نيفين وآرائها)، منغمس في صراع متزامن بين الأضداد (البراءة الفطرية)و (نيفين وسواس الشر المبطن) ،قادر على فرض وعي مؤقت كمبرر (الخوف من الغارة)، محاط بغلالة عاطفية مشحونة بالتوتر وجلْد الآخر، ثم اكتمال الرؤية
الثاقبة،بأنها صاحبة الإثم وهي الظالم والمظلوم، بينما ظهر الرجل كمتواطئ بريء، مسلوب الإرادة (حتى ولو كان سببًا غير مباشرًا) ، متقبلًا لذاته، خالٍ من العار والإحساس بالذنب، متفلتًا من أي سطوة أخلاقية أو اعتبار مصيري. هل المرأة دائمًا من تحمل وزر الخطيئة وتتكيف معها ضمن عالمها الذي توارث الخزي والعار وعدم المواجهة؟
وكأننا نواجه قصة (ميدوسا) الكاهنة الفاتنة التي اغتصبها الإله، فحولتها زوجته الناقمة إلى وحش حاقد تتدلى من رأسه الأفاعي ليبث موته وجموده في كل من يراه. ليأتي الاغتصاب الجسدي مقترنًا بشناعة المظهر الخارجي وفقدان الملامح الإنسانية ومسخها إلى أشنع صورة، رغم أن ميدوسا كانت بلا حول ولا وقوةولا ذنب. فأصبحت رمز القباحة والخوف والرهبة. وغدت الظالمة والمظلومة معًا. وهذا ما نشعر به تجاه البطلة التي تضطر لمواجهة كابوسها الحقيقي (ميدوسا الحقيقية ) بشكل نهائي
نص شيق،تمايز بسهله الممتنع وبدلالاته النفسية الدقيقة،ليتجاوز المعلن المبهم إلى الواقعي النشاز الصادم.
وهل (الاغتصاب) هو اغتصاب الأنا العليا للهو؟، حسب منطق سيجموند فرويد النفسي ، أم أنه اغتصاب الذات وفسادها من قبل الخطيئة مهما كان رهيبًا ومفجعًا ولا إنسانيًا ،على شكل نزوة عابرة تقع في مثالبها المرأة ضحية وجانية.
وفي قصة قصيرة جدا أعدها ويعدها الكثير الكثير من النقاد، قصة من أروع ما أبدع الأستاذ / محمد البنا، وعنوانها " رائحة العشب "
عودنا الأستاذ الكبير على خلق عوالم استثنائية في قصصه، فإننا هنا ننزلق بسلاسة لعالم خيالي مألوف، متعلق بذاكرتنا البصرية، متأرجح بين الحقيقة والوهم وبين الواقع والخيال، وبين الظاهر والباطن، فنحن نستيقظ في مشهد ريفي حيث البطل هو (الفلاح) في إطار نشاطه الحركي المتقن، فهناك ترتيب لأحداث العارف بالشيء والمتمكن منه.
هذا النص قد يبدو في ظاهره دعوة رومانسية للعودة للطبيعة والتغني بها، والتفرد بإفرازاتها من كآبة شعرية مخفية وحثٍ على النفور من الحضارة المدنية، ولكن الباطن هو قصة حب عتيقة تتجدد منذ الأزل، فالشخصية الرئيسية التي ينبثق منها الحدث بومضاته القصيرة
متلهف لإرواء الأرض العطشى بروحه، مسترسل في خلوته النائية عن الوجود في حالة تعلق حسي بما فاضت به الأرض المعشوقة من أصوات وسكنات و لمحات خلابة، و جمال عذري خالد لا يفنى.
هو عاشق متيم يعود بشوق طاغ؛ فلا يترفق بنفسه..هو الزائر في زمن مجهول لا يتغير (ألف عام مضت)، ووقت هلامي ضاعت ملامحه عن القارئ فأربكته.
هو في انتظار سرمدي طويل غامض يراقب الأشباح في عالم مبهم لاحدود له ولا هوية له. هو في انتظار عقدة وجودية تخفى عن القارئ، حتى تعلن الحبيبة ارتواءها؛ فيعلن عن وجوده الشبحي، وينكفئ في جد وتفان ليكرر دائرة الحدث بشكل عكسي، وينضم لعالم الموتى الذين ما زالو متعلقين بما أحبوا رغم انتقالهم، لعالم الموت الخفي.
استخدم الأستاذ محمد البنا اللغة السردية البسيطة التي لم تتبع قالبًا لغويًا موجهًا، ولم تنهج إيحاءً ضَمنيًا، بل أحاطت بالفضاء السردي كغلالة رقيقة تضيء للقارئ رموز الحب الصوفية ودلالاتها، فرائحة العشب هي رمز التعلق والوله، هي حالة خارقة من حب الحياة بعد الموت، تتحدى قوانين الوجود البشري، فهو الفلاح العاشق لأرضه الأم، لمحبوبته الخالدة، لذلك النور الإلهي الذي يخلق حضورًا أبديًا بين المحبين... لا ينتهي بموت حياة ولا بحياةٍ بعد الموت.
عن قصته القصيرة جدا ( لقاء مؤجل ) أقول:
هو نص غرائبي خارج عن النمط والاعتياد وظاهره مختلف عن باطنه، وكل ما يبدو قد خلق بمستوى القارئ العادي هو في الحقيقة، متجذر في لاوعي الكاتب ولا شعوره، متقمص لرغبته بتطويع الزمن وتغيير هيئته و إصباغه باللزوجة و الهلامية في عوالم تنحني فيها الأبعاد وتلتصق وتتنافر وتتجاذب عكس العالم المرئي الذي نعيش فيه. وطالما أننا نتحدث عن قصةقصيرة جداَ بمعطياتها الخاصة و ملامحها الدقيقة فإن تأويل الكلمات المباشر ليس نهائيًا ، بل مادياً جدليًا يحتمل اختلاف المعاني والدلالات والإسقاطات وهذا ما يتفق مع السريالية روحًا وقالبًا.
ولقد قرأت للأستاذ البنا الكثير من النصوص التلقائية و الوجودية والواقعية التي فضت هاجس الخروج من العادي، ورصد المتغير خروجًا من الثابت، اذكر منها (ذرات رصاص)، (المخزن) ،(البعد الخامس)
برؤيتي المتواضعة أرى أن ما يحصل في وقتنا الراهن من استدعاء وجداني متغير بسبب الثورة التكنولوجية وعلم الاتصالات والفضاء والثورة الرقمية حروب وانقلابات وازدياد عدد اللاجئين والمهاجرين وتزامن ذلك كله مع الإعلام اللاموثوق و الهش و المبتذل ومن ثمة العولمة كذلك، فرض علينا كتابًا ونقادًا أن نعيد صياغة المفاهيم والثوابت بدون تغيير جوهرها.
و أستعين بقول أستاذنا شيخ النقاد العرب/ أحمد طنطاوي
إن الفن العظيم لا يولد و لا يحيا إلا بخرق المألوف و تحطيم البديهيات المستوطنة في الذاكرة الثقافية و الوجدانية و الذهنية .
أبدعت أستاذنا... أبدعت
..........................
.......................
كنانة عيسى 12 out 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق