Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة نقدية. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 26 نوفمبر 2025

الرؤية السّردية في رواية العودة للكاتبة : عبير عبد الجليل ، بقلم : د. وائل الصعيدي - محاضر اللغة العربية بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية- الصين عضو اتحاد كتّاب مصر



الرؤية السّردية في رواية العودة

للكاتبة عبير عبد الجليل



د. وائل الصعيدي



محاضر اللغة العربية بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية- الصين

عضو اتحاد كتّاب مصر

............................

لكل مِنّا ميوله في طعامه وشرابه وقراءاته وهواياته، والقراءة بالذات تعمل على إعمال الفكر وثقل الخبرات وتنشيط الوعي والاطلاع على الثقافات المتنوعة؛ فإذا أردتَ أن تعرف المجتمع الصيني أو الروسي مثلًا يمكنك بكل بساطة أن تقرأ في أدبهم وفنونهم، ولكن إذا أردتَ أن تقرأ عن حياة أخرى لأناس آخرين في مجرّات وعوالم بعيدة فهنا يكمن السّر والتركيز للإثارة والمتعة لمعرفة المزيد.

ورواية قانون كيبلر(العودة)، للكاتبة عبير عبد الجليل، العضو العامل بقصر ثقافة دمياط‏، ‏‏ورئيس القسم الأدبي والثقافي‏ لدى ‏جريدة الأهرام نيوز(سابقا)‏، ‏ورئيس القسم الأدبي والثقافي‏ لدى ‏جريدة الحدث الإخبارية(سابقا)، ورئيس القسم الثقافي‏ لدى ‏مجلة فوكس العربية‏، تأخذنا معها في رحلة شيّقة مع رواية أدب وخيال علمي في محاولة منها لإيجاد حلول للمشاكل التي تقترفها أيدي الناس على الأرض من التلوث والظلم والإفساد، والتطواف لوضع أرضية مشتركة والعيش سويًا ومحاولة المواءمة مع مخلوقات أخرى بخصائص وسمات متقاربة.

إن الكتابة عن أدب الخيال العلمي ليست بالأمر الهيّن ولكن تتطلب قراءات كثيرة والاطلاع على ثقافات واسعة ومتنوعة وكتابات متشابهة سابقة، لإخراج عمل فريد قوي يحترم عقل القارىء ولا يستهين به ويطرح رؤية جديدة، وقد أعدت الكاتبة للرواية في ست سنوات تخللت القراءة والاطلاع ومتابعة وكالة ناسا ومراصد عربية وأوروبية، والكتابة والمراجعة لتخرج إلينا الرواية في ثوب قشيب.

جاء عنوان الرواية ليضع القارىء في حيرة فيثير التساؤل: قانون كيبلر(العودة)، ما القانون؟ ومَن الذي عاد؟ ومن أي مكان عاد، فيحاول طوال رحلة القراءة يُعْمِل عقله ويُخمّن ويتنبأ ويستنتج واستكناه الجوهر، كما ارتبط العنوان بالجو العام والانسجام مع أحداث الرواية وشخوصها، ويظهر بقوة في قفلة النهاية.

وجاءت صفحة الإهداء، لتربت على كتف المُثقلين الصابرين بجوار غرسهم ليروا حصادهم يُثمر أمام أعينهم، الذين يعملون على ترقّي أنفسهم في جوانب شتى لإضاءة دربهم واستشراف المستقبل بالعلم والعمل والاجتهاد، ولهذا جاء: "إلى الذين اجتهدوا وجاهدوا، وصبروا وصابروا، حتى يروا بادرة أمل ليزهر غرسهم، وإلى الذين أدمت أذهانهم فكرا منيرًا يسعى ليضيء المستقبل بثمار علمهم وبحثهم ... ". (صفحة 2). 

  وكان لابد من المقدمة أن تأتي بهذا الشكل الواضح على هيئة(صَرْخة)؛ لتعريف القاريء بما يختلج في صدر الكاتبة ويجول في ذهنها من التفكير في حياة جديدة على كوكب جديد للانتقال إليه عند استحالة الحياة على كوكب الأرض، وأرى أنها مُحقة في ذلك لِما نراه جميعًا من تلوث المُناخ والبحث عن بدائل، ونشوب الحروب في أماكن كثيرة من العالم والتلويح بها في أحايين أخرى، وغير ذلك من العقبات التي تواجه سكان الأرض والتي تسبّبوا فيها بما كسبت أيديهم، فكانت المقدمة كالمفتاح والمدخل للرواية. 

فتقول في جزء منها: "فدعوتُ نفسي على مائدة الخيال مع طفرات المنطق وجنون الإبداع، وعلى بساط الأمل والتفاؤل، وربما قليل من المخاوف، وهذا السؤال يتردد في ذهني: هل سنكون مقبولين بين أمم أمثالنا ونحن مَن وأدْنا مأوانا الذي نسكنه"الأرض"؟، (صفحة 3).   

وفي الحقيقة فوجئتُ بتقديم الصديق الدكتور الباهي جاد، الأكاديمي، والخبير الدولي، الحائز على جائزة ستانفورد للتصميم، وهذا لا شك نقطة قوة، ويوحي أيضًا بأهمية الرواية لحث المهتمين بقراءة الأدب عامة وأدب الخيال العلمي خاصة على اقتنائها وقراءتها.

لقد جاءت لغة الرواية سهلة ومفهومة فهي لغة عربية فصحى ميسّرة، وأسلوبها جميل وشيق، غير أن أحداثها كثيرة وأسماء الأشخاص كذلك، وواضح فيها جهد الكاتبة ودقّتها في اختيارها مما يُحتّم التركيز وعدم التشتت أثناء القراءة للاستمتاع أثناء الانتقال والربط بين الأشخاص والأحداث.

والرؤية السردية أو التبئير أو ما يُطلق عليها وجهة النظر، عنصر من عناصر البناء السردي، ومصطلح نقدي يشترك فيه السارد والقاريء؛ فالسارد من خلال إلمامه ورؤيته ومعلوماته، وبالتالي هو الذي يحدّد ويتحكّم فيما يقوله للمتلقي من خلال حصر سير الأحداث والأشخاص في زاوية معينة.

وتنقسم الرؤية السردية أو التبئير إلى داخلي وخارجي؛ فالداخلي يصف فيها أحد شخوص الرواية الوقائع كما يرى هو من وجهة نظره، وأما الخارجي فيقوم بها السارد من خلال معرفته الواسعة عن الأشخاص ومجريات الأحداث، ومن هذا المنطلق يمكننا إلقاء الضوء على الرواية الحالية (قانون كيبلر) أو العودة.

ومن المفارقات تزامن وقت قراءتي للرواية مع قرار وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي وقطاع غزة بواسطة مصرية قطرية برعاية أمريكية، وعودة النازحين، مع الأخذ في الاعتبار أن اليهود ينكثون عهودهم ولا مبدأ أو كلمة عندهم.

 وبعد ذلك أدخلتنا الكاتبة مباشرة في تهيئة نفيسة لاستقبال أحداث جسام؛ فقد حدثت محرقة نووية شاملة ومن ثم انتشار إشعاعات نووية قاتلة أدت على الفور إلى اختباء مجموعة من العلماء في مختبر مؤمّن في باطن الأرض لمدة خمسة عشر عامًا، لقد سعوا في البحث عن ناجين وخاصة ذويهم بطائرات بدون طيّار بعد تحذيرهم من تنبؤات بحدوث المحرقة، وذلك بتجميعهم في مكان آمِن.   

وهنا يتجلى السارد الخارجي ليخبرنا أنه مع بداية الرحلة التي كانت بعد مائتي عام للخروج من الأرض مُرْغمين إلى ملاذٍ آمِن للبحث عن وطن بديل أو كوكب بديل، وهو كوكب كيبلر العظيم، الذي تم اكتشافه في إحدى الجولات الاستكشافية، وتسليط الضوء لمعرفة بعض الفروق بينهم وبين البشر، كما جاء في (صفحة 5):" كوكب هاديء منضبط، أهله عمليون، يعشقون الهدوء والعمل في صمت، ليست لديهم مشاعر إنسانية كما البشر، والأعجب أنهم لا يبكون عندما يتألمون مثلنا، تستشعر للوهلة الأولى أنهم أشبه بالآليين والروبوتات كتلك التي يعج بها الكوكب، والتي تتولى معظم المهام تخفيفًا عن أهله، فينظر إلينا أهل هذا الكوكب نحن البشر نظرة تكبّر وضجر، لأنهم يعلمون ماضينا غير المشرّف على كوكبنا الأرض، ويعتبرون أننا مَن تسببنا في كل ما حدث فيه، وأنه بما كسبت أيدينا، وأننا الآن نجني ثمار ذلك".

ياله من ماضٍ مؤسف حقًا تملؤه الصراعات والحروب والظلم وأكل الحقوق والخراب، فصدق أهل كوكب كيبلر فيما ذهبوا إليه؛ فكأنهم قالوا أنتم أفسدتم كوكبكم وجئتم فاستضفناكم لتفسدوا كوكبنا وحياتنا؟

وكوكب كيبلر الجديد له قوانينه وأحكامه الخاصة الشديدة، دلّ على ذلك عندما ساق الحرّاس الآليون أمامهم طفلًا تمهيدا لمحاكمته، مع فتح الكاميرات وتشغيل البث المباشر في ساحة كبرى ليشاهدها جموع أهل كوكب كيبلر العظيم، والجمع البشري، فأدخلوه على الحكماء السبعة، فبدأ كبيرهم"هايبريون"بتوجيه سؤال له، قائلًا: " كيف تجرؤ على انتهاك قوانين الكوكب... لم يفعلها أجدادك وآباؤك من قبل؟!...، فارتبك ولم يعرف بماذا يرد..."، (صفحة 7).

استقرّ رأي العقلاء على نفي الطفل الأرضي(عائد) وعبوره (أرض الهلاك)، التي قلّما ينجو أحد من عبورها، غير أن الذي يصل إليها يصبح حكيما عالِمًا، فبكى الأرضيون على هذا الحكم القاسي على طفل صغير، وكان أشدهم وجعًا صديقه (أورين)، ذلك الطفل الفضائي، كما تذكروا نفي الحكيمة منذ عشرين سنة؛ فأرض الهلاك عبارة عن سياج من الأشعة القاتلة لا يستطيع أي مخلوق اجتيازه.

وكما أن القوانين صارمة فإن كل شيء في الكوكب مراقب بكاميرات دقيقة أيضًا لا مناص للمخالفة أو فعل شيء يجعله تحت طائلة القانون، ؛ شرح أورين في بث علني مباشر أمام الجميع شدّة ارتباطه وتعلّقه بصديقه البشري عائد حيث قال عنه:" جعلني أعشق الاكتشاف ولا أخاف من أي شيء، ولا من المخاطرة كان يتعمد أن يمسك يدي بقوة رقيقة، كنتُ أشعر بشيء دافيء يتدفق من يديه إلى يدي لا أفهمه... كنتُ أخاف من انتهاك القوانين فأنزعها، فيعرّض نفسه للخطر عمدًا فأمسك يديه لأنقذه فيضحك ويقول:"ها أنتَ تخالف القوانين الآن"، لقد كان يرسم على وجهه تعبيرات غريبة ليضحكني، وعندما نغلق علينا باب غرفتي، كان يستخدم اختراعه في التشويش على أجهزة المراقبة"، (صفحة 11).

  وتأخذ الكاتبة القاريء بين الفينة والأخرى في محاولات للتقريب بين عالم كوكب كيبلر والبشريين أو(الأرضيين)، مع الأخذ في الاعتبار الاختلاف في الطباع والتركيب، فعندما انتهى أورين من حديثه مُبديًا تأثره بصديقه الوحيد البشري عائد، فتدخّل أورباك والد أورين وهو"كبير علماء كيبلر"، ظنًا منه بأنه سيتم نفي ابنه مع عائد، لمّا رآهم اشتاطوا غيظًا من كلامه الدافيء عن صديقه الحميم فطمأنه كبير العقلاء بأنهم سيعملون على إعادة تأهيله فقط، ولكن الطفل أورين تمسّك بالنفي مع صديقه الوفيّ، واتجه نحوه لكن قوات الأمان منعته، فقال لأبيه:"سامحني يا أبي لن أترك صديقي"، فضمّه أبوه بقوة مخالفًا القانون أمام الملأ، فخرج ترايتون كبير أهل الصفوة ونبّه أورباك بمخالفة القوانين والتشاور في ذلك لاحقًا.

عملت الكاتبة تناصًا بين البشريين والكيبلريين، وكأنّ العدوى أصابتهم أيضً، ا(إعادة التأهيل)، أو مراكز التأهيل، عبارة ظاهرها الرحمة وباطنها الطاعة العمياء وإلغاء التفكير، هي هي نفس النغمة التي يتشدّق بها البعض على مر العصور، وهي في الحقيقة محاولة لإعادة برمجة أو(غسيل مخ) إن صح التعبير، فالبعض أو الفئة المتحكّمة تريد فرض سيطرتها وأفكارها على الكل.

  دفع كبير العقلاء بعائد ناحية أرض الهلاك وفي نفس اللحظة أمسك أورين بيده فحلّقا سويًا وتشبثا ببعضهما وهما عازمان على التحدي والعبور الآمن لاجتياز أرض الهلاك والعبور لأرض العقلاء على الاجتهاد وتقوية الصداقة ليصبحا حكيميْن، وفي أثناء هذه الأحداث وبعد وصولهم فوجئوا بالحكيمة التي تم نفيها منذ عشرين عامًا تتحدث من خلال بث مرئي مباشر من أرض العقلاء، وهي تلومهم على نفيها ومخالفة القوانين، قائلة:" نظرًا لمخالفة العقلاء السبعة لقانون أرض الحكماء البند الثاني؛ فإن لي كامل الحق في إنشاء قوانين جديدة والتدخل القوي في فرض كل ما يتعين عليه الارتقاء بذلك الكوكب"، (صفحة 19).     

   لقد نجا كل من أورين وعائد من أرض الهلاك واستقرّا في أرض الحكمة والتقيا بالحكيمة التي كانا يسمعان عنها الكثير من الجمال والعِلم والحكمة، تلبس ملابس بيضاء ويعتدل التاج على رأسها.

وفي مشهد عاطفي وعندما أرادت الجموع أن تنفضّ: أهل كيبلر إلى مناطقهم وأهل الأرض إلى مناطقهم نظر كل من أورباك والد أورين وزوجته إليتورا إلى حميد والد عائد فأشار أورباك لقلبه ففهِم أنها للتآزر والاشتراك في مصيبتهما وهي نفي أبنائهم، عندئذ غضبت قوات الأمان فأطلقت صفارات الإنذار، وغلّقت الأبواب الشاهقة التي تفصل بينهما،"حتى الأبواب تشهد على الطبقية بين أهل كيبلر والبشر".    

في باطن كل محنة منحة، فقد اجتهدت الحكيمة في تعليم الطفليْن فن التعامل مع المواقف الصعبة واجتيازها، وطرق البحث والاطلاع والتجارب والعلوم الحديثة في المختبر، مع الالتزام بالهدوء والسكينة والأخلاق وقواعد البحث، والاستفادة من نشاطهما وإقبالهما على المعرفة، وكانت دائمًا تناديهما بالحكماء. مع الوعد بعودتهما مرة أخرى.

وتعمل الكاتبة إسقاطًا من خلال السارد الخارجي المتمثل في الحكيمة وهي تسرد لعائد وأورين قصة واقعية حدثت في الماضي  في مشهد بديع وفيصلي من فصول الرواية؛ لمحاولة التقريب بين الكيبلريين والأرضيين من خلال الفروقات والاختلافات الواضحة في البنية الجسدية والعاطفية والفكرية لباحثيْن مجتهديْن في (معهد بحوث المجرّات)، حيث قالت: "ما يقرب من خمسين عامًا، وهو صرح علمي ضخم له مكانته المرموقة في مجتمع كيبلر، فلا يلتحق به إلا العباقرة ويكون ذلك عبر منافسة سنوية لاختيار أكثر العباقرة ذكاءً على أرض كيبلر، وعند إتمام الدراسة في هذا المعهد يدخل الأول والثاني في قائمة المرشحين لتولي منصب كبير علماء كيبلر، وأيضًا كبير الباحثين، وغالبًا ما يُترك ذلك المنصب للأرضيين عبر مسابقة تُقام كل 10 سنوات، ولا يُشترط عمر محدّد؛ فقد يتولى المناصب أصغرهم عمرًا"، (صفحة 57).

  في هذا العام بالذات كانت المنافسة شرسة وقد فازت بالمسابقة لأفضل بحث مفيد في كافة العلوم فتاة واحدة والمفاجأة أنها بشرية لعبقريتها وتكريمًا لإخلاص أبيها المتميز على كوكب كيبلر، ونافسها (ديوكاليون)، المعروف بـ (ديو)، وهو ابن كبير علماء كيبلر، وهنا سؤال عنصري تم طرحه من أهل كيبلر: كيف يتساوى ابن كبير العلماء مع بنت بشرية متميزة وذكية؟، والمفاجأة بعد أن التقى ديو بتلك الفتاة (مرام)، وقت التكريم انجذب إليها فهي تبدو جميلة بعيون زرقاء، وابتسامة ساحرة.      

   تجاذبا أطراف الحديث وعرف أنها مسيحية بعد أن رأى الصليب فسألها عنه وأخبرته بديانتها، فسأل عائد الحكيمة: هل أنتِ مسيحية؟، فقالت له: لا، بل مسلمة، ويجب أن تتعلما مهارة الصمت.

تردّد ديو ومرام على مختبر هيئة علوم الكوكب الذي لا يدخله إلا النوابغ والعباقرة، فالمكان صرح مُبهر جدًا، فتقرّبا من بعضهما أكثر للفهم ولمعرفة كل منهم الآخر، فلاحظ رئيس القسم وهو رئيس هيئة العلوم ذلك فانزعج وحذّر ديو من التقرّب من تلك الفتاة الأرضية ذات الدهاء التي ستعلو في المناصب مثل أبيها، ولاحقًا أصبح ديو رئيس الباحثين ومرام مساعدته.

"ظل الاثنان يعملان معًا لمدة خمس سنوات يتبادلان المشاعر الجميلة المستترة والأفكار والمشاريع الضخمة. فحدثت طفرة تكنولوجية بسبب أبحاثهما مع الحفاظ على الشكل العام دون لفت النظر إليهما، وعند نهاية السنة الأخيرة في الدراسة وبعد تقديم مشروعهما للتخرج معًا أحضرهما رئيس هيئة العلوم(إيم)..."، (صفحة 86)

أخبرهما أنه خالف القوانين بتستّره عليهما وهو يلاحظ هذا ويعرف جيدًا، ومع ذلك أخبرهم أيضًا أنه سيعلن أنهما المرشحين لتولي منصب كبار علماء كيبلر لتفوهما العلمي على الأجيال السابقة.

وفي خطوة كان يحسب (إيم) رئيس هيئة العلوم حسابها أخبره(ديو) بأنه لا يبالي من أي عقبات أو عقوبات المهم أن تكون(مرام) زوجته، حيث قال:" هذا ما كنتُ أخشاه... هل تعلم ديو ماذا سيحدث إن عُرف ذلك الأمر هل تظن أن تلك الزيجة ستصح؟؟ هل يصح زواج أهل كيبلر من البشر بكل اختلافاتهم وتشريح أجسادهم؟ هل هناك توافق ديو؟، وأنتِ يا مرام، كيف ستنجبين أطفالًا. وهذا أمر فطري لدى نساء البشر. وحلم يداعب مخيلتهن دائمًا. بل ويظل إلى أن ينجبن أكثر وأكثر من أهل كيبلر. ذلك ما يزعجني" تكوين الطفل" لِمَ لم تفكرا فيه لم لم تفكرا إلا في نفسيكما فقط بكل أنانية " (صفحة 87)



وفي التفات واضح ونبرة حانية أخبرهما إيم أنه كان مثلهما، أحب بشرية كانت حادة الذكاء ولكن أهلها ضغطوا عليها فتركت العمل خشية مخالفة القوانين، وعدم إنجاب طفل مُشوّه، وتزوجت بعد ذلك وأنجبت ثلاثة أطفال، وأنه احترم رغبتها، ومن هذا المنطلق كان يساعدهما (ديو ومرام)، ويخشى من كشف أمرهما، لخشية إتمام الزواج، ثم أخبرهما أنه غدًا بعد حفل تنصيبهما (كبار العلماء) يمكن مناقشة الأمر من الأهل في الركن الجليدي المهجور.
كانت الحكيمة تقصّ على عائد وأورين الحكاية لتعليمهم وزيادة خبرتهم، وأنه أيضًا تم عمل أبحاث لإمكان ذلك غير أن جميعها باءت بالفشل.

 وفي اليوم التالي- يوم الاحتفال- بالنوابغ ظل التصفيق مستمرًا في قاعة الاحتفالات في هيئة العلوم احتفاءً بالنجميْن الصاعديْن، ثم تسلّما الجوائز، وحضر آيو والد ديو، وعيسى والد مرام، ثم ذهبوا إلى مكان سرّي لعقد اجتماعهم، فتقابلوا مع هاجر زوجة رئيس فريق البحث العلمي المُختطف، تناقشوا في أمر الزواج ففوجيء الوالدان بالأمر وانزعجا، وتدخلت هاجر في الحديث وأدلت بدلوها بأن هذا الأمر صعب جدًا فقد قامت أبحاث كثيرة ولم تصل لشيء، وأن هذا النقاش والمحاولات تتجدد كل فترة.

وفي جولة استكشافية بحثية إلى كوكب جديد خرجوا جميعًا، غير أن عائد أصابه الإعياء، فأدخله أورين الحجر الصحي لتأثير الغلاف الجوي عليه الذي يؤذي البشر وأعطاه بعض الأعشاب، وفي ملمح آخر إذ أرادت الكاتبة أن تدخلنا إلى معلومات جديدة ومهمة وهي عصب روايتها لتنقلنا بكل سهولة-نحن القرّاء- إلى جانب آخر ليفضي إلى نهاية مقبولة، فبعد إدخال الحكيمة الحجر الصحي لشعورها بالتعب أيضًا، ودخولها في الطور الجديد والتغير، خرج أورين وحده في جولة ومهمة استكافية ولأول مرة بدون عائد:"على منصة غير مرئية انتقل أورين بسرعة خاطفة مارًا بالسهول، فتلك المنصة مجهزة خصيصًا للمسح الجيولوجي والجيوديسي، ثم تابع التقاط صور تضاريس المكان، وكذلك تصوير أفلام وثائقية لكل ما مرّ به حتى طرق التعامل مع الكائنات كما العبيد". (صفحة 137)

وهنا السارد الخارجي يخبرنا أن أورين لفت نظره حُفرة عميقة من الوحل بها صخور مدببة تصدر منها أصوات فاقترب منها ليكتشف أن بها أشخاصًا مقيّدة تتحدث مثلنا، ورجّح أنها كائنات واعية، اقترب منهم واستمع لحديثهم، فتنامى لسمعه بعض العبارات مثل:

"خيانة فوبوس"

"لم أر في حياتي أبشع من هؤلاء الكيبلريين"

"إنهم سبعة فقط مَن سيأتون إلى هنا ويستوطنون كوكبنا، لكنهم يملكون آليين كثر"

"هم يضعون خطة لإبادة جنسنا الواعي فقط (الجانوس)"

"يقول العلماء: "إن هناك جنسًا آخر يسكن معهم استضافوهم على كوكبهم منذ مائتي عام يقال لهم(الأرضيون)، ويعاملونهم بمستوى أدنى منهم"(صفحة 139-140)

دخل أورين المركبة لتبدأ المنصة التواصل مع المركبة الأم لتنتقل إليها بيانات الفحص الجيولوجي والجيوديسي لمراجعتها، ونظر إلى الحكيمة فوجدها مغمضة العينين فأشارت إليه أن انطلق إلى أرض كيبلر فابتسم أنها مازالت واعية وبخير، وسعد أيضًا عندما وجد عائد لم يتأثر بسُميّة الغلاف الجوي للجانوس.

وأخبر أورين عائد أنه سمعهم وهم يطلقون على أنفسهم (الجانوس) وهم الفئة العاقلة على ذلك الكوكب ... لا يحبون القيادة ويحبون الانقياد والاتباع... أما بقية أجناس الكوكب فهم أجناس غير عاقلة، لكنها لطيفة ودودة، وهذا سيفيد الخطاب غدًا.

تلقّى أورباك رسالة ضوئية من رئيس الأمان (سيريس) فجلس مُسترخيًا مغمض العينين، فدخلت عليه زوجته الجميلة إليتورا مُحلّقة بِرقّة وهدوء، وهي التي تنازلت في السابق عن كل المناصب وفضّلت دراسة الطب لتخدم الجميع أهل كيبلر والبشريين على السواء، مع الالتزام بالقانون، فقد كانت عالمة للأبحاث السرية، فقالت له إن رئيس الأمان في الخارج يريد مقابلتك، فأمرها بإدخاله، فذهبت نحو الباب وأشارت إليه برأسها فتقدم وأمال برأسه تحية لها وقال: أشاطركم أحزانكم سيدتي، هزت رأسها تحية له.

حيّاه سيريس تحية رسمية فًهم أورباك منها أنهم مراقبون، وأخبره أنه جاء ليطمئن عليه فهو لم يظهر اليوم، فرد عليه أن اليوم إجازة وطنية ذكرى وضع القانون الأول لأهل كيبلر، وأنا أبتهج مع صوة ابني أورين، فعاجله سيريس "كنتُ أود أن نزور حميد مغًا"، فانتفض أورباك، وأخبره أنه لا يخالف القانون، صحيح أنه يوقر حميد لكن لا داعي للخطوط الحمراء، ثم دخل روبوت منزلي ليضع بعض العصائر الزرقاء، وقالت إليتورا" أرجو من السيد سيريس أن يقدّر حالة زوجي وحالتنا بعد وفاة ابننا الوحيد أورين"، وهنا تلقى سيريس رسالة من كبير العقلاء مفادها "لا تُغضِب تلك المرأة"، وفي نهاية اللقاء أخذ سيريس مشروبًا أزرقًا كالأمواج أعدته له إليتورا.

ومن الرؤى السردية الداخلية، والتي جاءت على لسان سيريس والعقلاء السبعة، إن العقلاء السبعة (هايبريون، هوبا، هيجا، هيبي، هيرميوني، هاليميد،هيجيموني)، لهم منطقة آمنة كما يمتلكون سبع مدائن آمنة أسطورية(إنهم يمثلون إمبراطورية في اتخاذ القرارات والحل والعقد لكوكب كيبلر)، ويدبرون المكائد والمؤامرات وخاصة للعلماء المخلصين، دخل عليهم سيريس مكتبهم، فسأله هايبريون عن المشروب الذي في يده فأخبره أنه يساعد على الاسترخاء والنوم، فتمسّك به، وخاصة عندما عَلِمَ أن إليتورا- حُبّه القديم- هي التي أعدته، زاعمًا أن أورباك سرقها منه على الرغم من زواجهما، وأن مصدر قوتها تستمده من حماية الصفوة لها، وأنها وأورباك من المخالفين، وأن بعض العقلاء وخاصة هايبريون يكره البشر جدًا ويدرسهم حتى لا يتمكنوا بذكائهم من اكتساح المجرات جميعًا، وأن كوكب كييبلر سيتم تدميره، وأما الجانوس الذي سينتقلون إليه فهو كوكب دافىء مشرق جميل يشبه الأرض قبل أن تنتكس بفعل البشر.

إن الخطاب غدًا، وإننا نملك الحق في كوكبنا الجديد الجانوس، نحن العائلة الحاكمة، ومَن أراد أن يعيش معنا فبشروطنا، لن يكون هناك سلطة لحكماء ولا استقواء بصفوة، ولا يهمنا غدًا ما تقوله سليلة المنبوذين(الحكيمة)، وأعتقد أن كميات الحجر الأرجواني التي جلبناها لأرض الجانوس كبيرة.

"لقد استضفنا البشر مائتي عام وهذا يكفي، هذه فرصتنا نحن للنجاة، وقبل تدمير كوكب كيبلر نأخذ ما ينفعنا منه، والأجناس الأخرى مسالمة ولا تعقل... إلا فئة واحدة فقط ... الجانوس، هم قادرون على التعلم والفهم السريع لذلك أبدتموهم، لنرجع إلى شجارنا المعتاد، خرجوا غاضبين محلّقين، وصمم هايبريون على الانتقام منهم، في تلك اللحظة كانت إليتورا وأورباك يجلسان ويشاهدان بثًا مرئيًا من قاعة العقلاء بالتفصيل عن طريق دبوس صغير داخل شعار قوات الأمان صنعته الحكيمة، أيقظ هايبريون سيريس من نومه بعد أن شرب المشروب ثم انقطع البث" (صفحة 153: 155).

وفي أحداث بالغة الأهمية سيترتب عليها ما بعدها، كان هناك تواصل بين أورباك وحميد، فبعد انتهاء البث ذهب حميد إلى صديقه أورباك، وحسب الخطة فقد وضع سيريس المُخدّر والمادة التي معه كما قالت له إليتورا حتى لا يتأثر بالعصير ويبوح بما في داخله أمام العقلاء، وبالفعل كان يغطّ في نوم عميق وهم يتكلمون، فالعقلاء يخططون للانتقال لكوكب الجانوس الجديد وأخضعوا الأجناس الأخرى غير الواعية لهم أما الواعية فتمت إبادة معظمها، وقد سحبوا الحجر الأرجواني بكميات كبيرة من كوكب كيبلر وضعوه هناك مما يتسبب في إحداث هزات عنيفة تهدده بالخطر فضلًا عن التجاوزات الأخرى.

ويوم الخطاب المشهود وأهل كيبلر ينتظرون في الساحة الكبرى، ومن المقرر أن تلقي الحكيمة الخطاب المهم الذي ينتظره سكان الكوكب ليعرفوا الحقيقة وما جرى لهم من القوانين البالية الظالمة، والمفاجأة هي أن الحكيمة قدّمت عائد وأورين، وهذا يعني أنهم أحياء:

تقدّم عائد قائلًا: سنتحدث الآن عما أشارت إليه الحكيمة الكبرى سيلا والذي وعدتكم بالإفصاح عنه اليوم، والتي لم تتوان لحظة طيلة الأسبوع المنصرم في تجهيزها، لابد أن تصل إليكم وتكون تحت إمرتكم، ونبدأ بالهزات الأرضية العنيفة التي أقلقت أهل كيبلر، أولًا نبدأ بعرض صور لأرض البراكين... (صفحة 165)  

في تلك الأثناء وفي تغير للأحداث لم يذهب العقلاء للساحة مثل أهل كيبلر استكبارًا واستعلاء عن مشاركة الشعب الكيبلري، وفي مشهد مهيب وجديد، دخل كبير العقلاء هايبرون منتجع العائلة الذي لا يدخله إلا هم ومعه العقلاء السبعة، ومعه الخدم الآلييين وسبعة من الروبوتات الجدد خلفه، وأعطى أمرًا للروبوت أن يصب في كؤوس العقلاء المشروب الذي أعدته إليتورا احتفالًا بالجانوس، وشرب هو فاطمأنوا، وشربوا، ولم ينتبهوا إلى مادة التجميد في قاع الكؤوس، فبعد أن شربوا سقطت من أيديهم فور تجمدهم، فانتهز هايبريون الفرة التي انتظرها كثيرًا وقال لهم: "أنا رئيسكم وكان يجب أن تخضعوا لسلطتي ولا تعترضوا ولكنكم طمعتم في مكانتي، سأحكم الجانوس وحدي، ثم ضحك بهستريا ضحكة الانتشاء والفخر، وقال: "ويسعون الآن لإنتاج علاج جديد للإنجاب حتى يصبح لي وريثًا في الجانوس"، ثم أشار إلى الآليين فاقتربوا من العقلاء وأطلقوا أسلحتهم المزودة بشذرات من الحجر الأرجواني، فتآكلت أعضاؤهم وخلاياهم ي الحال.

وبعد إبطال مفعول الروبوتات التي تحمي هايبرون، لم يعد له سلطان على أهل كيبلر وقد عرفوا الحقيقة كاملة.

تم إعطاء أوامر الحكيمة لسيريس لتجهيز مركبات لنقل أهل كيبلر إلى الجانوس، وفتح غرفة الأسرار فهناك إجابات كثيرة يمكن الحصول عليها من المركبة الأرضية وخريطة المسارات الكونية والبوابات السماوية للاستعداد أيضًا لزيارة كوكب الأرض؛ مما أضفى عليهم بهجة وحنينًا، وهو الحلم الذي داعب مخيلتهم طويلًا، وبالفعل وصلوا إلى الأرض.

ومع بداية نسمات كوكب الأرض وفي أول "لحظات ميلاد الشروق من رحم الظلمة وسكون الليل البهيم تشقّ السماء، تفرِد أشعتها رويدًا رويدًا لتغازل البحر الأزرق وتقبّل مياهه النقيّة الشفافة التي تعانق الآفاق لتحتوي النسمات الثائرة وتهبها بعضًا من دفئها لتصحبها قليلًا في رحلتها اليومية لتزمّل الأرض..." (صفحة 186)، وبدا على الحكيمة سيلا بعض الإعياء على الرغم أنها مكثت طويلًا في الحجر الصحي، وأخذ عائد يمزح معها ليخفف عنها، وبعد قليل وهما يسيران في منطقة نائية فجأة ظهرت أمامهم مركبة فضائية أكثر تطورًا وإذا بفتى كيبلري جميل شعره أبيض، ويبدو أصغر من عائد، اتضح أنه أورين فلم تتغير ملامحه إلا قليلًا فرحّبا به ترحيبًا حارًا.

كان الأمر صعبًا عليهم في البداية ثم بدأوا التعود على هواء الأرض، وأخذت الحكيمة تشرح لهم التغيرات على كوكب الأرض من الحرية المفرطة والثراء الفاحش والكنوز والثروات الضخمة وحب تجميع المال، وغيرها من الصفات إلا القليل منهم، وأشار أورين أن أهل الجانوس لا يختلفون عنهم كثيرًا مع المطالبة بنصف كمية الحجر الأرجواني،"لذلك تم إخراجه وتهريبه هنا معي في أسطول ضخم"، أمرت الحكيمة الآليين بدفنها في غرفة سرية داخل أعماق الأرض مع وضع مادة عازلة؛ حتى لا ينسف الكوكب بأكمله.

في هذه الأجواء الدافئة أخبرتهم الحكيمة أنها الآن في عامها الستين، لذلك قررت العودة للانسجام والتناغم والتوازن الداخلي والاستعداد للنهاية التي لا مفر منها.  

اجتمعت العائلتان في المساء في جو يسوده الدفء والمودة، ثم قالت الحكيمة:" أحيانًا لابد من احترام الاختلاف وكبح جماح روح المغامرة، إذا ما اقتربت من شفير التهور ... فكرة الزواج من كائن آخر ليس من جنسك، أعتقد أنها فكرة كارثية بجميع المقاييس، لذلك أحمد الله على وجود الحجر الضوئي الأخضر. كان جلبه إلى هنا فكرة رائعة" (صفحة 191)   

 وفي لقطة مزاح قال عائد لأورين:"لٍمَ لا تحلّق هنا منذ مجيئك"؟، حاول أورين ولم يستطع، فال أورين:"لا أصدق، لا أستطيع الطيران على كوكب الأرض"، فضحك عائد، فجرى خلفه أورين ففرّ منه، ثم انضم إليهم أطفال عائد ليعم الصراخ والضجيج المكان، وضحك أورباك وحميد وابتسمت كل من إليتورا وزوجة عائد.

سألت إليتورا عما إذا كان في الإمكان الرجوع إلى الجانوس قبل إغلاق البوابة؛ لأن فيه الأهل والأحباب والمعارف، فردّت عليها الحكيمة مطمنئة لها وموضحة:" أتفهم مشاعرك جيدًا ... لكن هنا أيضًا أهلك وأحبابك ... الفروق الزمنية كبيرة إن نجحتم في الذهاب إلى الجانوس ربما وجدتم تفاوتًا كبيرًا بالنسبة لكم ... ألم تلاحظوا الفرق بين أعمارنا؟، شهر واحد على الجانوس يُعد هنا عشرين عامًا، منها الفترات الزمنية الكبيرة التي استغرقناها في الوصول إلى وجهتنا، على عكس التوقيت الزمني بين الجانوس وكيبلر". (صفحة 193)، وفجأة وأثناء هذا الحديث حدت تغيرات لإليتورا فأغمضت عينيها مرة بعد مرة وتعالت أنفاسها وحدث احمرار حول عينيها، ونظرت الحكيمة سيلا إلى أورباك فوجدته مثل زوجته، فأدخلتهم بمساعدة حميد إلى الحجر الصحي، وفي نفس الوقت نزلت قطرة دماء من أنف أورين فصرخ عائد فانتبهت الحكيمة فأدخلته الحجر الصحي على الفور، وأحضرت المزيد من الحجر الضوئي ووضعته حولهم وزمّلتهم بأغطية مزوّدة به، وبعد أسبوع تحسنت حالتهم الصحية ففكرت الحكيمة في بناء منزل صغير لهم مصنوع من الحجر الضوئي.

وفي مشهد مؤثر، تعبوا مرة أخرى، وزادت حالتهم الصحية سوءًا، أمسكت الحكيمة يد إلينورا فوجدتها فارقت الحياة هي وزوجها، وظل أورين ينازع والدم ينزف من أنفه حتى فارق الحياة هو الآخر ليلحق بأبويه، عندئذٍ بكت الحكيمة كثيرًا بينما لم يتحمل حميد فراق صديقه الحميم وفارق الحياة بعد أسابيع.

وفي مشهد عام يوضح رسم صورة لحياة كوكب الجانوس؛ فقد ترسّخت معاملة العقلاء السبعة القاسية في نفوسهم، التقت هذه النقطة السوداء مع سرعتهم في التعلم والدّقة والنظام وحسن الإدارة، والمعاملة الطيبة من أهل كيبلر الذين انتقلوا إليهم؛ فتحوّلوا إلى قوة شرسة عنيفة في الكون فأخضعوا أهل كيبلر وباقي الأجناس لخدمتهم، وكوّنوا أسطولًا لغزو العوالم الأخرى.

ظهر التعب والهرم على الحكيمة فأسندها عائد فشكرته على المواقف النبيلة وأنه كان لها بمثابة الابن البار المطيع، وقالت:" أرجو من الله أن أكون تركت أثرًا طيبًا فيك وللبشر، وعلمًا نافعًا ينتفعون به"، ثم أغمضت عيناها وأخذت نفسًا عميقًا وفاضت روحها، فبكى عائد ثم دفنها في مقبرة قرب المختبر، ودفن خريطة توضح مدخل المختبر تركها ميراثًا لأحفاده وكتب على المقبرة (هنا يرقد الحكماء وذويهم وأسرار النجاة)، وجلس بجانب قبره الذي أوصى أبناءه أن يدفنوه فيه.

تم إغلاق الكتاب الذي كانت تقرأه فتاة-سيلا- في الثانية عشرة لأخيها-محمد- الذي يصغرها بعام واحد وهي تحثه على البحث عن أسرار النجاة التي تحدث عنها جدها عائد، فأخبرها أنه لم يحن الوقت بعد؛ لأنه لا يوجد غزو قريب أو خطر، فأقنعته بأننا لابد أن نستعد بالبحث والفهم والمعرفة.   

      وختام رواية العائد وروعة القفلة تمثّلت في اسم عائد البشري الذي اختارته الكاتبة ليتطابق مع عودته إلى موطنه الأصلي أمُّه (الأرض)، حيث الطبيعة الخلّابة والشمس الساطعة والنفوس الطيبة والاختلاف والاتفاق.

   وفي نهاية القصة ونهاية الحكماء، تأتي النهاية لبداية صراع جديد ورحلة جديدة ودورة جديدة من البحث عن النجاة والعودة للأصل ولكن بعد التسلّح بالعلم والقوة والأخذ بكل جديد مع الاحتفاظ بالأسرار والقيم والأخلاق وعدم الظلم وأكل الحقوق ونهب الثروات وتدمير الأرض.

"في عمق الكون ينبثق ضوء مشع من رحم المادة المظلمة في النسيج الكوني، ليست نجومًا إنما مركبة فضائية غريبة مخيفة تقود أسطولًا مرعبًا يغزو الكون، ليظهر داخلها قائد مخيف عنيف...

مهلًا ... إنهم

إنهم". (صفحة 198)

..........................

(الإثنين، 24 نوفمبر، 2025م)

 

 


الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

قراءة تحليلية للأديب والناقد / عبدالغفور مغوار لقصيدة " أنا عاشق الأمل" للأديب الكبير الأستاذ حسن أجبوه

 

 قراءة تحليلية لقصيدة " أنا عاشق الأمل" للأديب الكبير الأستاذ حسن أجبوه

أنا عاشق للأمل..
على ضفاف الأشواق
تأخذني على حين غرة
تقلصات عبق التاريخ
تشنجات تضاريس
السفر البوهيمي للجرة
أكسرها علِّيَ أظفر
بنكهات توابل الأسواق
تأخذني ولا تدعني..
أنا الجائع للقمح والخضرة
أقيم معاهدة بين القبل
حمراء تسرق الشفاه
تروي سغب الحرة
تقاتل العوانس طواحينا
كانت...
أو أراجيزا للسهرة
فلا شفق بين الكلل
بدرا وسيم القمرة
يغري الدمى بالشهرة
على ضفاف الأذواق
تودعني كوابيس النحل
إيديولوجيا كانت أو عمرة
لست أميرا برقعة شطرنج
أنا فقط عاشق للأمل..
بقلم حسن أجبوه
المقدمة
تقدّم هذه القصيدة لنا لمحة عميقة ومثيرة حول حالة الحب والشغف التي يعيشها الشاعر تجاه الحياة والعالم من حوله. بدايةً، يُعلن الشاعر عن نفسه بأنه "عاشق للأمل"، مما يرسم لوحة بينية إيجابية ومتفائلة لرؤيته للحياة. في هذه القصيدة، يبدو الشاعر وكأنه يجسّد الحماسة والحب العميق للعالم، حيث يُلقي بنظرة عاطفية على الأشياء المحيطة به. سنتناول في التحليل القادم فهم الصور البصرية والمعاني العميقة التي تحملها الكلمات في هذه القصيدة المثيرة.
العرض
1- العنوان
في هذا العنوان المميز "أنا عاشق الأمل"، يتجلى الشغف العميق للشاعر بالأمل والتفاؤل، مما يجعل هذه القصيدة قمة في التعبير عن الروح الإيجابية والإلهام. الكلمة "عاشق" ليست مجرد كلمة، بل هي وعد من الشاعر بأن يكون الأمل مصدرًا لإلهامه وقوته. تعكس هذه الكلمة العمق العاطفي والارتباط الشديد الذي يشعر به الشاعر تجاه الحياة وإيمانه بقوة التفاؤل.
في سياق أوسع، هذا الموضوع ليس فقط محصورًا في هذه القصيدة العربية، بل هو موضوع يشد انتباه الشعراء العالميين أيضًا. فالأمل والتفاؤل هما موضوعان مركزيان في العديد من القصائد العالمية، حيث يسعى الشعراء من جميع أنحاء العالم إلى نقل هذه المشاعر الإيجابية للقرّاء. مثلاً، في أعمال الشاعر الشيلي الشهير بابلو نيرودا، يتجسد الأمل والتفاؤل تحت ظروف قاسية وتحديات اجتماعية، مما يعكس القدرة الرائعة للشعر على رسم صور للتفاؤل حتى في أصعب الظروف.
باختصار، "أنا عاشق الأمل" يمثل ليس فقط عنوانا لقصيدة، بل رمزًا للقوة والروح التي يحملها الأمل في عالم الشعر وكيفية تجسيده في أعمال الشعراء العالميين.
2- الأمل والشغف
الأمل والشغف هما موضوعان شائعان في الشعر، حيث يعكسان الإحساس بالحياة والإلهام. في قصيدة "أنا عاشق الأمل"، يندرج الشاعر ضمن هذا السياق، حيث يستخدم اللغة الشاعرية ليعبر عن ارتباطه العميق بالأمل والشغف بالحياة.
شعراء عرب وعالميون آخرون استخدموا الأمل والشغف كموضوعات مركزية في قصائدهم. على سبيل المثال، الشاعر اللبناني الكبير جبران خليل جبران، في قصيدته الشهيرة "النبي"، يُلمح إلى قوة الأمل والإيمان بالحياة عبر عبارات تنبع من الروحانية والإيجابية. وفي الشعر العالمي، الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون، التي كتبت العديد من القصائد حول الأمل والشغف، تُظهر كيف يمكن أن يُلهم الأمل القلوب حتى في أصعب الظروف.
عبارة "على ضفاف الأشواق" تجلب إلينا الصور الرومانسية، وهي موضوع شائع في قصائد الحب والشوق. الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، في قصائده، يُظهر الشغف بالحب والأمل من خلال الطبيعة والأشواق، حيث يخلق صورًا رومانسية جميلة على ضفاف الأنهار وتحت أضواء القمر.
باختصار، هذه القصيدة ومثلها في أعمال شعراء عرب وعالميين آخرين تشير إلى قدرة الشعر على نقل مشاعر الأمل والشغف بالحياة، مما يُظهر قوة الكلمات وإلهامها للقرّاء بتجاربهم وآمالهم.
3- الرحلة والاستكشاف
يتبين استخدام الشاعر في قصيدته للغة الغنية والصور البارزة لينقل للقارئ فكرة الرحلة والاستكشاف كمكونات أساسية لحياته وتجاربه الشخصية. تعبير "تأخذني على حين غرة" يُشير إلى استعداد الشاعر لاستكشاف المجهول ومواجهة التحديات بروح مستكشفة وشجاعة لا تعرف الخوف. تعكس هذه العبارة جاذبية الغموض والمغامرة، حيث يظهر الشاعر جاهزًا لاستقبال ما قد يأتي في المستقبل بكل شجاعة وحماس.
من جهة أخرى، عبارة "السفر البوهيمي للجرة" ترمز إلى الحياة الحرة والفنية، حيث يسعى الشاعر للسعادة والرضا الروحي من خلال تجاربه واستكشافاته. يستمتع باللحظة الحالية بحرية، يعيش دون الالتزام بالقيود الاجتماعية أو المادية. يُوضح هذا السفر "البوهيمي" رغبته في اكتشاف الجمال والإبداع في كل تجربة، حيث يسعى الشاعر لاكتشاف الجمال حتى في أصغر التفاصيل وأحلى اللحظات.
هذه العبارات تجمع بين الاستعداد المستمر لاستكشاف المستقبل والاستمتاع العميق بالحاضر. تظهر صورة للشاعر كاستكشافي حر، جاهز لاستكشاف عوالم جديدة والتمتع بالحياة بجميع جوانبها. هذه المفاهيم تُجسد روح الحرية والبحث عن المعنى والجمال في عالم متنوع ومتغير، وتربط الشاعر بأرواح الشعراء المستكشفين الذين قاموا بنقل روح الاستكشاف والحرية في قصائدهم، مثل الشاعر الفرنسي الشهير أرثر رامبو والشاعرة الأمريكية الرائعة سوزان سونتاغ.
4- الجمال والجاذبية
يستخدم الشاعر في قصيدته لغة ملونة وصورية تجلب للقارئ تجربة غنية من الجاذبية والجمال. يُذكرنا أسلوب الشاعر بالشعراء الرمزيين الكبار في الأدب العربي والعالمي، مثل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو والشاعر الفرنسي الآخر تيودور بودلير. في قصائده، كان رامبو يستخدم لغة غنية وصورًا رمزية ليعبر عن الجمال والجاذبية بأسلوب مبتكر وجديد، كما كتب بودلير عنهما بطريقة مثيرة ورومانسية، حيث استعمل اللغة بشكل متقن ليعبر عن الرغبات والأحلام الجميلة.
في عبارة "حمراء تسرق الشفاه"، يُجسد الشاعر تأثير الألوان وجاذبيتها، وهو موضوع كتب عنه رامبو بشكل مبهر. رامبو استخدم الألوان بشكل فعّال في قصائده ليعبر عن الحياة والعواطف بأسلوب فريد. عبارة "يغري الدمى بالشهرة" تُشير إلى الرغبة المستمرة في الجمال والانتباه، وهي فكرة تميزت بها أيضًا قصائد بودلير، الذي كتب عن الجمال والشهرة بطريقة فلسفية ومبهرة.
تجمع هذه العبارات بين الجمال الظاهري والرغبة المستمرة في الجذب والجمال الداخلي، مما يذكرنا بأساليب الشعراء الرمزيين الكبار وإبداعهم في التعبير عن الحياة والعواطف بأشكالها المتعددة. هذا الوجه المزدوج للجمال والجاذبية يعكس القدرة الفائقة للشعر على إلقاء الضوء على جمال الحياة وأعماق الروح الإنسانية.
5- التضاريس والصراع
يستعرض الشاعر في قصيدته التضاريس المعقدة للحياة ويُسلط الضوء على الصراعات الحضارية والإنسانية. عبارة "تشنجات تضاريس" تُعبّر عن التجارب المختلفة والصراعات الحياتية التي تشكل جزءً أساسيًا من رحلة الإنسان في هذا العالم. هنا، يرتبط الشاعر بروح الكتّاب الكبار مثل الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، الذي قام برسم خريطة للتضاريس الإنسانية بأسلوبه الفريد والمؤثر.
عبارة "تقاتل العوانس طواحينا" تستعرض الصراعات والتحديات في العلاقات الرومانسية، وهو موضوع استكشفه الشاعر الفرنسي الشهير جيلبرت بيكر، الذي كتب عن تعقيدات العواطف والصراعات العاطفية بشكل عميق ومؤثر.
تجمع هذه العبارات بين التضاريس الحياتية المعقدة والصراعات الإنسانية، مما يعزز من عمق القصيدة ويجعلها قوية ومؤثرة. يظهر الشاعر هنا كمتصارع بروح الأدباء العظماء، الذين قاموا بتسليط الضوء على تعقيدات الحياة والصراعات الإنسانية بأسلوبهم الخاص وإلهامهم المستمر.
6- الثقافة والتاريخ
يتجلى اهتمام الشاعر في هذه القصيدة بالثقافة والتاريخ، ويستخدم تلميحات مميزة ليعكس تنوع الحضارات وجمالها. عبارة "بنكهات توابل الأسواق" توحي بتجارب الثقافات المتنوعة وتعدد الطهي في الأسواق العالمية. يُشبه هذا التعبير لوحة فنية تظهر مختلف الألوان والنكهات التي تحملها الثقافات المختلفة، ويُشير إلى تجارب الحياة والمعاناة والفرح التي تتنوع في العالم.
من جهة أخرى، العبارة "أو أراجيزا للسهرة" تشير إلى الفلكلور والثقافة التقليدية. تُمثل الأراجيز جزءً من التراث الشعبي في العديد من الثقافات، وهي قصائد تُقال في السهرات والمناسبات الاجتماعية أو فرجة تقام في المواسم والمهرجانات. تظهر هذه العبارة تقدير الشاعر للفلكلور والتراث، ويُظهر كيف يُمثل التاريخ والثقافة جزءً أساسيًا من هويتنا وتجربتنا الإنسانية.
وهكذا، تربط هذه العبارات بين التنوع الثقافي والتراثي وبين الجمال والغنى الذي يأتي من التفاعلات الثقافية المختلفة. يُعبر الشاعر هنا عن تقديره للثقافات المختلفة والقيم الثقافية التي تُثري حياتنا وتُضيء مساراتنا بالفهم والتسامح.
الخاتمة
يظهر الشاعر عمق العواطف الرومانسية والحكمة الحياتية، ويُعبّر عن فهمه العميق للحياة والعلاقات. عبارة "لست أميرا برقعة شطرنج" تُلقي الضوء على النزاهة والصدق اللذين يجسدهما الشاعر ليُظهر استقامته وقوته الداخلية بدون حاجة للاستعراض أو الخداع. يُبدي الشاعر هنا وعيه بقيمة الصدق والأصالة في الحياة، مستلهمًا فكرته من الشعراء الألمعيين مثل الشاعر الأمريكي رالف والدو إيمرسون، الذي ألهم القُرّاء بفهمه العميق للحياة الداخلية والنزاهة في التعامل مع العالم الخارجي.
بهذه العبارة، يُفسر الشاعر أنه لا يحاول الانتماء إلى صورة مزيفة أو التلاعب بالحقائق ليُرضي الآخرين. بدلاً من ذلك، يحترم الشاعر نفسه ويُقدر قيمته الحقيقية، وهو يتقبل نفسه بكل مميزاته وعيوبه. يستمد هذا المفهوم من فلسفة الشاعر الداخلية، ويُعزز من فهمنا للتفاني والنجاح الحقيقي الذي يأتي من خلال قبول ذواتنا والحياة كما هي، بكل جمالها وتحدياتها.
الشاعر الكبير حسن أجبوه قدم لنا لحظات روحية فريدة من نوعها من خلال هذه القصيدة الجميلة. تجسد عباراته تناغمًا بين الكلمات والأحاسيس، وتفتح أمامنا أفقًا جديدًا من الفهم للحياة والحب والثقافة. بأسلوبه الأدبي الرائع، لقد نجح بالفعل في نقل العمق والحكمة بطريقة تلامس القلب والروح.
قصيدته تعكس فهما عميقًا للإنسانية، وتجسد قوة الأمل والجمال في وجه التحديات. بدون شك، حسن أجبوه يظل رمزًا للشعر العربي ومصدر إلهام لكل من يتذوق جماليات اللغة والعواطف. تفتح قصائده آفاقًا جديدة للفهم الإنساني، وتذكيرنا بأهمية الصدق والصراحة في التعبير عن الذات.
لذا، نتوجه بالشكر والاعتزاز إلى حسن أجبوه على إثراء الأدب العربي بكلماته الرائعة وأفكاره العميقة، ونترقب المزيد من إبداعاته المستقبلية التي ستستمر في إلهام القراء.
عبد الغفور مغوار - المغرب

الاثنين، 24 يوليو 2023

العنونة الشخصية في قصة ( لقاء عابر ) للكاتبة المصرية / د . منال رضوان قراءة ورؤية أ.د مصطفى لطيف عارف ناقد وقاص عراقي

 العنونة الشخصية في قصة ( لقاء عابر ) للكاتبة المصرية / د . منال رضوان قراءة ورؤية  أ.د مصطفى لطيف عارف ناقد وقاص عراقي


 لقد تنبه كتاب القصة إلى خطورة العنوان في البناء الفني، فراحوا يتأنقون في صياغته، واختياره استجابة لوصايا نقادهم، حتى أنهم استهلكوا في صياغته، واختياره ضعف الوقت الذي استهلكوه في كتابة قصصهم، ذلك لأن عملية اختيار العنوان القصصي ليس بالعمل اليسير، تلك التي تكتشف فيها القاصة عنوانا لقصتها، لأنها في الحقيقة تكتشف عالمها القصصي، وعلى نحو عام أن العنوانات القصصية غالبا ما تلخص فكرة العمل القصصي نفسه أن العنوان القصصي يأتي أما على عبارة لغوية، أو رقما، وربما يأتيان معا، وأخيرا لابد لنا من الإشارة إلى أن كتاب القصة القصيرة يسلكون طريقين في اختيار عنوانات مجاميعهم القصصية هما: الاستعانة بعنوان إحدى القصص لجعلها العنوان الرئيس للمجموعة بأكملها، وهذه القصة أما أن تكون أحدث زمنا أو أكثر قصص المجموعة تطورا من الجانب الفني، أو أشهرها، أو أكثرها ذيوعا، أو أن عنوانها يتسم بعنصر جمالي أو دلالي يؤهله لأن يكون عنوانا للمجموعة برمتها، والطريق الثاني انصرافهم إلى عنوان آخر ينتزعونه من السياق العام للمجموعة القصصية، وهو ما فعلته القاصة (منال رضوان) عند اختيارها عنوانات لقصصها، بقي العنوان، قد يرتبط بالشخصية أو لا يرتبط تماما فهناك عنوانات بعض القصص باسم أحدى شخصياتها، وقد يكون العنوان لا يحمل اسم شخصية من شخصيات القصة، كما يبين إحجامه عن تقييد القارئ بعنوان ربما يوجه اهتمامه نحو مظهر من القصة دون آخر، إعتقادا منه أن العنوان يمثل جزءا حيويا من بنية النص إلى جانب كونه مفتاحا تأويليا، والعنوان في تركيبته التأويلية ينبئ عن علم مكتظ من العلامات، والشفرات التي تتحول إلى دوائر تدور حول بعضها مثيرا عددا غير قليل من الدلالات، والبنى الإيحائية، عنوان القصة القصيرة (لقاء عابر ) يظهر قاصرا على مفردته الأولى، وليس قاسما مشتركا لها، ووحدانية -القص- بوصفها كيانات، تحتسب لصالح- الحكاء- مع تكامل الصور لترسيمها عملا إبداعيا (إنتاج مادي,وروحي) وتطابق مجريات المتغيرات التي تحدث داخل المشاهد التصويرية سواء أكانت فاعلة أم هامشية حقيقة كانت أو مفتعلة، فنراها تقول : أذكر ليلة جلوسنا إلى طاولة نائية في ذلك النادي الشهير، كنت تود أن تتعرف إليّ أكثر من مجرد لقاءاتٍ عابرة، أو مكالماتٍ هاتفية تستغرق بضع دقائق، سألتني عن أشياء كثيرة، وأجبتك أكثر وأكثر؛ حتى بت أرتديك كثوب من العري لا يستر شيئًا من ندبات السنوات الماضية- الوعود المنسكبة على يديّ بأنها مرة أخيرة للبكاء لازلت أذكرها، كذا ابتسامتي الواهنة المنتهية.. بلا تعليق. كلماتك من قصيدة الورد والياسمين، لثمت عنقي كقرط من لآلىء تداعبها نسمات ربيع محببة باحت أخيرًا. إن النص الذي يأسر القاصة (منال رضوان )، ويدفعها لخلقه، ورميه إلى ذائقة المتلقي هو النص المتماوج على حدة اللغة، وقسوة الصورة، والإيغال في تشظيات النفس الإنسانية، هذه الركائز الثلاث هي ما يستطيع الوقوف على أثافيها ليخرج باعتقاد أن القاصة تحتفظ بخزين وفير من القدرة على السرد،

 



واقتناص الموضوع بيسر، وعرض النص بما قد لا يريح المتلقي، ويترك في نفس القارئ فسحة للابتهاج، فنراها تقول : اعتدت ابتسامة خافتة تتلعثم وسط الضجيج، لكنك سألتني أن أضحك بصوت أقوى، فصرت أضحك وأضحك؛ حتى تعرفت معك إلى صوتي للمرة الأولى!نظارتك الطبية التي ارتديتها؛ فَأُخذتُ في رجفة دوار رمادي غيبني عن واقعي، واكتفيت بلحظاتي الوامضة أنسج خلالها ملامحك التي أكاد أعرفها. خاتمك الفضي الضخم الذي انتزعته من إصبعك وتوجته إبهامي، فعلتْ ضحكاتنا أكثر وأكثر .أذكر أنه ليس بخاتم زفاف، فلم يكن لك امرأة كما أخبرتني، وربما لم تكن لك امرأة واحدة.. لست أدري، على أي حال لم أكن أريد الانشغال بغير نقراتي على الطاولة ورجع من همهمات أصابعي :(تِك تِك تِك.. تِك) حتى سألتني وأجبتك : - هذا عنوان قصتي الجديدة، طاولة. لذا فإن نص القاصة (منال رضوان ) هو نص الشفرة التي لا تترك ألما بل تصنع جرحا يحتاج القارئ لوقت غير قصير كي يشفى من صراخه أن عنوان القصة القصيرة تعطينا دلالات نقدية سيميائية تدل على مضامين القصة، فنراها تقول : نعم، طاولة تأنس إلي حديث الأصابع ويؤرقها جليد الكلمات.- كم منحتني ابتسامتك الدفء الذي جعلني أربت على طاولتي، ولا أعود ألكزها في عناد طفولي يستثير المزيد من أسئلتك. لم أنس النادل الصغير الذي لم يستسلم إلى مداعبتك حول نقاوة البن، فأتاني بقهوتك المتخمة بسكر، ووضع أمامك قهوتي المُرَّة، وكم كان ودودًا إذ أخبرنا بمؤامرته قبل أن أرتشف قهوتك؛ فأدمن حلاوتها، أو تجرع قهوتي؛ فتعودك ذكريات مذاقها..ولم نعد نملك الكثير من الوقت، كان علي أن أغادرك على وعد جديد باللقاء.غير أننا نسينا توديع الطاولة،كذلك هي، لم تعد تعبأ بنا؛ فكم خذلها الإنصات إلى حكايات العابرين. ومن خلال استنطاق قصة( لقاء عابر)نجد النص الذي تريده القاصة (منال رضوان) محمولا بالدلالات، لابد أن يأتي مستلا من تفاصيل سلوكيات اجتماعية ارتأت إحضارها من أزمنة مختلفة في العلائق، ومتفاوتة في التشابكات، فهي تستعين بالشخصية المحورية استحضارا للحكمة، وتتكئ على شخوص الحاضر معطيتن إياها دور الباحث المتفاعل الذي سيخرج بحصيلة تتكرس مدلولات تسهم في فائدة البشرية في التعامل، والحكم، إنها تمنح المتلقي أبوابا متعددة مواربة للقراءة، والتأويل اعتمادا على كون النص كرة كريستالية تبث الدلالات التي تستنهض رؤى المتلقي فتثير فيه مهمة البحث عن الشفرات, بصوته الموسيقي وأخيرا نقول يحسن النص السرد المختزل لإنتاج قصة قصيرة جدا مستلة الفحوى من نسيج الواقع.


الخميس، 13 يوليو 2023

قراءة الأديب / عبدالله النصر، في رواية (مع سبق الإصرار والترصد) للروائية / سهام مرضي


رواية (مع سبق الإصرار والترصد) للروائية سهام مرضي، الصادرة عن نادي حائل الأدبي، السعودي.
رواية تحكي قصة الأم التي بعد أن فقدت زوجها تاركاً لها ثلاث بنات وولد، لم يكن في وسعها إلا أن تخنع للرجل العنجهي الجاهل المتخلف الذي يتمسك بالدين قشرًا وماهو بالدين، ويتشدد فيه، فيطبقه على المرأة التي تم تجهيلها وحبسها في عادات وتقاليد مجتمع صلف جاهل يخترع أخلاقه من منبع القبيلة المتعجرفة والفخوذ المتعصبة وما تقضيه التقاليد والعادات وحب الذات والمصلحة الخاصة، ومن تفسير للآيات والأحاديث حسب الهوى وما يوافق الأهداف الظالمة المتعسفة.. تخنع و تستسلم لمزاج أخيها ذي الجبروت الذي يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحفل منه على نهايات سيئة لبناتها الطموحات. وتقود، وهي محنية الرأس صامتة، بيتها برفعة الرجل وإعطائه منزلة لا يستحقها ولو كان مخطئاً جاهلاً أحمقاً وتُدني المرأة ولو كانت صائبة متعلمة واعية. كما تُسيِّرُ بناتها خانعة مستسلمة وفق قوانين منحدرة خاوية يسنها أخوها المتدين ورجالات عائلتها وقبيلتها، قوانين عزل وتهم وتخويف وترهيب وتغريب، لتردي بنفسها وبناتها في الحضيض والمآسي والألم والانحدار والضياع، فعوضاً عن ضمها واحتوائها لهن وإعطائهن منزلتهن وقدرهن، تُكبر وتؤثر ابنها أصغرهن عليهن وهو في سن المراهقة بل الجاهل الذي لم يتعلم والعاطل السكير اللوطي وصاحب السجون وتتخذ منه ولي أمر عليها وعليهن إلى جانب أخيها خال البنات الثلاث..
تُطبق عليهن قوانين العبودية والسجن في البيت والخنوع والتذلل والمسكنة وعدم الحصول على أي حق من حقوقهن المشروعة في الحياة، التعلم، مخالطة المجتمع، المشاركة في الرأي والقرار، وقيادة السيارة من أجل تلبية شئون الحياة، وعدم الحب، وعدم الاختيار، وعدم الرفض، حتى حقها في أخذها للعلاج والاهتمام بها كإنسان لم تحفل به، الخ.. مما تتطلبه لأسباب الحياة والمشاركة فيها مع الرجل على حد سواء في البناء والتنمية والتقدم، إلا أن تخرج من البيت إلى بيت الزوج وربما يمارس عليها ذات القمع والترهيب حتى تقبر، وإن كان متعلماً ومبتعثاً، أو تبقى في ذل حتى ينزل عليها لطف من السماء ويخرجها من الظلمات إلى النور.
وتبين أيضًا حال فئة من المجتمع السعودي الذي تحول بأفكاره المستعارة من جهات الكفر والزندقة والإرهاب والمشردين إلى أناس إرهابيين دعاة للموت والقتل والتنكيل بمن يخالفهم في الرأي والفكر والدين ويجب قتلهم، ولاسيما من طرف النساء اللاتي انجررن بسذاجة وحمق لأولئك الحمقى فغدون يسمون الذي يفجر نفسه في الناس بأنه شهيد بطل.. كما تبين بأن هذه المآسي صارت في عين الغرب وجعلته ينظر إلى المجتمع السعودي بأنه مجتمع منغلق مسكون بالتخلف والسذاجة والحمق، بل ومضطهد وغير مقبول في وجوده على أراضيهم، حتى أصبح الفرد السعودي يتخفى خلف جنسيات أخرى.
كما تبين مجتمعاً تعتبره الكاتبه من الرعاع لأنه (نمطي لا يحب الخروج من نسقه) و(كأن الخروج معصية) ، هذا المجتمع يعتبر المرأة هي حق للغير، وخادمة للرجل لاقيمة لها، وليس لها ما للرجل أبدًا.. تبقى مقموعة حتى تنحدر إلى الشذوذ وتلبس شخصية الرجل وتمارس السحاق والرذيلة مع مثيلاتها بل وتطلب الزواج منهن.
وقباله هذا هناك الابنة الكبرى التي تتصدى لهذا الفكر التعنت رغم القسوة والاضطهاد والألم والضرب والشتم والتنكيل والحرمان والتغريب .. تتصدى بما لديها من قوة، وتواجه القوى الكبيرة التي تتشارك وتجتمع عليها مرة واحد، ليست فقط الأسرة، بل كل فئات المجتمع.. مناشدة في كل عبارة من عباراتها المؤلمة الوطن بأكمله بل وولي أمره ثم الواعين من المواطنين.. للخروج من هذا المأزق القذر والخندق الموحل..
رواية تزيدك ألما فوق ألم، لكنني كسارد أشيد بهذه الرواية من جانبها الصياغي الجميل، المليء بعبارات المتعة والروح الإنسانية، أشيد بأسلوبها المفعم بروح الشاعرية التي تبينها خواطر الألم والمناشدة وهي كثيرة بثت في أرجاء السرد ولو كانت عنوة أو غالبة على السرد ذاته، كما أشيد بالحوار المتشضي الذي يرفع منسوب المعاناة، وكذلك اللغة السهلة التي لم تتعالى على القاريء، فضلاً عن الحدث الذي يتفجر بنشوة التشويق حتى ليشدك إلي النهايات لكل شخصية من الشخوص. علماً بأن شخصية (سحر) وهي الابنة الكبرى، هي الراوية، ويدور حولها الحدث، وهي التي تلعب في كل الأدوار وتفجرها، وتبين رأيها ووجهات نظرها، وتظهر أنها البطلة الفاهمة الواعية المثقفة البناءة، وهي الوحيدة التي تهتم بالببت وتساعد وتراعي أخواتها وأمها والعطوف الودود اللطيفة عليهم، وتخدم أخاها رغم تلقي الصفعات منه، أما أخواتها (سناء وإيمان) ليس لهن دور في تفجير الأحداث وحلها، فقط يأتيان حسبما تتطلب الراوية إتيانهما، وكذلك الأخ سعيد له فقط جزء بسير جداً في تحريك الحدث في البداية وإلا يبقى بعيداً في المنتصف ثم يعود ويؤزم الحدث ويوصله إلى نهايته المفجعة، أما شخصية الأم رغم أن الراوية تتحدث عنها بأنها مصدر لكل الآلام والوجع والظلم والخنوع والذل والمهانة، إلا أننا لا نجدها تتحرك وتتحدث وتقول وتسير الأحداث كما ينبغي، أما شخصية الخال فهو الشخص الذي يلعب الدور الكبير بجانب البطلة يواجه كل تحركاتها بالصد والمنع والتحريم والشتم والضرب والمهانة وغيرها، حتى أنه ليكون هو الشخصية التي تجتمع فيها كل مساوىء العالم الوقح والمقيت وهو الرجل الذي له الكلمة الكبرى والمشورة حتى في وجود الأخ العائل، وأما شخصية الجد الذي لم يتضح لي بأنه جدٌ من جهة الأب أو جدٌ من جهة الأم، فهو شخصية رجل تركته زوجه لتهمة ما، وبقي وحيداً، تلجأ إليها البطلة لتأخذ منها العطف و المدد والتصبر والقوة لتكمل مشوارها، حتى يتوافاه الله، وأما مرام فهي الشخصية المساعدة لسحر ظهرت بعد فقد جد سحر حدها، تعينها على زواجها من أخيها فيصل الذي هو الحلم والأمل الذي تحاول التشبث به على تخوف للخروج به من النفق المظلم.. أما بقية الشخصيات فتحضرها الراوية لتظهر لنا بعض المظاهر السلبية المجتمعية وقبحها وسقوطها وترديها، ثم تغيب بلا أثر بالغ.
الفكرة والموضوع اللذين أعتقد أنني أبنتهما في عرض المقدمة، ليسا في عالم الكتابة الروائية بجديدين، فكثير من الروايات والقصص القصيرة والمقالات السعودية تناولتهما بما هما ضرب من الألم والجور والسلطة المجتمعية العمياء، للخروج بفكرة التحرر والخلاص، تحديداً، للمرأة المستعبدة الضعيفة المسكينة المرغمة، التي غُيِّبَتْ خلف الإسمنت، وعلى مقاعد الدراسة، وقبرت بذريعة المحافطة والغيرة عليها.
النهاية تخسر البطلة أحلامها وطموحاتها وامنياها وحقها في التعلم والوظيفة، والزواج ممن تحب ، بل تزوج قسرًا، وفتهرب إلى جبال مكة وتتوه وتموت، وتخسر الثانية كليتيها وتداوم على الغسيل، والابن بعد أن قضى مدة سجنه خرج وأصبح داعية وتزوج، وأمه بعد لم تزل تقدسه وتجله.
هذا غيض من فيض، تحياتي للكاتبة ولكم.
الكاتب السعودي / عبد الله النصر
قد تكون صورة ‏نص‏

مشاركات الأعضاء

الرؤية السّردية في رواية العودة للكاتبة : عبير عبد الجليل ، بقلم : د. وائل الصعيدي - محاضر اللغة العربية بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية- الصين عضو اتحاد كتّاب مصر

الرؤية السّردية في رواية العودة للكاتبة عبير عبد الجليل د. وائل الصعيدي محاضر اللغة العربية بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية- الصين ...

المشاركات الشائعة