Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة نقدية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قراءة نقدية. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

قراءة تحليلية للأديب والناقد / عبدالغفور مغوار لقصيدة " أنا عاشق الأمل" للأديب الكبير الأستاذ حسن أجبوه

 

 قراءة تحليلية لقصيدة " أنا عاشق الأمل" للأديب الكبير الأستاذ حسن أجبوه

أنا عاشق للأمل..
على ضفاف الأشواق
تأخذني على حين غرة
تقلصات عبق التاريخ
تشنجات تضاريس
السفر البوهيمي للجرة
أكسرها علِّيَ أظفر
بنكهات توابل الأسواق
تأخذني ولا تدعني..
أنا الجائع للقمح والخضرة
أقيم معاهدة بين القبل
حمراء تسرق الشفاه
تروي سغب الحرة
تقاتل العوانس طواحينا
كانت...
أو أراجيزا للسهرة
فلا شفق بين الكلل
بدرا وسيم القمرة
يغري الدمى بالشهرة
على ضفاف الأذواق
تودعني كوابيس النحل
إيديولوجيا كانت أو عمرة
لست أميرا برقعة شطرنج
أنا فقط عاشق للأمل..
بقلم حسن أجبوه
المقدمة
تقدّم هذه القصيدة لنا لمحة عميقة ومثيرة حول حالة الحب والشغف التي يعيشها الشاعر تجاه الحياة والعالم من حوله. بدايةً، يُعلن الشاعر عن نفسه بأنه "عاشق للأمل"، مما يرسم لوحة بينية إيجابية ومتفائلة لرؤيته للحياة. في هذه القصيدة، يبدو الشاعر وكأنه يجسّد الحماسة والحب العميق للعالم، حيث يُلقي بنظرة عاطفية على الأشياء المحيطة به. سنتناول في التحليل القادم فهم الصور البصرية والمعاني العميقة التي تحملها الكلمات في هذه القصيدة المثيرة.
العرض
1- العنوان
في هذا العنوان المميز "أنا عاشق الأمل"، يتجلى الشغف العميق للشاعر بالأمل والتفاؤل، مما يجعل هذه القصيدة قمة في التعبير عن الروح الإيجابية والإلهام. الكلمة "عاشق" ليست مجرد كلمة، بل هي وعد من الشاعر بأن يكون الأمل مصدرًا لإلهامه وقوته. تعكس هذه الكلمة العمق العاطفي والارتباط الشديد الذي يشعر به الشاعر تجاه الحياة وإيمانه بقوة التفاؤل.
في سياق أوسع، هذا الموضوع ليس فقط محصورًا في هذه القصيدة العربية، بل هو موضوع يشد انتباه الشعراء العالميين أيضًا. فالأمل والتفاؤل هما موضوعان مركزيان في العديد من القصائد العالمية، حيث يسعى الشعراء من جميع أنحاء العالم إلى نقل هذه المشاعر الإيجابية للقرّاء. مثلاً، في أعمال الشاعر الشيلي الشهير بابلو نيرودا، يتجسد الأمل والتفاؤل تحت ظروف قاسية وتحديات اجتماعية، مما يعكس القدرة الرائعة للشعر على رسم صور للتفاؤل حتى في أصعب الظروف.
باختصار، "أنا عاشق الأمل" يمثل ليس فقط عنوانا لقصيدة، بل رمزًا للقوة والروح التي يحملها الأمل في عالم الشعر وكيفية تجسيده في أعمال الشعراء العالميين.
2- الأمل والشغف
الأمل والشغف هما موضوعان شائعان في الشعر، حيث يعكسان الإحساس بالحياة والإلهام. في قصيدة "أنا عاشق الأمل"، يندرج الشاعر ضمن هذا السياق، حيث يستخدم اللغة الشاعرية ليعبر عن ارتباطه العميق بالأمل والشغف بالحياة.
شعراء عرب وعالميون آخرون استخدموا الأمل والشغف كموضوعات مركزية في قصائدهم. على سبيل المثال، الشاعر اللبناني الكبير جبران خليل جبران، في قصيدته الشهيرة "النبي"، يُلمح إلى قوة الأمل والإيمان بالحياة عبر عبارات تنبع من الروحانية والإيجابية. وفي الشعر العالمي، الشاعرة الأمريكية إيميلي ديكنسون، التي كتبت العديد من القصائد حول الأمل والشغف، تُظهر كيف يمكن أن يُلهم الأمل القلوب حتى في أصعب الظروف.
عبارة "على ضفاف الأشواق" تجلب إلينا الصور الرومانسية، وهي موضوع شائع في قصائد الحب والشوق. الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، في قصائده، يُظهر الشغف بالحب والأمل من خلال الطبيعة والأشواق، حيث يخلق صورًا رومانسية جميلة على ضفاف الأنهار وتحت أضواء القمر.
باختصار، هذه القصيدة ومثلها في أعمال شعراء عرب وعالميين آخرين تشير إلى قدرة الشعر على نقل مشاعر الأمل والشغف بالحياة، مما يُظهر قوة الكلمات وإلهامها للقرّاء بتجاربهم وآمالهم.
3- الرحلة والاستكشاف
يتبين استخدام الشاعر في قصيدته للغة الغنية والصور البارزة لينقل للقارئ فكرة الرحلة والاستكشاف كمكونات أساسية لحياته وتجاربه الشخصية. تعبير "تأخذني على حين غرة" يُشير إلى استعداد الشاعر لاستكشاف المجهول ومواجهة التحديات بروح مستكشفة وشجاعة لا تعرف الخوف. تعكس هذه العبارة جاذبية الغموض والمغامرة، حيث يظهر الشاعر جاهزًا لاستقبال ما قد يأتي في المستقبل بكل شجاعة وحماس.
من جهة أخرى، عبارة "السفر البوهيمي للجرة" ترمز إلى الحياة الحرة والفنية، حيث يسعى الشاعر للسعادة والرضا الروحي من خلال تجاربه واستكشافاته. يستمتع باللحظة الحالية بحرية، يعيش دون الالتزام بالقيود الاجتماعية أو المادية. يُوضح هذا السفر "البوهيمي" رغبته في اكتشاف الجمال والإبداع في كل تجربة، حيث يسعى الشاعر لاكتشاف الجمال حتى في أصغر التفاصيل وأحلى اللحظات.
هذه العبارات تجمع بين الاستعداد المستمر لاستكشاف المستقبل والاستمتاع العميق بالحاضر. تظهر صورة للشاعر كاستكشافي حر، جاهز لاستكشاف عوالم جديدة والتمتع بالحياة بجميع جوانبها. هذه المفاهيم تُجسد روح الحرية والبحث عن المعنى والجمال في عالم متنوع ومتغير، وتربط الشاعر بأرواح الشعراء المستكشفين الذين قاموا بنقل روح الاستكشاف والحرية في قصائدهم، مثل الشاعر الفرنسي الشهير أرثر رامبو والشاعرة الأمريكية الرائعة سوزان سونتاغ.
4- الجمال والجاذبية
يستخدم الشاعر في قصيدته لغة ملونة وصورية تجلب للقارئ تجربة غنية من الجاذبية والجمال. يُذكرنا أسلوب الشاعر بالشعراء الرمزيين الكبار في الأدب العربي والعالمي، مثل الشاعر الفرنسي آرثر رامبو والشاعر الفرنسي الآخر تيودور بودلير. في قصائده، كان رامبو يستخدم لغة غنية وصورًا رمزية ليعبر عن الجمال والجاذبية بأسلوب مبتكر وجديد، كما كتب بودلير عنهما بطريقة مثيرة ورومانسية، حيث استعمل اللغة بشكل متقن ليعبر عن الرغبات والأحلام الجميلة.
في عبارة "حمراء تسرق الشفاه"، يُجسد الشاعر تأثير الألوان وجاذبيتها، وهو موضوع كتب عنه رامبو بشكل مبهر. رامبو استخدم الألوان بشكل فعّال في قصائده ليعبر عن الحياة والعواطف بأسلوب فريد. عبارة "يغري الدمى بالشهرة" تُشير إلى الرغبة المستمرة في الجمال والانتباه، وهي فكرة تميزت بها أيضًا قصائد بودلير، الذي كتب عن الجمال والشهرة بطريقة فلسفية ومبهرة.
تجمع هذه العبارات بين الجمال الظاهري والرغبة المستمرة في الجذب والجمال الداخلي، مما يذكرنا بأساليب الشعراء الرمزيين الكبار وإبداعهم في التعبير عن الحياة والعواطف بأشكالها المتعددة. هذا الوجه المزدوج للجمال والجاذبية يعكس القدرة الفائقة للشعر على إلقاء الضوء على جمال الحياة وأعماق الروح الإنسانية.
5- التضاريس والصراع
يستعرض الشاعر في قصيدته التضاريس المعقدة للحياة ويُسلط الضوء على الصراعات الحضارية والإنسانية. عبارة "تشنجات تضاريس" تُعبّر عن التجارب المختلفة والصراعات الحياتية التي تشكل جزءً أساسيًا من رحلة الإنسان في هذا العالم. هنا، يرتبط الشاعر بروح الكتّاب الكبار مثل الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب، الذي قام برسم خريطة للتضاريس الإنسانية بأسلوبه الفريد والمؤثر.
عبارة "تقاتل العوانس طواحينا" تستعرض الصراعات والتحديات في العلاقات الرومانسية، وهو موضوع استكشفه الشاعر الفرنسي الشهير جيلبرت بيكر، الذي كتب عن تعقيدات العواطف والصراعات العاطفية بشكل عميق ومؤثر.
تجمع هذه العبارات بين التضاريس الحياتية المعقدة والصراعات الإنسانية، مما يعزز من عمق القصيدة ويجعلها قوية ومؤثرة. يظهر الشاعر هنا كمتصارع بروح الأدباء العظماء، الذين قاموا بتسليط الضوء على تعقيدات الحياة والصراعات الإنسانية بأسلوبهم الخاص وإلهامهم المستمر.
6- الثقافة والتاريخ
يتجلى اهتمام الشاعر في هذه القصيدة بالثقافة والتاريخ، ويستخدم تلميحات مميزة ليعكس تنوع الحضارات وجمالها. عبارة "بنكهات توابل الأسواق" توحي بتجارب الثقافات المتنوعة وتعدد الطهي في الأسواق العالمية. يُشبه هذا التعبير لوحة فنية تظهر مختلف الألوان والنكهات التي تحملها الثقافات المختلفة، ويُشير إلى تجارب الحياة والمعاناة والفرح التي تتنوع في العالم.
من جهة أخرى، العبارة "أو أراجيزا للسهرة" تشير إلى الفلكلور والثقافة التقليدية. تُمثل الأراجيز جزءً من التراث الشعبي في العديد من الثقافات، وهي قصائد تُقال في السهرات والمناسبات الاجتماعية أو فرجة تقام في المواسم والمهرجانات. تظهر هذه العبارة تقدير الشاعر للفلكلور والتراث، ويُظهر كيف يُمثل التاريخ والثقافة جزءً أساسيًا من هويتنا وتجربتنا الإنسانية.
وهكذا، تربط هذه العبارات بين التنوع الثقافي والتراثي وبين الجمال والغنى الذي يأتي من التفاعلات الثقافية المختلفة. يُعبر الشاعر هنا عن تقديره للثقافات المختلفة والقيم الثقافية التي تُثري حياتنا وتُضيء مساراتنا بالفهم والتسامح.
الخاتمة
يظهر الشاعر عمق العواطف الرومانسية والحكمة الحياتية، ويُعبّر عن فهمه العميق للحياة والعلاقات. عبارة "لست أميرا برقعة شطرنج" تُلقي الضوء على النزاهة والصدق اللذين يجسدهما الشاعر ليُظهر استقامته وقوته الداخلية بدون حاجة للاستعراض أو الخداع. يُبدي الشاعر هنا وعيه بقيمة الصدق والأصالة في الحياة، مستلهمًا فكرته من الشعراء الألمعيين مثل الشاعر الأمريكي رالف والدو إيمرسون، الذي ألهم القُرّاء بفهمه العميق للحياة الداخلية والنزاهة في التعامل مع العالم الخارجي.
بهذه العبارة، يُفسر الشاعر أنه لا يحاول الانتماء إلى صورة مزيفة أو التلاعب بالحقائق ليُرضي الآخرين. بدلاً من ذلك، يحترم الشاعر نفسه ويُقدر قيمته الحقيقية، وهو يتقبل نفسه بكل مميزاته وعيوبه. يستمد هذا المفهوم من فلسفة الشاعر الداخلية، ويُعزز من فهمنا للتفاني والنجاح الحقيقي الذي يأتي من خلال قبول ذواتنا والحياة كما هي، بكل جمالها وتحدياتها.
الشاعر الكبير حسن أجبوه قدم لنا لحظات روحية فريدة من نوعها من خلال هذه القصيدة الجميلة. تجسد عباراته تناغمًا بين الكلمات والأحاسيس، وتفتح أمامنا أفقًا جديدًا من الفهم للحياة والحب والثقافة. بأسلوبه الأدبي الرائع، لقد نجح بالفعل في نقل العمق والحكمة بطريقة تلامس القلب والروح.
قصيدته تعكس فهما عميقًا للإنسانية، وتجسد قوة الأمل والجمال في وجه التحديات. بدون شك، حسن أجبوه يظل رمزًا للشعر العربي ومصدر إلهام لكل من يتذوق جماليات اللغة والعواطف. تفتح قصائده آفاقًا جديدة للفهم الإنساني، وتذكيرنا بأهمية الصدق والصراحة في التعبير عن الذات.
لذا، نتوجه بالشكر والاعتزاز إلى حسن أجبوه على إثراء الأدب العربي بكلماته الرائعة وأفكاره العميقة، ونترقب المزيد من إبداعاته المستقبلية التي ستستمر في إلهام القراء.
عبد الغفور مغوار - المغرب

الاثنين، 24 يوليو 2023

العنونة الشخصية في قصة ( لقاء عابر ) للكاتبة المصرية / د . منال رضوان قراءة ورؤية أ.د مصطفى لطيف عارف ناقد وقاص عراقي

 العنونة الشخصية في قصة ( لقاء عابر ) للكاتبة المصرية / د . منال رضوان قراءة ورؤية  أ.د مصطفى لطيف عارف ناقد وقاص عراقي


 لقد تنبه كتاب القصة إلى خطورة العنوان في البناء الفني، فراحوا يتأنقون في صياغته، واختياره استجابة لوصايا نقادهم، حتى أنهم استهلكوا في صياغته، واختياره ضعف الوقت الذي استهلكوه في كتابة قصصهم، ذلك لأن عملية اختيار العنوان القصصي ليس بالعمل اليسير، تلك التي تكتشف فيها القاصة عنوانا لقصتها، لأنها في الحقيقة تكتشف عالمها القصصي، وعلى نحو عام أن العنوانات القصصية غالبا ما تلخص فكرة العمل القصصي نفسه أن العنوان القصصي يأتي أما على عبارة لغوية، أو رقما، وربما يأتيان معا، وأخيرا لابد لنا من الإشارة إلى أن كتاب القصة القصيرة يسلكون طريقين في اختيار عنوانات مجاميعهم القصصية هما: الاستعانة بعنوان إحدى القصص لجعلها العنوان الرئيس للمجموعة بأكملها، وهذه القصة أما أن تكون أحدث زمنا أو أكثر قصص المجموعة تطورا من الجانب الفني، أو أشهرها، أو أكثرها ذيوعا، أو أن عنوانها يتسم بعنصر جمالي أو دلالي يؤهله لأن يكون عنوانا للمجموعة برمتها، والطريق الثاني انصرافهم إلى عنوان آخر ينتزعونه من السياق العام للمجموعة القصصية، وهو ما فعلته القاصة (منال رضوان) عند اختيارها عنوانات لقصصها، بقي العنوان، قد يرتبط بالشخصية أو لا يرتبط تماما فهناك عنوانات بعض القصص باسم أحدى شخصياتها، وقد يكون العنوان لا يحمل اسم شخصية من شخصيات القصة، كما يبين إحجامه عن تقييد القارئ بعنوان ربما يوجه اهتمامه نحو مظهر من القصة دون آخر، إعتقادا منه أن العنوان يمثل جزءا حيويا من بنية النص إلى جانب كونه مفتاحا تأويليا، والعنوان في تركيبته التأويلية ينبئ عن علم مكتظ من العلامات، والشفرات التي تتحول إلى دوائر تدور حول بعضها مثيرا عددا غير قليل من الدلالات، والبنى الإيحائية، عنوان القصة القصيرة (لقاء عابر ) يظهر قاصرا على مفردته الأولى، وليس قاسما مشتركا لها، ووحدانية -القص- بوصفها كيانات، تحتسب لصالح- الحكاء- مع تكامل الصور لترسيمها عملا إبداعيا (إنتاج مادي,وروحي) وتطابق مجريات المتغيرات التي تحدث داخل المشاهد التصويرية سواء أكانت فاعلة أم هامشية حقيقة كانت أو مفتعلة، فنراها تقول : أذكر ليلة جلوسنا إلى طاولة نائية في ذلك النادي الشهير، كنت تود أن تتعرف إليّ أكثر من مجرد لقاءاتٍ عابرة، أو مكالماتٍ هاتفية تستغرق بضع دقائق، سألتني عن أشياء كثيرة، وأجبتك أكثر وأكثر؛ حتى بت أرتديك كثوب من العري لا يستر شيئًا من ندبات السنوات الماضية- الوعود المنسكبة على يديّ بأنها مرة أخيرة للبكاء لازلت أذكرها، كذا ابتسامتي الواهنة المنتهية.. بلا تعليق. كلماتك من قصيدة الورد والياسمين، لثمت عنقي كقرط من لآلىء تداعبها نسمات ربيع محببة باحت أخيرًا. إن النص الذي يأسر القاصة (منال رضوان )، ويدفعها لخلقه، ورميه إلى ذائقة المتلقي هو النص المتماوج على حدة اللغة، وقسوة الصورة، والإيغال في تشظيات النفس الإنسانية، هذه الركائز الثلاث هي ما يستطيع الوقوف على أثافيها ليخرج باعتقاد أن القاصة تحتفظ بخزين وفير من القدرة على السرد،

 



واقتناص الموضوع بيسر، وعرض النص بما قد لا يريح المتلقي، ويترك في نفس القارئ فسحة للابتهاج، فنراها تقول : اعتدت ابتسامة خافتة تتلعثم وسط الضجيج، لكنك سألتني أن أضحك بصوت أقوى، فصرت أضحك وأضحك؛ حتى تعرفت معك إلى صوتي للمرة الأولى!نظارتك الطبية التي ارتديتها؛ فَأُخذتُ في رجفة دوار رمادي غيبني عن واقعي، واكتفيت بلحظاتي الوامضة أنسج خلالها ملامحك التي أكاد أعرفها. خاتمك الفضي الضخم الذي انتزعته من إصبعك وتوجته إبهامي، فعلتْ ضحكاتنا أكثر وأكثر .أذكر أنه ليس بخاتم زفاف، فلم يكن لك امرأة كما أخبرتني، وربما لم تكن لك امرأة واحدة.. لست أدري، على أي حال لم أكن أريد الانشغال بغير نقراتي على الطاولة ورجع من همهمات أصابعي :(تِك تِك تِك.. تِك) حتى سألتني وأجبتك : - هذا عنوان قصتي الجديدة، طاولة. لذا فإن نص القاصة (منال رضوان ) هو نص الشفرة التي لا تترك ألما بل تصنع جرحا يحتاج القارئ لوقت غير قصير كي يشفى من صراخه أن عنوان القصة القصيرة تعطينا دلالات نقدية سيميائية تدل على مضامين القصة، فنراها تقول : نعم، طاولة تأنس إلي حديث الأصابع ويؤرقها جليد الكلمات.- كم منحتني ابتسامتك الدفء الذي جعلني أربت على طاولتي، ولا أعود ألكزها في عناد طفولي يستثير المزيد من أسئلتك. لم أنس النادل الصغير الذي لم يستسلم إلى مداعبتك حول نقاوة البن، فأتاني بقهوتك المتخمة بسكر، ووضع أمامك قهوتي المُرَّة، وكم كان ودودًا إذ أخبرنا بمؤامرته قبل أن أرتشف قهوتك؛ فأدمن حلاوتها، أو تجرع قهوتي؛ فتعودك ذكريات مذاقها..ولم نعد نملك الكثير من الوقت، كان علي أن أغادرك على وعد جديد باللقاء.غير أننا نسينا توديع الطاولة،كذلك هي، لم تعد تعبأ بنا؛ فكم خذلها الإنصات إلى حكايات العابرين. ومن خلال استنطاق قصة( لقاء عابر)نجد النص الذي تريده القاصة (منال رضوان) محمولا بالدلالات، لابد أن يأتي مستلا من تفاصيل سلوكيات اجتماعية ارتأت إحضارها من أزمنة مختلفة في العلائق، ومتفاوتة في التشابكات، فهي تستعين بالشخصية المحورية استحضارا للحكمة، وتتكئ على شخوص الحاضر معطيتن إياها دور الباحث المتفاعل الذي سيخرج بحصيلة تتكرس مدلولات تسهم في فائدة البشرية في التعامل، والحكم، إنها تمنح المتلقي أبوابا متعددة مواربة للقراءة، والتأويل اعتمادا على كون النص كرة كريستالية تبث الدلالات التي تستنهض رؤى المتلقي فتثير فيه مهمة البحث عن الشفرات, بصوته الموسيقي وأخيرا نقول يحسن النص السرد المختزل لإنتاج قصة قصيرة جدا مستلة الفحوى من نسيج الواقع.


الخميس، 13 يوليو 2023

قراءة الأديب / عبدالله النصر، في رواية (مع سبق الإصرار والترصد) للروائية / سهام مرضي


رواية (مع سبق الإصرار والترصد) للروائية سهام مرضي، الصادرة عن نادي حائل الأدبي، السعودي.
رواية تحكي قصة الأم التي بعد أن فقدت زوجها تاركاً لها ثلاث بنات وولد، لم يكن في وسعها إلا أن تخنع للرجل العنجهي الجاهل المتخلف الذي يتمسك بالدين قشرًا وماهو بالدين، ويتشدد فيه، فيطبقه على المرأة التي تم تجهيلها وحبسها في عادات وتقاليد مجتمع صلف جاهل يخترع أخلاقه من منبع القبيلة المتعجرفة والفخوذ المتعصبة وما تقضيه التقاليد والعادات وحب الذات والمصلحة الخاصة، ومن تفسير للآيات والأحاديث حسب الهوى وما يوافق الأهداف الظالمة المتعسفة.. تخنع و تستسلم لمزاج أخيها ذي الجبروت الذي يعمل في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحفل منه على نهايات سيئة لبناتها الطموحات. وتقود، وهي محنية الرأس صامتة، بيتها برفعة الرجل وإعطائه منزلة لا يستحقها ولو كان مخطئاً جاهلاً أحمقاً وتُدني المرأة ولو كانت صائبة متعلمة واعية. كما تُسيِّرُ بناتها خانعة مستسلمة وفق قوانين منحدرة خاوية يسنها أخوها المتدين ورجالات عائلتها وقبيلتها، قوانين عزل وتهم وتخويف وترهيب وتغريب، لتردي بنفسها وبناتها في الحضيض والمآسي والألم والانحدار والضياع، فعوضاً عن ضمها واحتوائها لهن وإعطائهن منزلتهن وقدرهن، تُكبر وتؤثر ابنها أصغرهن عليهن وهو في سن المراهقة بل الجاهل الذي لم يتعلم والعاطل السكير اللوطي وصاحب السجون وتتخذ منه ولي أمر عليها وعليهن إلى جانب أخيها خال البنات الثلاث..
تُطبق عليهن قوانين العبودية والسجن في البيت والخنوع والتذلل والمسكنة وعدم الحصول على أي حق من حقوقهن المشروعة في الحياة، التعلم، مخالطة المجتمع، المشاركة في الرأي والقرار، وقيادة السيارة من أجل تلبية شئون الحياة، وعدم الحب، وعدم الاختيار، وعدم الرفض، حتى حقها في أخذها للعلاج والاهتمام بها كإنسان لم تحفل به، الخ.. مما تتطلبه لأسباب الحياة والمشاركة فيها مع الرجل على حد سواء في البناء والتنمية والتقدم، إلا أن تخرج من البيت إلى بيت الزوج وربما يمارس عليها ذات القمع والترهيب حتى تقبر، وإن كان متعلماً ومبتعثاً، أو تبقى في ذل حتى ينزل عليها لطف من السماء ويخرجها من الظلمات إلى النور.
وتبين أيضًا حال فئة من المجتمع السعودي الذي تحول بأفكاره المستعارة من جهات الكفر والزندقة والإرهاب والمشردين إلى أناس إرهابيين دعاة للموت والقتل والتنكيل بمن يخالفهم في الرأي والفكر والدين ويجب قتلهم، ولاسيما من طرف النساء اللاتي انجررن بسذاجة وحمق لأولئك الحمقى فغدون يسمون الذي يفجر نفسه في الناس بأنه شهيد بطل.. كما تبين بأن هذه المآسي صارت في عين الغرب وجعلته ينظر إلى المجتمع السعودي بأنه مجتمع منغلق مسكون بالتخلف والسذاجة والحمق، بل ومضطهد وغير مقبول في وجوده على أراضيهم، حتى أصبح الفرد السعودي يتخفى خلف جنسيات أخرى.
كما تبين مجتمعاً تعتبره الكاتبه من الرعاع لأنه (نمطي لا يحب الخروج من نسقه) و(كأن الخروج معصية) ، هذا المجتمع يعتبر المرأة هي حق للغير، وخادمة للرجل لاقيمة لها، وليس لها ما للرجل أبدًا.. تبقى مقموعة حتى تنحدر إلى الشذوذ وتلبس شخصية الرجل وتمارس السحاق والرذيلة مع مثيلاتها بل وتطلب الزواج منهن.
وقباله هذا هناك الابنة الكبرى التي تتصدى لهذا الفكر التعنت رغم القسوة والاضطهاد والألم والضرب والشتم والتنكيل والحرمان والتغريب .. تتصدى بما لديها من قوة، وتواجه القوى الكبيرة التي تتشارك وتجتمع عليها مرة واحد، ليست فقط الأسرة، بل كل فئات المجتمع.. مناشدة في كل عبارة من عباراتها المؤلمة الوطن بأكمله بل وولي أمره ثم الواعين من المواطنين.. للخروج من هذا المأزق القذر والخندق الموحل..
رواية تزيدك ألما فوق ألم، لكنني كسارد أشيد بهذه الرواية من جانبها الصياغي الجميل، المليء بعبارات المتعة والروح الإنسانية، أشيد بأسلوبها المفعم بروح الشاعرية التي تبينها خواطر الألم والمناشدة وهي كثيرة بثت في أرجاء السرد ولو كانت عنوة أو غالبة على السرد ذاته، كما أشيد بالحوار المتشضي الذي يرفع منسوب المعاناة، وكذلك اللغة السهلة التي لم تتعالى على القاريء، فضلاً عن الحدث الذي يتفجر بنشوة التشويق حتى ليشدك إلي النهايات لكل شخصية من الشخوص. علماً بأن شخصية (سحر) وهي الابنة الكبرى، هي الراوية، ويدور حولها الحدث، وهي التي تلعب في كل الأدوار وتفجرها، وتبين رأيها ووجهات نظرها، وتظهر أنها البطلة الفاهمة الواعية المثقفة البناءة، وهي الوحيدة التي تهتم بالببت وتساعد وتراعي أخواتها وأمها والعطوف الودود اللطيفة عليهم، وتخدم أخاها رغم تلقي الصفعات منه، أما أخواتها (سناء وإيمان) ليس لهن دور في تفجير الأحداث وحلها، فقط يأتيان حسبما تتطلب الراوية إتيانهما، وكذلك الأخ سعيد له فقط جزء بسير جداً في تحريك الحدث في البداية وإلا يبقى بعيداً في المنتصف ثم يعود ويؤزم الحدث ويوصله إلى نهايته المفجعة، أما شخصية الأم رغم أن الراوية تتحدث عنها بأنها مصدر لكل الآلام والوجع والظلم والخنوع والذل والمهانة، إلا أننا لا نجدها تتحرك وتتحدث وتقول وتسير الأحداث كما ينبغي، أما شخصية الخال فهو الشخص الذي يلعب الدور الكبير بجانب البطلة يواجه كل تحركاتها بالصد والمنع والتحريم والشتم والضرب والمهانة وغيرها، حتى أنه ليكون هو الشخصية التي تجتمع فيها كل مساوىء العالم الوقح والمقيت وهو الرجل الذي له الكلمة الكبرى والمشورة حتى في وجود الأخ العائل، وأما شخصية الجد الذي لم يتضح لي بأنه جدٌ من جهة الأب أو جدٌ من جهة الأم، فهو شخصية رجل تركته زوجه لتهمة ما، وبقي وحيداً، تلجأ إليها البطلة لتأخذ منها العطف و المدد والتصبر والقوة لتكمل مشوارها، حتى يتوافاه الله، وأما مرام فهي الشخصية المساعدة لسحر ظهرت بعد فقد جد سحر حدها، تعينها على زواجها من أخيها فيصل الذي هو الحلم والأمل الذي تحاول التشبث به على تخوف للخروج به من النفق المظلم.. أما بقية الشخصيات فتحضرها الراوية لتظهر لنا بعض المظاهر السلبية المجتمعية وقبحها وسقوطها وترديها، ثم تغيب بلا أثر بالغ.
الفكرة والموضوع اللذين أعتقد أنني أبنتهما في عرض المقدمة، ليسا في عالم الكتابة الروائية بجديدين، فكثير من الروايات والقصص القصيرة والمقالات السعودية تناولتهما بما هما ضرب من الألم والجور والسلطة المجتمعية العمياء، للخروج بفكرة التحرر والخلاص، تحديداً، للمرأة المستعبدة الضعيفة المسكينة المرغمة، التي غُيِّبَتْ خلف الإسمنت، وعلى مقاعد الدراسة، وقبرت بذريعة المحافطة والغيرة عليها.
النهاية تخسر البطلة أحلامها وطموحاتها وامنياها وحقها في التعلم والوظيفة، والزواج ممن تحب ، بل تزوج قسرًا، وفتهرب إلى جبال مكة وتتوه وتموت، وتخسر الثانية كليتيها وتداوم على الغسيل، والابن بعد أن قضى مدة سجنه خرج وأصبح داعية وتزوج، وأمه بعد لم تزل تقدسه وتجله.
هذا غيض من فيض، تحياتي للكاتبة ولكم.
الكاتب السعودي / عبد الله النصر
قد تكون صورة ‏نص‏

الأربعاء، 12 يوليو 2023

قراءة انطباعية للكاتب المغربي المبدع محمد سحبان في نص " تقزم" للاديب المصري / إيهاب خضر

 

قراءة انطباعية في نص " تقزم" للاديب و القاص المصري #إيهاب خضر
تَقَّزُم
اعتلى قمة دائرته، تزاحمت أذنابه تقطف شهدًا، زاد الوهج، ارتمت الفراشات في حضن البريق، تصارع النمل على سكاكره المره، زاحم الضباب الضياء، فارتوى الجميع بعدما فاض العلقم.
... "تقزم" صراع طبقي يتمثله المعجم الدلالي المكون من الأفعال التالية:اعتلى/ تزاحمت/زاد/ارتمت/تصارع/زاحم/فارتوى).. ولعل تعالق العنوان مع فصول هذه القصة المرموزة هو ما قد يمكننا من فتح مغلاقها وفي يدنا معلم يقودنا للدليل على المعنى الأقرب إلى الصلب الاستعاري للنص .. وبقليل من التأمل ندرك أن الصور الملتقطة بحرفية وبعناية تجسد الواقع الممجوج والمتخم ألما وفسادا دون تزييف بلغة رمزية شفافة تعيد فتح دولاب الأسئلة الحارقة والمقلقة ...
التقزم عدا أنه حالة مرضية توصف بقصر القامة فهو تعبيز مجازي قد يراد به الانكماش والانحسار والتقلص والضعة والضياع وغيرها من المعاني الدالة.. وقزَّم الشّيءَ أو الشَّخصَ: قلّل أهمِّيَّته أو حجمه، صغَّره وهوّن من شأنه...
شخصية رئيسة عملاقة تعتلي القمة لتتصدر المشهد وهي صانعة الحدث على المسرح والمتحكمة في خيوط اللعبة.. في مواجهة طبقات تتراتب وتتفاوت في درجة القزامة ( شخصيات ثانوية) مجردة من الأحاسيس والمشاعر وتتحرك بطريقة آلية ووفق خطة مكيافللية ممنهجة لهدف معين.
/الشخصية الحيوانية :
-(الاذناب): المنتفعون الاسافل الذين يتزاحمون عند الاعتاب السامية ابتغاء الحلاوة والامتيازات ...
- (الفراشات): واغلب الظن أن العبارة لرقتها قد ترمز للانثى المنحرفة أو الإنتهازية أو المغرر بها التي تنجذب بشكل طوعي وممغنط للأضواء البراقة وتستسلم للاغراءات وإن كانت الفراشة تعني كذلك الرجل الخفيف الرأس / الطياشة ...
- (النمل) الشغال وهو يقبع في أسفل الهرم في تصوير ميكروسكوبي عن قرب للطبقة الكادحة التي تتصارع في القاع وعلى الهوامش على الفتات ( لقمة عيش) وعلى ما فضل عن أولياء النعمة وارباب العمل ( كسرة خبز) مثلما تتصارع جحافل النمل على قطعة سكر أو حلوى معسولة في مشهد كاريكاتوري ساخر ولاذع..
( زاحم الضباب الضياء)..حركة شعرية فارقة، تغلق الستار عما تتالى من أحداث مشكلة بؤرة دلالية تتقاطع فيها العلامات البصرية لهذه اللوحة في انزياح دلالي بليغ .. والضباب إذا كان ظاهرة طبيعية تحجب الرؤية فانه يحمل في اللغة المحكية معاني اللاشيء/ السراب /الفراغ/ الخواء و قد يومئ بذلك إلى المعنى الدارج : (زاحم الفراغ الضياء)..في تلميح شفيف لسياسة الالهاء التي تنتهجها القيادات المعاصرة لتغييب العقول وتبليد الأذهان ...وقد يقودنا التأويل إلى معان أخرى : (الضباب: الغموض / في مواجهة الضياء : الحقيقة )... في إشارة لحماة الفساد وكذا لصحافة التفاهة والاعلام الموالي ولسياسات اخفاء الحقائق والتستر والوساطات ..
(فارتوى الجميع بعدما فاض العلقم)..قفلة دراماتيكية صادمة، لكنه سيناريو محتمل جدا بل وحتمي ما لم يتم فتح الدائرة المغلقة على آفاق مستقبلية جديدة . ..ولعلها بايجاز مأساة الغرق الجماعي بفعل التيارات الجارفة وطوفان التبعية والتغريب ..!
والسارد هنا شاهد وناطق بلسان حال الجماعة المغيبة، وهو الاخر لا يخرج من السياق الممتنع وقد تجرع من نفس الكاس المرة التي ارتوى منها الجميع...وتماهيا مع هذا المطلب يحضرني قول بليغ لابي القاسم الشابي ( ..لا أعـنّـي نـفـسـي بـأحـزان شـعـبـي فـهـو حـيّ يعـيـش عـيـش الـجـمـاد!
نص يمتزج فيه الشعر بالمسرح؛ والرسم بالتشكيل والطبيعة بالتجريد والرمز بالواقع ويمكن تصنيفه رغم شساعة حقوله الدلالية ( اجتماعية / سياسية / اقتصادية / تاريخية / نفسية)ضمن أدب "الديستوبيا" الذي طفا على الساحة العربية من جديد، بعدما حدث من إخفاقات في السنوات الأخيرة وبالاخص منها ما تلا الربيع العربي من انتكاسات ونكبات،..
فهل هي قصة سوء لا تنتهي كما يقول عبد الرحمن الكواكبي في وصفه للاستبداد ؟!
"التقزم" كمحور ليس بنظري اختيارا متعمدا، أو صورة مشوهة أو وصفا مبالغا في النقل بقدر ما هو قراءة منهجية صريحة للذات الراهنة ، في استحضار واع لمجموعة من التراكمات والتناقضات والتجاوزات التي يحفل بها المشهد الحياتي بوجه عام غايته التوق المستقبلي..
ومن خلال هذا اللمسة الفنية الرائعة، يمكننا الوقوف بجلاء على بعض السمات اللغوية والتخييلية والرؤيوية المميزة والعميقة في تجربة الأستاذ والقاص المبدع ايهاب خضر.
تقديري.
#محمد أبو الفضل سحبان.

السبت، 24 يونيو 2023

قراءة انطباعية ونقدية لقصة الأديب/ متولي بصل ( الحب في الزمن الضائع ) بقلم الأديبة والناقدة المصرية / مها الخواجة

 

قراءة انطباعية ونقدية لقصة الأديب/ متولي بصل (  الحب في الزمن الضائع )

بقلم الأديبة والناقدة المصرية / مها الخواجة



 الانتباه والندم بعد فوات الأوان، وجلد الذات وحسابها حسابا عسيرا على خطأ في الماضي، ومحاولة تدارك ذلك الخطأ لكن هذا التدارك يأتي في الوقت الضائع .. قصة بتيمة الحزن تضع نصبَ أعيننا تساؤلات تبحث عن حلولها .. • هل إنكار الحب ينفي وجوده؟ ‏هل القلب قادر على الوقوع في الحب مهما بلغ من العمر أرذله؟ ‏هل تعاقبنا نفوسنا؟، أم يعاقبنا الزمان بصفعاته؟ الشخصيات: في كل مؤلف سردي هناك شخصيات تتحرك وتؤدي أدوارها المنوطة بها، تختلف بين: شخصيات رئيسية، وأخرى ثانوية تنقسم إلى قسمين: (شخصيات ثانوية مساعدة وأخرى معرقلة) والشخصية الرئيسية في قصتنا (الحب في الوقت الضائع) هي شخصية الراوي، وهو الشخصية المحورية التي بدأت معها الأحداث والتفاعلات الزمانية والمكانية. والشخصية الرئيسية"الراوي" أخذنا معه منذ أول القصة مع تساؤلاته وإيضاحاته عن شخصه واعتقاده في الحب والمشاعر والعواطف، وسرد لنا عن نفسه ما يوضح أسلوبه المتبع في الحياة، والذي من وجهة نظره جعله ناجحا، ثم أبان لنا في وصف دقيق إقباله على الزواج بحثا عن السكن والذرية، ثم حيثيات تنقله من زوجة لأخرى وذكره لأسباب الطلاق من الزوجة الأولى ثم الثانية (سلوى، التي وضح أن سبب طلاقه منها عدم الإنجاب لأنها كما ذكر"عاقر") والتي تفاجأ بأنها أنجبت بنتا بعد زواجها من غيره، ثم ذكره لزوجته الثالثة والتي أنجبت له البنين والبنات. في مسار القصة ندرك أن الراوي يسرد محدثا نفسه في منولوج داخلي، وكأنه يراجع ما فات من عمره بعدما تخطى السبعين، يراجعها ويحاسبها وربما يعاتبها، فنتساءل معه لم فرت دموعه عندما تذكر الزوجة الثانية (سلوى)، لترتبط معنا ومعه هذه الذكرى بليلة عيد ميلاده وتجمع الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات للاحتفال به، وننتبه لخفقان قلبه حين رأى صديقة حفيدته وأثر رؤيتها عليه، ثم تعلق روحه بها لدرجة استجداء رؤيتها .. ثم يأتي دور الشخصية الثانوية المحورية في القصة، وهي زوجة الابن التي حين يتكلم الراوي عنها يصفها بالداهية، حيث يبدوا لنا عدم التوافق أو القبول بينه وبينها، إذ ذكر لنا عددا من مواقفها السيئة حيث أوضح لعبها على ابنه وإيقاعه للزواج منها، ثم كيدها لزوجته وموتها كمدا وحسرة بسببها. فقد أدرك أنها انتبهت لتعلقه بالفتاة الشابة، ومع ذلك وقع بإرادته في الفخ الذي نصبته له، حيث استغلت قربه ومحادثته للفتاة أسوأ استغلال، وافتعلت له صورا مسيئة جعلت أبنائه ينقلبون عليه ويسيئون معاملته .. أبنائه وبناته الذي كان قد وزع عليهم ثروته ونذر نفسه للعبادة وانتظار كلمة القدر، وجدهم ينهرونه مصدقين كلام تلك الحرباء التي سرقت دفتر مذكراته وفضحته أمامهم بما دون فيه، لينتفض صارخا فيهم: أعطيتكم أموالي فهل ستحجرون على قلبي ومشاعري؟! أتت النهاية حزينة ومؤثرة إذ أنه حين أفاق وجد نفسه في المشفى، بين أيادي الأطباء والممرضات ولا يشغل نفسه وعقله سوى ذكرى لوجه زوجته الثانية (سلوى) وحبها له، وتمسكها به ورفضها الطلاق حتى لو عاشت خادمة له ولمن سيتزوجها عليها، وانتباهه للشبه بينها وبين الفتاة (سلوى الصغيرة)، فيسأل نفسه: هل ما ناله من قسوة وجحود عقاب لذنبها؟ وهو بذلك قد نال جزاء إنكار الحب؟! جاءت الحبكة دائرية فانتهت القصة من حيث بدأ التساؤل، وجاء السرد القصصي والحوار الداخلي والخارجي بالعربية الفصحى البسيطة غير المتكلفة ولا المتقعرة .. تحياتي للكاتب القدير/ متولي محمد متولي وتمنياتي له بدوام التوفيق 

مها السيد الخواجه  دمياط في  ١٥ يونيو ٢٠٢٣م

القصة

 الحب في الوقت الضائع    

متولي بصل - مصر



       أكثر من سبعين سنة قضيتها وأنا مقتنع بأن الهوس الذي يسمونه حبا ً ليس سوى نقمة وبلاء! أليس هو الذي دفع قابيل لقتل أخيه؟! أليس هو الذي نزع من كليوباترا عرشها وحياتها؟! أليس هو الذي جلب الجنون لقيس ابن الملوح؟! .

       كنت من أشد المؤيدين للنظرية التي تقوم على أساس أن الحب هو سبب كل المصائب التي تعاني منها البشرية !

       لذلك كنت حريصا أشد الحرص على ألا أقع فريسة ً لذلك الوباء الذي لا يرحم كبيرا ولا صغيرا؛ ولا يترك عظيما و لا حقيرا !

       ولولا أن الزواج هو الوسيلة الوحيدة المباحة والمتاحة للاستقرار والإنجاب ما كنت تزوجت ! لقد تزوجت ثلاث مرات؛ الأولى طلقتها لأنها كانت متكبرة ومغرورة؛ دراستها للحقوق؛ وعملها كمحامية؛ كل ذلك جعلها تتعالى علي َّ؛ وأنا لا يمكن أن أقبل أبدا أن تتعالى علي َّ امرأة حتى ولو كانت قاضية في المحكمة!

       والثانية – لا أدري لم نزلت هذه الدمعة من عيني ! ربما دخل في عيني شيء ما – الثانية طلقتها لأنها كانت عاقرا؛ طلقتها رغم أنها كانت تحبني لدرجة الجنون! والعجيب أنني سمعت بعد سنوات من تطليقها أنها تزوجت؛ وأنجبت بنتا ً! ظللت أضرب كفا بكف عندما بلغني هذا الخبر؛ وقلت وقتها :

-       ما أعجب تصاريف القدر !

أما الثالثة؛ فقد ماتت منذ عشرين سنة؛ بعدما أنجبت لي أربعة أولاد؛ وثلاث بنات، ورغم هذه الزيجات فإنني لم أشعر بأي عاطفة نحو أية واحدة منهن! فقط كنت أتزوج من أجل الزواج الروتيني والإنجاب!

       إنني أحيانا كنت أتعجب من حالي؛ ومن قلبي الذي لم تُفتحْ أقفاله ُ يوما! حتى ران عليها الصدأ! ربما كنت بليد الحس؛ ربما كان قلبي من حجر؛ فالمشاعر والأحاسيس لغة لا أفهمها؛ ولا أستطيع فك طلاسمها !

       ومع ذلك كانت لهذا التبلد حسناته! فقد جعلني أركز في عملي؛ وأتفرَّغ له؛ حتى حققت كل ما أصبو إليه؛ وبعدما كنت مجرد صبي نجار؛ أصبحت واحدا من كبار مصدِّري الأثاث في دمياط !

       الليلة .. .. المعبد الذي قضيت ُ العمر أبنيه؛ انهد َّ فوق رأسي بنظرة ٍ واحدة! ففي هذه الليلة التي اجتمع فيها بعض أولادي  وأحفادي للاحتفال بعيد ميلادي الثالث والسبعين! وفي اللحظة التي كنت أستعد فيها لإطفاء شموع عمري؛ أصابني سهم ٌ لا يخطئ مرماه! كسر كل أقفال قلبي؛ وألقى بها تحت أقدام الصغار الذين كانوا يرقصون ويغنون فرحا ببلوغي أرذل العمر!

       نظرة واحدة منحتني سعادة تكفي لإسعاد العالم كله؛ هذه السعادة التي غمرت قلبي؛ جعلتني أدرك كم كنت ساذجا جدا؛ وغبياً جدا؛ لدرجة أنني حرمت نفسي طول هذه السنين من هذا الشعور الرائع الذي لا يمكن وصفه؛ والذي جعلني أشعر وكأنني أعيش ألف ليلة وليلة !

       وجه ٌ ملائكي الملامح؛ بابتسامة فاتنة؛ ونظرة ساحرة؛ بعث في قلبي الحياة؛ وجعله ينتفض من مثواه؛ ويزيح ركاما هائلا من الحرمان!

       إنه وجه إحدى صديقات حفيدتي؛ وزميلتها في الدراسة؛ في العشرين تقريبا؛ أي أنها تصغرني بنصف قرنٍ من الزمان! يا إلهي أين كنت طيلة هذه العقود ؟!

       لا أحد في هذا العالم – قبلها – أثرَ في َّ كل هذا التأثير! إن لوجهها جمال ٌ آسر ٌ؛ ولنظرة عينيها سحر ٌكاسرٌ لا فكاك منه! حتى إن الجميع كانوا يسترقون النظر إليها!

       انتهى الحفل ُ؛ وآوى كل ٌّ إلى مخدعه ِ؛ أما أنا فلم يغمض لي جفن! وكيف أنام ؛ وأحرم نفسي من رؤية ذلك الطيف الجميل الذي لم يعد يفارق مخيلتي!

       سبع ليال ٍ مرَّت؛ وأنا أحاول أن أجد طريقة تحمل حفيدتي على دعوة صديقتها – ذلك الملاك الذي أسر قلبي وعقلي – إلى البيت؛ تحت أي مسمى! ولاحظت امرأة ابني ما جرى لي؛ بل ويبدو أنها عرفت ما أحاول إخفاءه ! إنها داهية لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة؛ استطاعت أن تلعب بقلب ابني؛ وتتزوجه رغم أنفي!

       هذه الداهية فوجئت بها تقنع ابنتها بدعوة صديقتها للمذاكرة معها؛ حتى أصبح وجودها شبه يومي! وأصبحت أنا شبه مقيم في شقة ابني! بل وبدأت هذه الشيطانة تتفنن في تهيئة الأمور لي ولصديقة حفيدتي حتى نكون على انفراد! فكانت تشغل ابنتها في أي أمر من أمور المطبخ؛ ثم تتسلل لمراقبتنا؛ كنت أشعر بوجودها وهي تتجسس علينا؛ إنها شيطانة؛ وأفكارها خبيثة مثلها!

       كنت أعرف أن هذه الملعونة تدبر لي ملعوبا من ألاعيبها القذرة؛ التي تسببت في موت زوجتي الراحلة كمدا وحسرة! ومع ذلك غضضت الطرف عما تدبره  لي؛ فكل ما كان يشغلني هو أن أحظى بأوقات أنظر فيها إلى ملاكي؛ وأتأمل وجهها المنير؛ وأسمع صوتها العذب؛ قلت لها مرة عندما تركتنا حفيدتي لأمر ٍما:

-       سمعت أنك متفوقة في دراستك .. .. ولذلك شجعت " نهى" على أن تطلب منك أن تذاكري معها!

-       كنت متفوقة يا جدو .. .. لكن هذا العام درجاتي متدنية جدا .. .. حتى إن بابا يريدني أن أترك الجامعة !

-       تتركي الجامعة .. .. معقول هذا الكلام؟!

-       لا .. .. أنا لا أريد أن أترك الجامعة .. .. بابا هو الذي يصر على أن أتركها .. .. وزوجته .. .. هي السبب !

-       زوجة والدك .. .. هي والدتك .. ..

-       ماما الله يرحمها .. .. ماتت من سنة .. .. الله يرحمها؛ كانت كل شيء بالنسبة لي !

-       الله يرحمها .. .. الله يرحمها .. .. ووالدك تزوج بعد موتها .. .. أرجو ألا يكون هذا الأمر قد قلل من حبك أو احترامك لوالدك .. .. لا أحد يعرف ظروفه !

-       لا يا جدو .. .. بابا تزوج .. .. وأمي على قيد الحياة؛ كانت مريضة؛ وراقدة في السرير؛ فوجئنا به يدخل علينا؛ وفي يده هذه المرأة؛ ويقول لنا أنها زوجته؛ وأمرني أنا وأمي المريضة بأن نخدمها! ماما لم تتحمَّل الصدمة؛ وماتت بحسرتها؛ ماتت من الذل والقهر؛ أما أنا فكل يوم أتمنى الموت حتى أستريح من العذاب الذي أعيش فيه!

نهران من الدموع سالا من عينيها؛ حاولت ْ أن تتماسك؛ لكنها لم تستطع؛ أخرجت ُ منديلا وبدأت أمسح دموعها؛ وددت لو أضمها إلى صدري؛ وأربت على كتفها؛ حتى أخفف عنها ما تجد؛  لولا وجه الأفعى الذي كان يظهر ثم يخنس في مرآة التسريحة!

       حاولت أن تبتسم؛ وهي تقول لي:

-       آسفة يا جدو .. .. أنا وجعت قلبك بحكايتي !

-       ماذا تقولين .. .. يا روحي .. .. أنا أعتبرك مثل " نهى " ؛ وأريدك أن تعتبريني مثلما تقولين جدك !

       قلت هذه الكلمة؛ وإذ بدمعة كبيرة تنساب فوق خدي؛ لا أعرف كيف أفلتت من قبضة جفوني؛ مسحتها سريعا بيدي؛ في نفس اللحظة التي عادت فيها حفيدتي؛ فاستأنفت الفتاتان مذاكرتهما؛ وابتعدت عنهما حتى لا أشتت انتباههما؛ وجلست على الكنبة متأثرا حزينا أفكر فيما سمعته! بعد قليل سمعت صوت الداهية تنادي :

-       يا " نهى " !

-       نعم يا ماما !

-       اذهبي يا حبيبة ماما .. .. وأحضري هذه الأشياء !

-       يا ماما أنا عندي مذاكرة .. .. ولا يصح أن أترك " سلوى " وحدها !

-       لا تقلقي .. .. جدو حبيبك سوف يجلس معها حتى تعودي؛ اذهبي وأحضري ما كتبته لك في هذه الورقة؛ حتى لا أتأخر في تجهيز الغداء !

-       حاضر يا ماما .. .. أمري لله !

-       نادي على جدك يدخل يونس صاحبتك .. .. لأني مشغولة في المطبخ ّ!

 وبالفعل عدت إليها؛ فإذا بها تبتسم ابتسامة حزينة؛ رغم شلال السعادة الذي كان يغمرني لمجرد جلوسي معها؛ ورؤيتها؛ وسماع صوتها؛ إلا أنني كنت حزينا جدا من أجلها؛ وكنت متشوقا أكثر لمعرفة المزيد عنها؛ فبادرتها قائلا :

-       كل شيء يولد صغيرا ثم يكبر، إلا المصائب فإنها تولد كبيرة ثم تصغر! وأنا بحكم سني وخبرتي في الحياة؛ أقول لك لا تتركي الدراسة مهما حدث؛ التعليم هو سلاحك في الحياة .. .. و لا تيأسي .. .. وإذا احتجت أي شيء.. .. أي شيء .. .. اطلبيه مني .. .. لا تترددي !

-       الحقيقة يا جدو الكلام معك جعلني أشعر براحة كبيرة .. .. من يوم موت ماما .. .. الله يرحمها .. .. كانت هي الوحيدة التي أستطيع أن أحكي لها كل شيء!

-       الله يرحمها .. .. اعتبريني ماما .. .. المهم فضفضي؛ حتى لا يستولي عليك الهم واليأس!

غمرتني السعادة؛ وأنا أرى وجهها يبتسم ابتسامة أنارت وجهها حتى بدا كوجه البدر ليلة التمام، ويبدو أن حفيدتي كانت قد عادت؛ فقد سمعنا أمها تقول بلهجة تملأها الدهشة :

-       هل أحضرت ِ كل المكتوب في الورقة !

-       المكتوب كله يا ماما .. .. أرجوك ِ .. .. أتوسل إليك ِ ممكن أذاكر ؟!

ثم وجدتها توجه الكلام لي ، وتقول :

-       ممكن يا جدو لو سمحت .. .. مرت ساعة .. .. ولم نذاكر أي شيء أنا و" سلوى" !

-       طبعا يا قلب جدو .. .. طبعا يا روحي !

   لم أكن في حاجة إلى من يذكرني بأنني هرمت، فأنا منذ عشرين سنة أعددت كفني؛ واحتفظت به في خزانة ملابسي! وقسَّمت تركتي بين أولادي وبناتي؛ حتى لا تضيع حقوق البنات كما هو سائد في هذه الأيام! ونذرت نفسي للذكر والعبادة!

    منذ عشرين سنة وأنا أتهيأ للرحيل غير طامع في يوم آخر أو حتى ساعة زيادة على العمر المقدَّر لي !

     لكن بعد رؤية " سلوى " ؛ أصبحت ُلا أتقبل فكرة الرحيل! انقلبت حياتي كلها رأسا على عقب! لا أدري ماذا حدث لي؛ أصبحت أقضي الليالي ساهرا متحيرا أتساءل :

-       أتكون امرأة ابني قد عملت لي سحراً؛ حتى أفتن بهذه الصبية؛ وأنا في ذلك العمر؟! ماذا سيقول عني أولادي وأحفادي ؟!

مرَّت أسابيع وشهور وأنا أتقلَّب بين الثلج والجمر؛ الدقائق التي أقضيها مع " سلوى " أشعر وكأني أتنعم في الجنة؛ والساعات الطوال التي تمر من عمري، وهي بعيدة عني أشعر وكأني أتعذب في الجحيم!

       حتى جاء اليوم الذي كنت أخشاه، لأول مرة منذ وفاة زوجتي، يجتمع أولادي وبناتي كلهم؛ أولادي الأربعة؛ وبناتي الثلاث! عرفت فيما بعد أن دواهي .. .. أقصد الملعونة امرأة ابني؛ هي التي جمعتهم في شقتها! كان من الطبيعي أن أفرح لا سيما عندما رأيت ابني الأكبر الذي عاد من السفر لا أعرف كيف! وأنا الذي كنت ألح عليه، وأتوسل إليه أن يأتي لأراه؛ وأرى أولاده قبل أن أموت؛ وكان كل مرة يتحجج بشغله في البلد العربي الذي يبعد آلاف الأميال! ورأيت ابنتي الطبيبة زوجة المهندس التي آثرت أن تعيش مع زوجها في الوادي الجديد! كيف حضرت بهذه السرعة؟! وأنا الذي كنت أترجاها أن تحضر لأراها هي والأولاد قبل أن أموت! وكانت تتحجج بأنها لا يمكن أن تترك زوجها وأولادها وحدهم في هذه المحافظة النائية!

       لم أصدق عيني َّ وأنا أرى أولادي وبناتي كلهم حولي؛ كدت أطير من الفرح، وكنت أريد أن أحتضنهم جميعا ؛ لكن نظرات دواهي الشامتة وأدت فرحتي قبل أن تكتمل! كانت تمرر عليهم هاتفها؛ تلك الملعونة ماذا تريهم ؟! مشاعر كثيرة متضاربة كانت تعتريني في هذا الموقف العجيب الذي لم أعد له عدته! أقبلتُ على ابني الأكبر- الذي عاد من بعد غياب – لأحتضنه؛ فما كان منه إلا أن قطب ما بين حاجبيه؛ وقال لي مستنكرا، وهو يريني صورا على الهاتف المحمول:

-       ما هذا .. .. من هذه .. .. ماذا يحدث ؟!

-       ماذا حدث يا بني .. .. وما الغريب في هذه الصور .. .. إنها صديقة " نهى " .. .. وأنا أعتبرها مثل " نهي " .. .. أعاملها كحفيدتي !

سمعت دواهي الملعونة تقول؛ وقد ثقبت كلماتها المسمومة طبلتا أذني َّ الضعيفتين :

-       صحيح .. .. الشيبة عيبة !

انتظرت أن يرد عليها أحد أبنائي أو إحدى بناتي! ولكن يبدو أنها كانت قد جندتهم جميعا في صفها، ثم فوجئت بابنتي الطبيبة تظهر لي دفتر مذكراتي؛ وتفتحه وتقرأ بعض السطور! ثم تقول لي مستنكرة :

-       معقول يا بابا .. .. تقول هذا الكلام .. .. إنني لا أصدق .. .. تحب بنتا من سن أحفادك ! أكيد أنت .. .. لا أستطيع أن أقولها !

كنت أريد أن أصرخ؛ وأسألها:

-       من أذن لك بأن تأخذي هذا الدفتر .. .. كيف تسرقينه من تحت وسادتي ؟!

لكن قبل أن أفتح فمي؛ فاجأني أصغر أولادي؛ آخر العنقود؛ الذي دللته، لدرجة أنه كان يركب على ظهري، وكأنني حمار؛ سن َّ لسانه ، وذبح به كرامتي وكبريائي، وهو يقول :

-       لماذا لا تستطيعين قولها .. .. قوليها لعله يعود إلى رشده قبل أن يفضحنا.. .. قولي له إنه فقد عقله .. .. إنه جن .. .. أصابه الخرف .. .. والله العظيم المفروض نحجر عليه.. .. أفعاله الصبيانية هذه ممكن تدمرنا وتقضي علينا!

انفجرت فيهم بكل ما تبقى فيَّ من قوة، وصحت فيهم بأعلى صوتي :

-       تحجروا علي َّ .. ..  لقد وزعت عليكم ثروتي كلها .. .. على أي شيء ستحجرون ؟!

على قلبي .. .. لا .. .. لن أسمح لكم أن تحجروا على قلبي؛ أنا ضحيت من أجلكم بكل شيء .. .. ضيَّعت عمري كله عليكم .. .. مالي ؛ بيوتي؛ محلاتي .. .. كل شيء .. .. لم يبق لي إلا .. .. إلا .. ..

       فجأة أظلمت الدنيا في عيني َّ، وعندما عاد الضوء، تغيَّرت الوجوه، لم أعد أرى وجوه أولادي أو بناتي! فقط وجوه فتيات صغيرات مثل " سلوى "! كلهن يرتدين ثيابا بيضاء!

       إحداهن اقتربت من وجهي؛ حتى شعرت بأنفاسها الدافئة تداعب أنفاسي المتقطعة! ثم مرَّرَت أناملها الناعمة كالديباج على عنقي؛ سمعتها تقول لزميلتها :

-       ليس أمامي إلا أن أركبها في رقبته !

-       إلى هذه الدرجة عروقه ناشفة .. .. ليس فيها دماء .. .. أكيد من قلة الأكل؛ يبدو أن لا أحد يهتم به !

بعد أن ركبت ( الكانولا ) في رقبتي، انصرفت هي وزميلتها، لم أسأل أين أنا، ولم أهتم بمعرفة ما حدث لي، فما رأيته في منامي كان كفيلا بأن ينسيني كل شيء! لم يكن وجه سلوى، بل كان وجه زوجتي الثانية؛ العاقر؛ أو التي كنت أظنها – بجهلي – عاقرا ! يا للعجب كيف لم أنتبه لهذا الشبه الكبير بينها وبين سلوى! لكأنها هي ! ليتني لم أطلقها! كانت تحبني لدرجة أنها قالت ، وهي تتوسل لي حتى لا أطلقها :

-       تزوج كما تحب .. .. لكن أرجوك لا تطلقني .. .. وسوف أعيش خادمة لك ولمن ستتزوجها !

كانت تحبني؛ وكان ردي على حبها أنني طلقتها؛ وكسرت قلبها، إنني أستحق أكثر مما أنا فيه الآن! 

 

 


مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة