نظارة القراءة
بقلم / ناهد الاسطة
استيقظ الشيخ محمد كعادته باكرا ، وقام نشيطا من فراشه ، ليتوضأ استعداد لصلاة الصبح في مسجد الحي .
كانت الفرحة تجلل محياه اليوم ، والقلب يرقص طربا على غير عادته ، فقد اخبرته ابنته سهاد امس باتصال هاتفي ، انها ستزوره اليوم مع حفيده الوحيد بعد موعد المدرسة ...
كان الشيخ محمد يحب حفيده حبا جما ، لكن لبعد مكان سكنه عن ابنته ، لا يتسنى لها ان تزوره الا كل عدة ايام مرة وكان يوم الزيارة هذا يوم عيد لقلبه الهرم
ارتدى جلبابه الابيض واسرع مغادرا المنزل ليلحق صلاة الجماعة
بعد انتهاء الصلاة مد يده الشيخ الى جيبه ليخرج نظارة القراءة ، ليقرا ورده اليومي من القران في
المسجد ، ليكتشف انه لسرعته نسياها في المنزل اليوم ، شعر بالانزعاج فهو معتاد على ان يقرا القران ، حتى تشرق الشمس فيصلي الضحى في المسجد ثم يعود الى منزله .
امسك بالقرآن وفتحه لعله يستطيع القراءة ، لكن الأحرف كانت تتراقص امام عينيه ، وتتداخل مع بعضها البعض ...
جلس الشيخ يفكر كيف يحل موضوع القراءة ، اخذ القران واقترب من اعمدة المسجد ، المثبت عليها الانارة ، لكن لم تكن اضاءتها كافية لعينيه المتعبتين ...
بدا الياس يتسرب لنفسه ، انه لابد ان يعود للمنزل اليوم ، قبل ان يصلي الضحى ، ويصليه في البيت . لكن عزت نفسه عليه ، وهو من خمسين سنة على
هذا النظام ، لم يقطع يوما واحدا ، مهما كانت احوال الطقس .
تلفت حوله باحثا عن مصدر انارة جيدة ،فلاحت له الانوار خارج المسجد ، انها اكثر اضاءة من داخله وخاصة وانهم أطفؤا الانارة ، بعد صلاة الصبح اتجاه الى باب المسجد وجلس على درجاته فتح القرآن ولسان حاله يلهج : بالحمد .... الآن استطيع ان اميز الأحرف ، الاضاءة جيدة هنا همس الشيخ في سره لكن تعبت يداي العجوزتين ، من حمل كتاب الله ، كيف سأقرا "وردي اليومي" وانا احمله لن انته في الموعد المعتاد ، لقد اضعت وقتا ثمينا ...
رفع راسه وتلفت حوله ، يبحث عن شئ يضع عليه كتاب الله ، فلمح صندوق من الكرتون فارغ في الجوار ، قام متحاملا على نفسه ليصل الى الصندوق ، تفحصه جيدا ..
- نعم اكد لنفسه ، يبدو انه يصلح ليكون مسندا لكتاب الله .
أحضر الصندوق وعاود الجلوس على الدرج ، وضع الصندوق امامه ، ووضع كتاب الله عليه ، لكنه شعر بانه محتاج ان يقترب لكتاب الله اكثر ...
خاطب نفسه : والآن ما العمل؟ ..
- لابد ان ارفع الصندوق قليلا ، تذكر الحديقة الخلفية للمسجد ، فقام وساقيه ترتجفان تحت جسده ، مشى بخطوات واسعة محاولا الاتزان ، ليصل للحديقة التقط عدد من الاحجار الصغيرة ،حملها بين يديه ككنز غالي ، وعاد بسرعة يتمايل على الطرفين ، آملا ان يعوض الوقت الثمين الذي تتسابق عقارب الساعة لقطعه .
رفع طرف الصندوق البعيد عن الدرج ، ورص الاحجار التي جمعها تحته بيدين مرتجفتين ، تبرز عروقهما من تحت جلده الرقيق ...
- همس مخاطبا نفسه : الآن أفضل .
وضع كتاب الله على الصندوق ،جلس على درج المسجد ، واقترب من الصفحات...
- " الحمد لله "همس بسرور ، استطيع تميز الأحرف الآن... ساقرأ جزء "عم " هو الأسهل والأسرع في القراءة ، لأغطي الوقت الضائع ، اقترب من الصفحات القرأن يقلبها بخشوع ، ليصل لجزء "عم "
وصل الى صورة" النبأ" ارتفع صوته قليلا عن الهمس
- بسم الله الرحمن الرحيم ( عم يتسألون عن النبأ العظيم .... ) واخذته القراءة ... و لم ينتبه الا وجمع من اطفال الحي ، متحلقين حوله يصغون لتلاوته القرأن بكل خشوع ، وكانه يتحدث الى لله بخلوة منفردة ...
انفرجت اساريرالشيخ محمد ، وتذكر حفيده القادم للزيارته اليوم ، اغلق كتاب الله ، قائلا بصوت مرتفع :
" صدق الله العظيم "
فردد الاولاد وراءه "صدق الله العظيم "بأحرفهم المبعثرة ، حمل القرأن وغاص في عمق المسجد ، ليصلي صلاة الضحى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق