Translate

الجمعة، 17 فبراير 2023

سرنجة أنسولين للكاتب المبدع / د. ابراهيم مصري النهر مصر

 سرنجة أنسولين

للكاتب المبدع / د. ابراهيم مصري النهر

مصر
صوت طرقات واهنة، باب الغرفة يُفتح بهدوء تام، ظهر من خلفه سواد امرأة ممسكة بعكاز في يدها، بدت لي في الستينات من عمرها.
أنا قابع في ذات الغرفة خلف مكتبي على كرسي مستدير له أرجل متحركة، وأرتدي معطفي الأبيض المعتاد.
ألقت عليَّ التحية وجلسَتْ بصعوبة على الكرسي المقابل لمكتبي بعد أن أسندت يدها إلى سطح المكتب.
-سألتها عن اسمها وكم عمرها...
تفاجأت بإجابتها...
خلعت نظارتي وقمت بفرك عينيَّ جيدا، نظفت عدستيها الزجاجيتين وأعدتها لعلي أتأكد من صحة ما قالت.....
تقول إنها في الأربعينات من عمرها..
سألتها إن كانت تُعالج من أمراض مزمنة، أجابت بثغر يخلو من سنَّين أماميين، مبدلةً سينها بثاء: "الثكر“.
وهنا بيت القصيد ومربط الفرس، السكر ! وما أدراك ما السكر ! إن لم يتم السيطرة عليه؛ شيخوخة مبكرة لا محالة، كهذه التي شابت في شبابها بسببه.
لم تكن تكذب.. لكنه المرض الذي سلب منها شبابها وجمالها.
ولكن كما يقولون: ”عمر المرأة كما يبدو عليها لا كما تقول شهادة ميلادها“.
تبادلت معها النكات والضحكات لأخفي عنها آثار صدمتي، حتى لا تشعر أنني ظننتها أكبر من ذلك بكثير فأزيدها غما فوق هم مرضها.
تشتكي من صعوبة في التنفس، ودوخة شديدة، وتنميل في أطراف أناملها، وتشعر دائما بالجوع والعطش، وتتبول كثيرا.
قمت بقياس مستوى السكر العشوائي بالدم فوجدته عاليا جدا، لففت من خلف مكتبي مسرعا، لا غرو، فناقوس الخطر يدق منذرا بقرب حدوث كارثة. ثبَّت في عجالة كانيولا في وريد ساعدها الأيسر وأعطيتها قربة محلول ملح، وطلبت من مساعدتي أن تعطيها أربعين وحدة من الأنسولين تحت الجلد. بعد أن انتهى التقطير الوريدي الذي استغرق قرابة الساعة، وبدأت انفراجة تحسن في أعراض المريضة، عادت إلى بيتها برفقة ابنها الذي تعرَّفت عليه وتبادلنا رقمي جوَّالينا.
في آخر اليوم، وأثناء مراجعة الحالات مع مساعدتي كعادتي كل يوم أسترجع شريط الحالات، وكانت من أخطر حالات ذلك اليوم تلك المريضة.
عندما سألت مساعدتي عنها، أخبرتني أنها أول مرة تحقن الأنسولين....
لم تكن ممرضة ولم تدرس علم التمريض، كانت كعامة الناس لا تعرف الفرق بين المعقم والنظيف، لا تعرف أن المناديل الورقية نظيفة وليست معقمة، وأن الماء الذي نحل به بودرة المضاد الحيوي نظيف وليس معقما.
انتابني القلق..
-سألتها: بِمَ أنك أول مرة تحقنين الأنسولين، اشرحي لي ماذا فعلتِ؟
-أجابت: سحبت سرنجة أنسولين كاملة ووخزتها تحت الجلد.
الْتَفَتُ إليها مفزوعا وكأني مضروب بسوط من هول ما سمعت، وبصوت غاضب صحت فيها: من قال لكِ سرنجة كاملة؟!
أجابت مرتبكة: حضرتك قلت أربعين وحدة، والأربعون وحدة كانوا سرنجة كاملة.
نهضت مسرعا وأنا أزمجر: لا وقت الآن لأشرح لكِ الخطأ الجسيم الذي وقعتِ فيه، لقد أعطيتيها مئة وحدة بدلا من الأربعين..
جل همي الآن وشغلي الشاغل هو التواصل هاتفيا مع ابن المريضة أو الوصول إلى بيتها في أسرع وقت ممكن.
أخذت أدق على جوال ابنها ولحظي العاثر كان في كل مرة غير متاح، مما زادني قلقا وتوترا، أتساءل ماذا حدث يا تُرى؟! هل أُصيبت بغيبوبة هبوط السكر؟ .. ربما!
بينما أنا في هذا البحر من الحيرة والاضطراب، لاح لي قارب النجاة من بعيد عندما أخبرتني مساعدتي -بعدما استجمعت بعضا من قواها، فهي ما زالت ترتعد خوفا واضطرابا بالعدوى مني- أنها تعرف بيت المريضة.
أغلقنا العيادة وخرجنا على عجل، جلست على مقود السيارة وانطلقت أسابق الريح، لا أعبأ بمطبات الطريق الترابي الذي لم تألفه إطارات السيارات.. بعد أن قطعنا مسافة طويلة ما بين المنعطفات والمطبات والمرتفعات والمنحدرات وصلنا لقرية نائية يقبع في مؤخرتها بيت المريضة. الأطفال قبل الغروب بملابسهم الرثة يلعبون في التراب أمام البيوت الطينية، عندما رأوا السيارة أخذوا يهتفون: سيارة، سيارة،... وركضوا خلفنا.
توقفت أمام البيت الذي أشارت إليه مساعدتي. خرج شابان على صوت السيارة، أحدهما ابنها الذي كان بصحبتها والذي بدت على وجهه علامات القلق والذعر عندما رآني، وبادرني أثناء نزولي من السيارة بقوله: بعد ما رجعنا من عندك بساعة تقريبا شعرت أمي بهبوط حاد، وبدأ وعيها يغيب ويحضر، فأحضرت لها طبيب الوحدة الصحية القريبة. طمأنته وشرحت له ملابسات ما حدث، واعتذرت له؛ ربت على كتفي وسمح لي بالدخول بصمت مشيرا إلى غرفة والدته.
أسرعت الخطى حيث أشار، عبر الباب المفتوح كانت هناك، وإلى جوارها الطبيب الشاب.. كل مافعله أن قدم لها كأسا من الماء المحلى بالسكر.
سمعتها بعدما شربت الكأس واستردت وعيها كاملا تقول له: سامح الله ذاك الطبيب، لا يفهم في الطب شيئا، ليس طبيبا، كاد أن يقتلني، طبيب فاشل، والتفتت وهي تكررها ناحية الباب؛ وقعت عيناها علي.
د. ابراهيم مصري النهر
مصر
قد تكون صورة ‏‏‏شخص واحد‏، و‏نظارة‏‏ و‏منظر داخلي‏‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة