البريئة
بقلم
متولي بصل
كلما نظرت حولي شعرت أن الحياة مأساة كبيرة، وأكبر
غلطة يمكن ارتكابها هى اتخاذ قرار خاطئ، ويبدو أن قرار زواجي كان أكبر غلطة في
حياتي، الجميع كانوا يعلمون ذلك إلا أنا، ونصحوني كثيرا، لكنني كنت مبهورة
بالهدايا التي كان يغدقها علي، مسحورة بمظاهر الرفاهية التي كان يعيش فيها، والتي
سأشاركه إياها بعد زواجنا! كانوا مندهشين مني كيف بعد سنوات تعليمي الطويلة أوافق
على الزواج من شخص لم يحصل حتى على الابتدائية! حتى ولو كان ابن أشهر تجار
الحلويات في دمياط .
زميلاتي في المدرسة كل واحدة منهن كانت حريصة على
أن تنهي حصصها؛ لتخرج وتعود إلى بيتها قبل موعد الانصراف، أما أنا فقد كنت أتعمد
البقاء في المدرسة حتى انتهاء اليوم الدراسي، وكأنني كنت أهرب من البيت!
لكنني في الوقت نفسه تعودت على حياتي الجديدة، وبدأت أتقبلها رغما عنِّي، صحيح أن الضرب إذلال
للإنسان، لكن الذل الأكبركنت أراه في شماتة الشامتين، فلا أريد أن يشمت بي قريبٌ
أو غريب ! ومن العجيب أنني كنت ألتمس له الأعذار، فقد كان قبل الزواج شخصا آخر؛
كان ملاكا، أو ربما كنت مخدوعة، لكنني على يقين من أن الشرب ولعب القمار هما اللذان
جعلا منه شيطانا، اللعنة على رفاق السوء الذين جعلوه على هذه الصورة البشعة . ذهبت
ثروته التي ورثها من أبيه أدراج الرياح، وأصبحنا نعيش في شقة أدفع أنا إيجارها من
راتبي الشهري، أما هو فلا يزال رغم ما حلَّ بنا من بلاء وفاقة، يشرب ويلعب
القمار!
من شدة ما أنا فيه من كرب، عرضت عليه أن ننفصل
بالمعروف، فما كان منه إلا أن جلدني بالحزام، حتى تشوه جلد ظهري، وهددني بتشويه
وجهي بماء النار إن فكرت في الطلاق أو حتى الخلع ! كنت أعرف أنني لو ذهبت إلى
الشرطة فسأنال حريتي، وسيدخل السجن، لكنني كنت أخشى على نفسي وعلى أهلي الطيبين
مما سيفعله بنا هو ومعارفه الذين على شاكلته.
مرَّت سنتان حرصت فيهما أن أظل وحدي ضحية قراري، حتى
عندما كانت تعن لي بادرة حمل كنت أجهض هذا الحمل بكل الطرق .
منذ شهرين
تقريبا، جاءت المدرسة عاملة جديدة، هى الوحيدة التي استطاعت - دون قصد منها - أن
تخرجني مما أنا فيه ! كانت تتكلم وهى تمشي وكأنها تكلم نفسها، وتوجه لي الحديث حتى
ولو كنت لا أعيرها أي اهتمام، وشيئا فشيئا وجدتني أستمع لثرثرتها اليومية ! وكنت
كلما تأملت حالها، تصبَّرتُ على حالي
كل يوم أجد نفسي
مجبرة على الاستماع لما تقوله هذه المسكينة، رغم أن كلامها مكرر، وتردده باستمرار،
ولا أحد من زميلاتي أو زملائي يهتم بسماع شيء منه، رغم حرصهم على تقديم المساعدات
لها .
وهى تتكلم أهز رأسي
حينا، وأنظر إليها حينا، رغم انشغالي بكتابة الدروس في دفتر التحضير، أحاول أن
أشعرها بالاهتمام، اعتقادا مني بأنها تحتاج للدعم المعنوي - مثلي - كما تحتاج
للمساعدة المادية، وربما أكثر.
ويبدو أن إظهاري
بعض الاهتمام لما تقوله؛ كان يفتح شهيتها للكلام، ومن خلال كلامها عرفت أنها لم
تصل للثلاثين بعد! رغم أن من يراها يظنها في الخمسين من عمرها، من كثرة التجاعيد
والخطوط التي حفرتها معاول الشقاء على وجهها، كل يوم كانت تأتي بثوب جديد، وجديد
هنا ليست بمعناها الحرفي، فكل ثيابها قديمة بالية، لكنها كانت تأتي كل يوم بثوب
غير الذي ارتدته في اليوم السابق، تحاول بقدر الإمكان أن تتكلم بالفصحى، رغم أنني
أنا وزميلاتي لم نكن نتحدث بها إلا داخل الفصول عند شرح درس ما، كما يحلو لها أن
تتقمص دور المثقفة رغم أنها توقفت في سلم التعليم عند الصف الثاني الإعدادي! ولم
تهتم بالقراءة أو الاطلاع لتعويض ذلك .
سألتها ذات مرة عن
زوجها، فابتسمت ابتسامة عجيبة بلهاء، وقالت :
-
طفشان .. ترك لي
" صابر " و " صابرين " وطفش، وأصبحت مجبرة يا مس إني أعمل
وأشتغل، ويكون لي مصدر دخل من المدرسة، أو من جمع الخردة .. صحيح الناس أسمعهم
يقولون عني " أم صابر "
الزَبَّالة، لكن الزِبالة كلها مكاسب .
دائما تشتكي من
اضطهاد مدير المدرسة لها، وغروره وتعاليه عليها، ورغم ذلك فهى مجبرة - على حد
قولها - ألا تترك العمل في المدرسة، وذلك حتى لا تُحرم من المساعدات المادية
والعينية التي تحصل عليها من المدرسات والمدرسين، وبعض أولياء الأمور من أصحاب
القلوب الرحيمة.
-
أمسح الحمامات،
وأكنس الفصول، والفناء، وأنظف المدرسة كل يوم، وأكنس وأمسح مكتبه، ثم يعطيني مائة
جنيه في الأسبوع! ويهددني بالطرد لو اعترضت .. مائة جنيه يا مس، والله العظيم ابني
" صابر " في الأجازة صاحب الشغل كان يعطيه كل أسبوع مائة وثمانين جنيه
أجرة عمله، تخيلي حضرتك ابني في رابعة ابتدائي، أجره أكبر من أجري ! هو المدير
فاكر إني جاهلة! لا .. أنا متعلمة ومثقفة، وأعرف أحسب، لكن ظروفي صعبة .. صعبة جدا .
كلامها كان ينسيني
مأساتي؛ لذلك كنت ألهي نفسي بالاستماع إليها، وقد فاجأتني اليوم بحكاية جديدة، فقد
قالت :
-
والله العظيم يا
مِسْ بالأمس كنت أجمع علب ( الكانز ) الفارغة، ووصلت عند كازينو على الكورنيش،
وسألت إذا كان عندهم ( كانز ) أو حتى علب كارتون أبيعها لتاجر الخردة؛ صاحب
الكازينو تأثر، ومن شدة تأثره أعطاني كرتونة ( كانز ) ممتلئة، أشرب منها أنا
وأولادي، ونبيع الفارغ خردة للتاجر! على فكرة يا مِسْ بيع الخردة مكسبه كبير، كيلو
الكانز بعشرين جنيه ! يعني خمسة كيلو بالمائة جنيه التي يرميها لي حضرة المدير
المغرور!
ضحكت وأنا أسمعها
تصف المدير بالمغرور، وقلت لها :
-
واضح إنه أصبح
بالنسبة لكِ عقدة ؟!
ابتسمت ابتسامتها
العجيبة، وقالت :
-
عقدة! مصيبة، كل
يوم الناس كلها تخرج من المدرسة، إلا أنا بحكم من حضرة المدير قراقوش ضروري أعمل لحضرته شاي أو نسكافيه، أو قهوة،
وأشتري له علب السجائر، وبعد ما حضرته يخرج من المدرسة العصرأو بعد العصر؛ أقوم
أتمم على الأبواب كلها وأقفلها !
-
معقول يا " أم
صابر " أنتِ وهو وحدكما والشيطان ثالثكما !
-
يا مِسْ لا شيطان
ولا يحزنون، " أم صابر " بالنسبة له عاملة نظافة، يعني زَبَّالة، أو
تقدري تقولي خدامة .
-
الله يعينك !!
-
تشكري يا مِس!
والله العظيم ساعات الشيطان يكون موجود فعلا !
-
معقول !!
-
ويقول لي ( كلمة في
سرك يا مِسْ ) أضيف له في الشاي مع السكر حبة أو حبتين من سم الفئران، لكن خوفي
على نفسي وعلى أولادي يمنعني في آخر لحظة، فأقول ( الله يخزيك يا شيطان .. الله
يخرب بيتك يا شيطان أنت والمدير في ساعة واحدة ) .
وأنا أضحك من
كلامها وأسلوبها في التهكم من المدير، ولثوانٍ معدوداتٍ تخيلتها خلف القضبان ووكيل
النيابة بأعلى صوته يقول لكل من في قاعة المحكمة :
-
انظروا إلى تلك
المرأة الماكرة اللعوب، التي يسهل عليها استدرار عطفكم، إنها قتلته ببشاعة دون أن
يرمش لها رمش !
سماعي لثرثرة ( أم
صابر ) كانت بالفعل تخفف عني الكثير من التوتر والضغوط النفسية التي كنت أعاني
منها في هذه الفترة الصعبة، لا سيما أنني أصبحت أعيش في جحيم لا يُطاق، لكنني
مشلولة الإرادة، ولا أستطيع اتخاذ قرار بالفرار والنجاة منه !
وذات صباح وأنا في
طريقي إلى المدرسة؛ صدمتني سيارة يبدو أن سائقها كان سكرانا مثل زوجي، فلم تأخذه
بي أي شفقة، ولم يتوقف حتى ليطمئن على هذه الروح المسكينة التي كاد يرسل بها إلى الأخرة!
نُقلت إلى
المستشفى، وظللت محجوزة هناك أياما، ثم نقلني أهلي عندهم لرعايتي، حتى أسترد
عافيتي، وعندما عدت إلى شقتي لم أتحمل، فقطعت أجازتي المرضية، وعدت إلى المدرسة؛ فوجئت بخبر اختفاء المدير، هذا الخبر الذي وصلني
من زميلاتي - من قبل - وأنا في بيت أهلي، لكنني كنت لا أزال أعاني من آثار الحادث
فلم أهتم، وحسبته في أجازة مرضية - كما حدث لي - أو في مأمورية طويلة، أو تدريب،
لكنني عندما عدت إلى المدرسة؛ فوجئت بأن الجميع يتحدثون عن اختفائه الغامض، ويرجحون أنه قد قتل! ويقولون أن الشرطة بحثت عنه
في كل مكان لكنهم لم يعثروا له على أي أثر! ولا يزالون يبحثون ولكن دون جدوى .
لا أحد يعرف أين
ذهب ! حتى "أم صابر" عندما سألتها ؛ ارتسمت على وجهها ابتسامتها البلهاء
تلك، وقالت وهى تهز رأسها بطريقة عجيبة :
-
أكيد طفشان يا مِسْ
.. عنده خمسة أولاد محتاجين مصاريف، والعيشة صعبة، أكيد طفش !
لا أدري لماذا بدأت
أشك في أن " أم صابر " هى التي قتلت المدير، وأخفت جثته، بل وبدأت أشك
أيضا أنها كانت قد قتلت زوجها، وأخفت جثته بنفس الطريقة ! إلى هذه الدرجة تستطيع
امرأة أن تقتل شخصا، وتخفي جثته، ولا تترك أثرا يدل على جريمتها ! رجال الشرطة
أنفسهم حتى الآن لم يعثروا عليه، إنهم حتى لا يعرفون إن كان قد قُتل أم لا يزال
على قيد الحياة!
تلك الداهية يظنها
الجميع مسكينة بلهاء، بينما هى في الحقيقة سفاحة لكنني أعذرها، فالحياة قاسية،
وليس أمام المرء فيها إلا أحد خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن تكون ظالما، أو ترضى
بأن تكون مظلوما، وهى اختارت أن تكون ظالمة
لقد قتلت زوجها
لأنه كان يضطهدها، واليوم قتلت مديرها لنفس السبب، ربما هى ليست ظالمة، إنها فقط
امرأة حديدية تخفي حقيقتها خلف تلك الهيئة الرثة والثياب المهترئة .
قررت أن أستعين بها
في التخلص من سبب بلائي، حتى أستريح وأهنأ بعد شقاء؛ لذلك طلبت منها أن تأتي لتنظف
شقتي وتمسح السلم، وعرضت عليها أجرا لا تحلم به، فوافقت على الفور.
وهى تجلس معي في
غرفة الاستقبال، رأيت الدهشة وعلامات التعجب ترتسم على وجهها، فالشقة نظيفة،
والسلم يلمع أكثر من سلالم المدرسة التي تمسحها كل يوم ! لم أضيع وقتا، وفاتحتها
بالأمر، وأخبرتها أنني سأدفع لها ما تطلبه وأكثر، وبأنني سأعينها في تنفيذ المهمة،
وأكَّدت لها أن أهم شيء عندي هو إخفاء الجثة، والتخلص منها، لكنها للأسف رفضت،
وأخذت تصرخ وتصيح في وجهي، وهى تنكر أي صلة لها بمقتل مديرها أو زوجها، بل ودفعتني
بقوة جانبا، وانطلقت نحو الباب، وهى تصرخ باكية:
-
أنا بريئة يا مِسْ،
والله العظيم بريئة، حرام عليكي تتهميني، أنا لا يمكن أقتل فرخة حتى ..
يبدو أنني - كعادتي
- أسأت التقدير، كيف سأتخلص منه الآن بعدما أطلعت تلك اللعينة على سري الدفين ؟!
ربما يجب علي أولا أن أتخلَّص منها قبل أن أتخلَّص منه، إنها ثرثارة، ولا يقر في
صدرها سر، ولكن قبل أن أفعل ذلك يجب علي أن أعرف كيف تذيب كل اللحم والعظم، ولا
تترك أي أثر !
في اليوم التالي،
وبعد انصراف الجميع، نزلت " أم صابر" كعادتها لتمسح دورات المياه، كدت
أتراجع عما انتويته وأنا أتابعها من فتحة باب الحمام الذي اختبأتُ فيه، هى فعلا
مسكينة، كدت أبكي وأنا أراها تمد يدها في إحدى بلاعات الصرف الصغيرة، لتخرج منها
قطعة قماش كانت تسد مجرى المياه، كان الإجهاد واضحا عليها، والعرق يسيل منها
بغزارة، فتمسحه بأكمامها الملوثة بمياه الصرف، الحبل الذي سأخنقها به سقط من يدي
رغما عني، التقطته، وتابعتُ مراقبتها في انتظار اللحظة المناسبة لإنهاء الأمر، كنت
على ثقة من أنه لا يوجد في المدرسة - في هذا التوقيت - إلا أنا وهى، فجأة رأيتها
تترنح، وتسقط على البلاط ! أصبحت ممدة على الأرض بلا أي حِراك، وكأنها فقدت الوعي،
ظللت في مكاني وراء باب الحمام ولم أتحرك، مرَّت دقائق ولم تأتِ المرأة بأية حركة،
أتكون قد ماتت ؟! لم يعد بإمكاني البقاء أكثر من ذلك، فخرجت من مكمني، تحسست يدها
ورقبتها لأبحث عن أي نبض، ولما تأكدتُ أنها حية، أخذت أرش وجهها بالماء لتفيق، مع
أن وجهها كان ينضح بالماء والعرق! يبدو أنها في غيبوبة، ماذا أفعل؟! بضغطة بسيطة
على عنقها، ستموت، يمكنني أن أكتم أنفاسها! لكن يدي لا تطاوعني، لست قاتلة، أجهشت
بالبكاء، وأنا أحاول حملها، وجرِّها للخارج، جريت نحو الباب الرئيسي للمدرسة، بعض
الباعة الجائلين كانوا لا يزالون في أماكنهم أمام المدرسة، استغثت بهم، طلبوا
الإسعاف، وتم نقلها للمستشفى .
لا أعرف كم مرَّ من
الوقت، وأنا أجلس بجانبها على أحد الأسرة، أخبرني الطبيب بأنها غيبوبة كبدية،
فالمسكينة لديها تليف كبدي كبير، كما أنها تعاني من فقر دم وأنيميا .. ولديها
مشاكل أخرى، حتى أن الطبيب قال متعجبا :
-
أنا مندهش جدا، هذه
المرأة لا يمكن أن تكون على قيد الحياة، فلديها مجموعة أمراض، كل مرض منها كفيل
بقتل فيل!!
عندما عدت إلى
شقتي، كان الوقت متأخرا، حاولت أن أشرح له، لكنه كعادته لم يترك لي فرصة للكلام، دفعني
بقوة نحو المرآة؛ فتهشمت، وتناثر زجاجها في كل مكان، وشُجت رأسي، وسالت منها
الدماء بغزارة، على التسريحة مقص حديدي متوسط الحجم، لا أدري كيف وصل إلى يدي، ولا
أدري إلى الآن كيف استطعت أن أغرسه في عنقه، الأمر يبدو لي كحلم مزعج أو كابوس، لا
يمكن أن تكون كل هذه الأحداث حقيقية!
في قاعة المحكمة،
وبعد مرافعات ومداولات، وقبل أن يصدر الحكم، شاهدت بعينيَّ مدير المدرسة بين
الحاضرين! " أم صابر" كانت قريبة من القفص الحديدي، أشرت إليها لتقترب
مني، فاقتربت، سألتها بذهول :
-
لم تقتلي المدير ؟!
اغرورقت عيناها
بالدموع، وقالت هامسة :
-
يا مِسْ، المدير كان
محجوز في مستشفى في رأس البر، ومحفظته بالفلوس بالأوراق واحد ابن حلال سرقهم، أنا
بريئة يا مِسْ
-
معقول أكثر من شهر
وهم يبحثون عنه
ابتسمت ابتسامتها
البلهاء، وهى تقول :
-
في المستشفى الداخل
مفقود، والخارج مولود، اسأليني أنا يا مِسْ .
تأليف / متولي بصل - دمياط . مصر