قصة قصيرة
بركان
بقلم / سمير لوبه
مصر
قابعٌ في كهفِه وحيداً ، يتسربُ ضبابُ عمرِه الرمادي إلى روحِه الهائمةِ كما يتسربُ السمُ في دخانِ التبغِ المحترقِ إلى دمِه ، فصار مثلَ تمثالٍ معدني ملّـت العينُ النظرَ إليه ؛ فقد علاه صدأُ السنين الرتيبةِ ..
طالت به رحلةُ العمرِ، فصار يكتبُ حروفاً من نارٍ قد تطايرت حمماً من بركانِ صدرِه ؛ تحرقُ أناملَه مثل لفافةِ التبغِ التي لا تفارقُ اصبعيه ، يكتبُ كي يحرقَ ما تبقى من آلامِه ، يكتبُ ليصبحَ حراً طليقاً ، يكتبُ لنفسِه فقط ، يبحثُ عن ما يَهُزُ مشاعرَه ، ويخلقُ كلماتِه ..
يطلقُ ناظريه من تحت زجاجِ نظارتِه الطبيةِ الثقيلةِ يحلقان في المكانِ، فإذا بهما يحطان على غصنِ بان يافعٍ تضجُ منه رائحةُ أنوثةٍ متفجرةٍ تخترقُ فتحاتِ أنفِه ؛ تثيرُ مشاعرَه مثل حماماتٍ تتلجلجُ في شبكةِ صيادٍ قد عمينْ عنها فوقعنْ فيها ، في تلك البقعةِ الرماديةِ من الزمنِ يحتاجُ فقط أن يطيلَ الوقوفَ ؛ ليلتقطَ بعضاً مما نساه في رحلتِه الطويلةِ ..
لقد اعتاد أن يراقبَ الغيومَ والنجومَ ؛ فيزدادَ إصراراً وتصميماً على الهجرةِ مع الطيورِ أيا كانت وجهتُها ، يحاولُ أن يملكَ وسيلةً يعبرُ بها من ضفةٍ إلى أخرى ، أمنيتُه أن يملكَ قلبَه و ما يشعرُ ؛ ليمحوَ لحظاتٍ غرست ما لا يحبُ في داخلِه لا يشتهي العبثَ أو الخروجِ عن المألوفِ ، كل ما في الأمرِ أنه يحاولُ أن يملكَ ما يجعلُه إنساناً من لحمٍ ودمٍ ..
ترمقُه بعينيها الناعستين فتبعثرُ أوراقَه التي يحاولُ لملمتَها دونَ جدوى ، يستنهضُ جسدَه ، يتوجهُ إليها ، يدغدغُ خيالَه شريطٌ سينمائيٌ في مشهدٍ يجمعُهما بحميميةٍ مفرطةٍ ، يبثُها فيضَه ترتوي ، فتمنحُه ما تساقط منه في رحلةِ حياتِه ، تشتهي أذنُه آهاتِ غنجِها وحمحمتَها ، تسوقُه كلُ تلك المشاعرِ والأحاسيسِ الفياضةِ نحوَها سوقاً ، وقد تنحى إدراكُه تماماً ، فما أن خرج من الكافيه إليها حيث تجلسُ إلى منضدةٍ على رصيفِ الكافيه ، ترتسمُ على قسماتِ وجهِه بسمةٌ ؛ فلربما تستجيبُ لرغبتِه في مجالستِها ، وما إن تنتبهُ إليه تبادرُه :
- تحب أعديك السكة يا " عمو " ؟
فإذا به ما زال قابعاً في كرسيه ينتفضُ ألماً ؛ فقد حرقت لفافةُ التبغِ ما بينَ أصبعيه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق