Translate

‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قصة قصيرة. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 12 يوليو 2023

وكشَّر عن أنيابه ثانية قصة قصيرة للكاتبة المبدعة / ليلى عبدالواحد المرّاني - العراق


 وكشَّر عن أنيابه ثانية …./ قصة قصيرة

ليلى عبدالواحد المرّاني / العراق
اصطدم بي.. سقطت حقيبتي، رفعها.. التقت أعيننا. قشعريرةٌ أصابتني كمن دُلقٓ عليه جردل ثلج، (اختضّت) لها كلّ خلايا جسدي. معتذراً، وابتسامةٌ حاول رسمها، أطلقت خوف فأرةٍ وقعت في مصيدة، سحبت ابنتي الصغيرة لأهرب. قوةٌ خارقة تفجّرت في عروقي فجأة، وتحدّيت خوفاً عتيقاً سكن أعماقي، وأعلنتها مواجهةً مفتوحةً لأوّل مرّة، أسلحتي كانت حقداً دفيناً، وصرخة مكتومة ظلّت تعذّبني سنين وسنين..
نظراته اللّزجة، لا تزال كما كانت، قيحاً يلوّث وجهي، فأمسحه، وألف شيطانٍ يتراقص فوق ابتسامته، أنيابه استطالت أكثر، حتى أحسستها تقطِّر دمي ودم ضحاياه الأخريات.
ذئباً جائعاً لا يزال.. لهثت أنفاسي خوفاً.. وشهوةً قديمةً تنزُّ عفناً أنفاسه تلفحني، تحوم حولي. تصبّبتُ عرقاً في يومٍ تمّوزيٍّ بامتياز، أشعلته جحيماً حممُ غضبي وتشظّيات ثورةٍ مكتومة كست معالمي.
سياطُ لهبٍ تضرب عشراتِ الأجساد المنهكة من الانتظار، طابورٌ طويل يقفُ بإعياء، وحفيفُ أوراقٍ يحملونها، يحاولون تحريك الهواء، علّ نسمةً باردة ترطّبُ أفواههم الجافّة، وأنا لا أزال متحدّيةً، أنظر إليه بكلّ عنفوان ثورتي وحقدي المفاجئين، وأمسح عرقاً أخذ يتصبّب حتى من أظافري. أحسستُ بانغراس أنيابه في جسدي، حتى أكاد أخلع جلدي، تطهيرا من تهمة لصقت به.
عذبةً، رقراقةً كانت مياهي، تعكّرت حين ألقى حجره وسدّ مجراها، فأنبتت أشواكاً مسمومة، ظلّت ترافقني.
وسط فوضى الذكريات وتداعياتها، سألني، وليس من صدى لكلماته في أذني. جملة قالها اقتلعتني من متاهاتي: ابنتك جميلة، تشبهك..
وبخوف، خبّأت طفلتي خلف ظهري، أحمي جلدها الطريّ من إثم نظراته الباحثة عن الخطيئة. تتذمّر صغيرتي، بنت السابعة عشرة أجدها فجأة أصبحت، لا تمشي بقدمين، بجناحين شفّافين صارت تحلّق، كما كنت أنا الصغيرة القادمة من أعماق قرية جنوبيّة، نهارها تقاليدٌ وعيونٌ تترصّدك وتحصي أنفاسك، وليلها رصاصٌ مجنون يشقّ سكون الليل بين حين وحين، ومآتم في الصباح تقام..
متعثّرة خطاي، دخلت حرم الجامعة، حاملةً وعوداً وأحلاماً كبيرة احتواها، واحتواني.. هو ابن المدينة بخبرة وتمرّس وتحت جناحيه طواني، وأطّر حركاتي وتطلّعاتي بإطارٍ اختاره، يناسب رغباته.
تقبّلته طوعاً وفرحاً أول الأمر.. انتفضت، وتمرّدت حين أصبحت أغلالاً تشلّ حركتي، وطوقاً ثقيلاً يلتفّ حول رقبتي، فأختنق..
الجمال لعنة، حقيقةٌ لم أدركها الاّ لاحقاً. نظراتٌ تلاحقني، وتطاردني أينما كنت، ارتحتُ لها، وفرحت، وامتلأت غروراً وزهواً، وحين استجبت، انتفض غول ُغضبه.. فاجأته جرأةٌ لم يعهدها من تلك الصغيرة، قابعةً تحت جناحيه كانت، متعثّرة الخطى، وطوقٌ ثقيلٌ تنوء تحت وطأته.. نبت لها جناحان، وطارت تستقبل الحياة.
عشت أحلاماً جميلة حملتها معي من قرية الشمس والرصاص، اغتالها بغفلة مني..
ــ تزوّجتِ؟ كم من الأبناء أنجبتِ؟
انتفضت من استغراقي وهذيان ذكرياتي على صوته يسأل..
ــ ثلاثة، وأنت؟
ــ ثلاثة أيضا، ولدان وبنت..
وبحقد عشرين عاماً، ملأها خيبةً وخوفاً، وخذلاناً، حين اغتال أحلى سنيني، وأطفأ جذوة أحلامي، وشوّه ناصع صفحتي، قلت:
ـ قد تقع ابنتك فريسة ذئبٍ، مثلك.
انتفض، وابتسامة أحسستها مرعوبةً طافت على فمه..
ــ ليست جميلة، كما كنت أنت.
الجمال إذن كان لعنتي، ومحنتي.
انتشلني صوت الموظّف المتثائب من جحيم آلامٍ حملتها عشرين عاماً، كفّنتها ودفنتها في مقبرة مهجورة، وها هي الآن تنتصب أمامي بكلِّ جبروتها وقسوتها، تنخر في جسدي حدّ العظم.
أخذت معاملتي من يد الموظف الكهل، وسحبت ابنتي هاربة، وبلوعة وحرقة سنين ظننتها انطفأت، وأنا أرمي سؤالي رصاصًا في وجهه
ـ لماذا فعلت ذلك؟
صوتي منتحباً تفجّر، وضحكةٌ لم أدرك مغزاها صاحبت صوته الذي مزّقني..
ـ كي أنفرد بك.. ينبذك الجميع، حتى معجبينك.. وتبقين لي.. لي وحدي..

الأحد، 2 يوليو 2023

أرزاق قصة قصيرة بقلم / متولي بصل

 

أرزاق

قصة قصيرة

بقلم / متولي بصل

-          أرزاق، سبحان الخلَّاق! الواد محروس الفاكهاني المحظوظ ابن المحظوظة طلع القمر يا ريس طلبة !

سرى ذلك الصوت من داخل كشك خشبي يطل على مياه البحيرة، بينما كانت فقاقيع كبيرة من الدخان تتسلل هى الأخرى مثل سحب بيضاء صغيرة، ثم تتلاشى في الهواء، والرياح الشديدة في الخارج تهدر، وتكاد تنتزع الألواح الخشبية من مكانها، لحقه صوت آخر يرد عليه قائلا :

-          يااااه!  طلع القمر مرة واحدة! محروس الفاكهاني " البطيخة القرعة " ساقط الابتدائية يطلع القمر معقول ! يظهر إن قرش الحشيش في حجر المعسل مغشوش يا معلِّم طلعت !

-          والله العظيم أبدا، ظلمتني وظلمت الحشيش يا ريِّس، لا الحشيش مغشوش ولا صاحبك ابن كارك مسطول!

على مسافة بعيدة، في أحد عمارات المساكن الشعبية أمام محكمة شطا، داخل شقة صغيرة في الطابق الأول، قضى محروس أسعد ليلة في حياته، مع حلم لم يحلمه قط، ولم يخطر يوما على باله، أرزاق تلك الحورية الفاتنة، التي أذهلت بجمالها كل من شهد الزفاف، الجميع لايصدقون أعينهم حتى أقرب الناس إليه.

وتوقَّع الكثير منهم أن ينهار هذا الزواج سريعا، إذ لا توجد ذرة تكافؤ بينهما! فمحروس بائع فاكهة بسيط، يفك الخط بصعوبة، بينما أرزاق آية في الجمال، كما أنها أتمت تعليمها الجامعي، وحصلت على بكالوريوس التجارة، وهو ما كان يؤهلها للالتحاق بوظيفة حكومية أو عمل في أي شركة خاصة، لكنها استجابت لرغبة محروس في ألا تشتغل !

مرَّت الأسابيع والشهور وهى قانعة في شقة زوجها، راضية بحياتها معه، بينما تبدَّلت أحواله بسرعة الصاروخ، امتلأ عوده بعدما كان مثل عود القصب الممصوص! واستدار وجهه بعد أن كان نحيفا مستطيلا، وانتفخ خدَّاه؛ وظهرت آثار النعمة عليه؛ حتى أسلوبه في الكلام تغيَّر إلى الأحسن! وبعد أن كان بائع فاكهة بسيط، أصبح واحدا من تجار الوكالة، وبدأ الناس يتساءلون في دهشة هل تزوج ملكة جمال، أم وقع على خزينة مليئة بالجمال والدلال والأموال !

في الكشك الخشبي المطل على البحيرة، كل ليلة مع الدخان المتسلل من الشقوق الصغيرة؛ يسري صوت طلعت وطلبة، لا تكاد تمر ليلة منذ زفاف محروس وأرزاق إلا ويعلو صوتهما حاملا معه كل معاني الحسرة!

-          الواد محروس أصبح من التجار ؟!!

-          أرزاق يا ريس طلبة !!

-          أرزاق! معقول الحلاوة والعِلم والمال والوجاهة والدلال تكون كلها من نصيبه؟! والله العظيم يا معلم طلعت لا أنام ولا يهدأ بالي إلا إذا أصبحت أرزاق حلالي بلالي .

-          يا ريس طلبة الواد قافل عليها بالضبة والمفتاح، والعجيبة إنها هى نفسها قافلة على نفسها، من يوم الزفَّة لا ظهرت في شباك ولا بلكونة !

-          خايف عليها ابن الجنيَّة، لكن أنا ولا يهمني، بعد يومين تسمع خبر طلاق أرزاق، وبعد كام شهر تبارك لي.

-          والحاجة نوال أم عيالك ؟!

-          تغور بوشها الفقري!

قبل الفجر بقليل، ودَّع محروس زوجته، احتضنها بحب، وقبَّل جبينها كعادته، ثم خرج ليباشر عمله في الوكالة، وعادت هى إلى سريرها لتكمل نومها، في نفس الوقت الذي كان فيه الريس طلبة يتسلل على أطراف أصابع قدميه داخل الشقة، فتح الباب بمفتاح مقلَّد؛ وأصبح أمام باب غرفة النوم، المؤامرة التي خطط لها تدور داخل رأسه كشريط سينما لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد، سوف يدخل على أرزاق؛ ويرش على وجهها المخدر؛ فتنام في الحال؛ ثم ينام بجوارها على السرير؛ ويدخِّن سيجارة أو اثنتين منتظرا عودة محروس الذي سينهي أشغاله كعادته كل يوم في خلال ساعتين أو ثلاثة، وعندما يشعر بعودته يقوم ويقفز من البلكونة نحو الشارع أمام عينيه، وبذلك يفهم محروس أن زوجته الجميلة تخونه مع الريس طلبة؛ أدار أكرة الباب؛ فتحه وتسلل نحو السرير، قبل أن يرش المخدِّر أراد أن يتأمل ذلك الوجه الملائكي البديع الفاتن الذي استأثر به محروس، لكنه فوجئ بوجهٍ مخيفٍ كأنه وجه الشيطان؛ سقط الكشاف من يده، وقنينة المخدِّر سقطت هى الأخرى، وانطلق نحو باب الشقة مفزوعا، وهو يصرخ :

-          شيطان! شيطان! البطيخة القرعة! البطيخة القرعة!

استيقظت أرزاق على صراخه، انتبهت من نومها، لم ترتسم على وجهها أي ملامح للخوف! فقط أزاحت الغطاء؛ وأضاءت نور الغرفة؛ لمحت الكشاف والقنينة، والباب المفتوح، لم تهتم بمعرفة من الذي اقتحم شقتها، وتسلل إلى غرفة نومها، بل ذهبت نحو المرآة، كانت تترنح ربما من المفاجأة، لكنها لم تكن خائفة! بل كانت حزينة تبكي، أخذت تتأمل وجهها الذابل، وتتحسَّسه بأناملها الرقيقة، تبحث عن رموش عينيها التي اختفت! عن شعر حاجبيها فلا تجد له أثرا، عن شعر رأسها الذي كان جميلا طويلا، قبل أن يذهب ويترك رأسها كصحراء قاحلة!

عادت للخلف خطوات، والتقطت الكشاف والقنينة، بينما دموعها تنساب بلا توقف، صرخت بأعلى صوتها، وهى تقذفهما نحو المرآة، كان آخر ما رأته عيناها قبل أن تسقط على الأرض، وجهها وهو يتكسَّر إلى أشلاء مع زجاج المرآة .

الثلاثاء، 20 يونيو 2023

قصة قصيرة ( غدر الأيَّام ) تأليف / متولي بصل - مصر



قصة قصيرة

( غدر الأيَّام )

تأليف / متولي بصل - مصر

عشرون عاما مرَّت مثل حلم جميل، عشتها في كنف الرجل الطيب الحاج " طاهر " الذي كان يعاملني كأحد أبنائه، فلم أشعر يوما أنني مجرد عامل عنده، ورغم أنني كنت واحدا من بين حوالي مائة وخمسين عاملا يعملون في المكتب أو المعرض أو المصنع، إلا أنني كنت الوحيد الذي اختاره للقيام بأهم وأحب عمل إلى قلبه، فكان يكلِّفني بتوزيع مبالغ مالية كل شهر على الأرامل والمطلقات والمحتاجين، الذين تم بحث حالاتهم، وإعداد كشوف بإسمائهم؛ فكنت أحمل الأمانات وأوصلها لأصحابها في بيوتهم سرا، ونتيجة لذلك اكتسبت صداقات كثيرة مع أناس يُعتبرون بحق الطبقة المعدمة، أو الذين يطلقون عليهم الفئة الأشد احتياجا، ومن العجيب أنني اكتشفت من خلال حديثي مع بعضهم أن الكثير منهم كانوا فيما قبل ميسوري الحال، بل إن منهم من كان يوما من طبقة الأغنياء!

لم أُقصِّر في عملي السرِّي قط طيلة عشرين عاما، وكنت سعيدا جدا به، الشئ الوحيد الذي كان يُنغِّص عليَّ حياتي هو ذلك السر الخطير الذي خبَّأته داخل قضبان صدري، ولم أُطْلع عليه حتى أمي وأبي، فقد كان الحاج يعطيني كل فترة مبالغ كبيرة من المال، غير المبالغ الشهرية المدونة في الكشوف، ويقول لي :

-         يا نبيه يا ابني ربنا سبحانه وتعالى أكرمنا في هذه الأيَّام، والأرباح زادت بشكل كبير والحمد لله، خذ يا حبيبي هذه المبالغ، ووزعها بمعرفتك على الفقراء والمساكين من أهل الحي الذي تعيش فيه !

-         يا حاج الأمانات كل شهر تصل لأصحابها، والكشوف تمام.

-         لا يا ابني! هذه الأموال خارج الكشوف، وزعها أنت بمعرفتك، طالما ربنا رزقنا من غير حساب، نعطي من غير حساب أو كشوفات.

-         حاضر يا حاج، ربنا يوسعها عليك، ويزيدك من نعيمه !

لكنني لم أكن أوزعها، بل كنت أضعها في الحساب الذي فتحته باسمي في أحد البنوك، وكنت قد فتحته خصيصا لهذا الأمر! لا أدري كيف طوَّعت لي نفسي أن أفعل هذا !

ومرَّت السنوات، ورصيدي في البنك يزداد بصورة كبيرة، في نفس الوقت الذي كانت فيه حِصتي من النوم تتناقص بصورة كبيرة أيضا؛ حتى أصبح الأرق رفيقي في معظم الليالي .

وفجأة، وبطريقة لا تحدث إلا في أفلام السينما، أو مسلسلات التلفاز، قُبض على الرجل الطاهر؛ وتم الحجز على جميع أمواله وممتلكاته! واختلف الناس في أسباب ذلك؛ فمنهم من يقولتهرُّب ضريبي، وعليه مبالغ هائلة للضرائب، ومنهم من يقول تهريب آثار! ومنهم من يقول تجارة مخدرات ! والعجيب أن الكثير من الناس صدَّقوا ما يُقال، حتى هؤلاء الذين كان يعطف عليهم، ويمنحهم حصصا من ماله!

مرَّت الأيامُ ثقيلة عليَّ وأنا أرى وليَّ نعمتي، وصاحب الأيادي البيضاء عليَّ وعلى الكثير من الناس يسقط هذا السقوط الرهيب!

وبعد فترة خرج من السجن، لكن بعد أن فقد كل أمواله وأملاكه! وتدهورت حالته الصحية، وانتقل مع أسرته إلى شقة متهالكة في حي شعبي فقير!

عندما ذهبت لزيارته، ورأيت ما آل إليه حاله؛ حزنت كما لم أحزن من قبل، وفرح هو كثيرا عندما رآني، لم يصدق عينيه، لا سيما وقد تخلَّى عنه الجميع، قال لي :

-         أصيل يا نبيه، أصيل يا .. يا ابني!

وضعت بين يديه حقيبة كبيرة، وقلت له، وأنا أمسح بكم قميصي دموعي:

-         مالك يا حاج!

-         أي مال يا ابني ؟!

-         المال الذي كنت تعطيه لي لأوزعه على من يستحق .

-         لم توزعه! حبست المال يا نبيه ولم تعطه لمستحقِّيه ؟!

-         ادَّخرته لمثل هذا اليوم، خذ مالك يا حاج، فأنت أحق الناس به!

-         ربما لو كنت وزَّعته يا ابني كان ربنا صرف عنَّا هذا البلاء الذي نزل بي . 










الأحد، 23 أبريل 2023

زوجة أبي تأليف / متولي بصل

زوجة أبي

تأليف / متولي بصل

دائما ما أسمع تلك المقولة المجحفة التي يرددها البعض كثيرا، والتي تقول ( زوجة الأب خذها يا رب ) ولأنني لم أكن أتجاوز السابعة من عمري؛ كنت أراها مقولة ظالمة، لا سيما وأنا أعيش في كنف زوجة أب غاية في الرحمة والعطف والحنان؛ لدرجة أنني تعلَّقت بها أكثر من أمي التي ولدتني!

لم أكن أعرف تفاصيل الطلاق في هذه الفترة البعيدة من عمري، لكنني كنت أعرف أن أمي تنازلت عن حقها في حضانتي لأبي! واكتفت بساعة واحدة من كل أسبوع، ستين دقيقة فقط تراني فيها، وتطمئن على أحوالي! والعجيب أن زوجة أبي الطيبة كانت تسمح لها بالمجيء إلى بيتنا، وزيارتي والجلوس معي طيلة هذه الساعة، ورأيتها بعيني في كل مرَّة ترحب بها، وتستقبلها وكأنها أختها وليست طليقة زوجها، بل وكانت تطمئن على أحوالها، وتقول لها دائما :

-         إذا واجهتك أي مشكلة في العمل أو في غير العمل اتصلي بي، وسوف أحلها لكِ على الفور، أنا أعتبرك أختي؛ وأريدك أن تعتبريني كذلك!

وفعلا بحكم كونها موظفة في مركز مرموق في المجلس المحلي، كانت تساعد أمي، وكانت سببا في نقلها من المدرسة النائية التي كانت تعمل فيها إلى مدرسة قريبة من سكنها.

كل أسبوع كانت أمي تأتي لرؤيتي، وتجلس معي ساعة كاملة، وكانت بعض الأمور الغريبة تحدث خلال هذه الساعة، ولم أكن أنتبه لها، ولكن تكرار هذه الأحداث المأساوية أثار في نفسي الخوف والتساؤلات، ففي إحدى المرات سقطت مروحة السقف وتحطمت، والحمد لله لم يكن أسفل منها أي واحد منا، وإلا لوقع ما لا تُحمد عقباه؛ وفي مرة ثانية انفجر جهاز التلفاز واحترق، وكاد أن يتسبب في إشعال حريق في البيت؛ وفي مرة ثالثة زوجة أبي المسكينة سقط على كتفها أحد المصابيح المثبتة في سقف المطبخ، وتهشَّم؛ وأصابها بجرح قطعي بالغ، وسالت دماؤها على البلاط  حتى أصبح لونه أحمر من كثرة الدماء!

وتكرَّرت هذه الأمور الغريبة المخيفة، في كل مرة تحضر أمي؛ تقع المصائب، ويتحوَّل البيت إلى مكان منكوب، لدرجة أنني بدأت أكره الساعة التي تحضر فيها ! وسمعت أبي ذات ليلة يخبر زوجته، وهو في شدة الانفعال، ويقول لها:

-         لن أنتظر حتى تقع مصيبة أخرى، لن أسمح لتلك المرأة المشؤومة بالدخول عندنا مرة أخرى، ليتني لم أستمع لكلامك عندما طلبتِ مني أن أسمح لها برؤية الولد ..

-         حرام عليك تحرم أم من رؤية ابنها، مهما حصل، أرجوك راجع نفسك في هذا القرار أكيد ما يحدث لا علاقة لها به .

في المرة الأخيرة التي رأيت فيها أمي، كنت أبكي، ورغم كل محاولاتها ومحاولات زوجة أبي لتهدئتي لم أكف عن البكاء، لدرجة أنني شعرت أن قلبي سينشق إلى نصفين! لم أستطع أن أكرهها رغم كل ما كان يحدث، وكنت قلقا جدا، وخائفا مما سيقع في هذه المرة، وفي هذه المرة  تم نقل أبي إلى المستشفى، إنهم يقولون أنه أصيب بهبوط حاد في الدورة الدموية، كان من الممكن أن يؤدي إلى وفاته! رغم أنه طيلة الأيام الماضية كان سليما معافى!

خرج أبي من المستشفى، وعاد إلى البيت، ولكن أمي لم تعد مرة أخرى، ولم أرها بعد ذلك، وسمعت من فترة أنها ماتت، ولم أحضر جنازتها لا أنا ولا أبي!

وبعد سنوات بينما كانت زوجة أبي الطيبة راقدة في فراشها، من أثر وعكة صحية تمر بها، عثرت صدفة على دفتر مذكراتها، لقد نسيته على المنضدة، رغم أنها كانت دائما تخبئه في صندوق مجوهراتها، وتحكم إغلاق الصندوق عليه!

صدمتني الخطط الشيطانية التي كانت تدبرها لتجعل من اليوم الذي تأتي فيه أمي يوما أسودا مشؤوما! وصدمني أكثر أنها لم تتورَّع عن إصابة نفسها أكثر من مرة، مرة بجرح قطعي في كتفها، ومرة أخرى في كف يدها، كل ذلك لتبدو أمي شيطانة في عيني وفي عيني أبي وفي أعين الجميع! ولم أصدِّق عيني وأنا أقرأ كيف دسَّت حبة الدواء لأبي في طعامه، تلك الحبة التي جعلته يُصاب بذلك الهبوط المفاجئ في الدورة الدموية!

ووجدتني أبكي بحرقة، وأجثو على ركبتي، وأنا أقرأ كيف أنها بواسطة وظيفتها المرموقة أفقدت أمي عملها كمعلمة في وزارة التربية والتعليم، واضطرتها للعمل بعد ذلك كعاملة نظافة في إحدى المستشفيات .


السبت، 1 أبريل 2023

قصة قصيرة ( القلعة ) للكاتب السوداني أحمد عجيب





طلقانة يابخيتة

قالها ببساطة وهى تصب له كوبا من الشاى

واصلت فى صب الشاى كأن الطلاق يخص احدى جاراتها

ولم يحمل وجهها الطفولى اى تعبير سوا كان غضب او تذمر

تقبلت الامر ببساطة وقامت بما تقوم به عادة كل صباح

من عواسة للكسرة وطبيخ والاهتمام بالصغار

ثلاثة اطفال هم حصيلة زواجها من الفاروق

والواقع ان الفاروق لم يطلق بخيتة وحدها فقط طلق والديه ايضا وقريته الصغيرة

فهو الان ليس ذلك الفاروق العاطل الذى يرابط فى المواقف مستجديا اصحاب الحافلات والبصات ليعمل لديهم

الان هو فاروقا اخر حتى انه طلق الالف والام من اسمه ليكون فقط فاروق

فاسرتة الصغيرة والكبيرة لم يستوعبوا نقلته الاجتماعية والاقتصادية المهمة واجتهد معهم ليرتقى بهم وفق تصوره

بناء لهم منزلا فخيما منزل لا يشبهه منزل فى قريتهم وملابس من الماركات العالمية واغدق عليهم بالذهب والمال

بيد ان كل هذا لم يحرك فيهم ساكنا فبخيتة مع كل هذا الذهب والثياب السويسرية والعبايات الخليجية ظلت بخيتة كما عرفها وتزوجها

ووالده لم تغير فيه الجلاليب الفاخرة والشالات المطرزة والجزم الجلدية من هيئتة شيئا

فهو مازال غفير المدرسة الثانوية

حتى بعد ان اجبره فاروق على الاستقالة

مازال الرجل غفيرا

ينادى الاعيان بسيد فلان

ويتنازل من كرسيه فى مناسبة لكبارهم كدأبه دائما

رجل بسيط محبوب قانع وقنوع

لم يتفاعل مع ثروة ابنه المفاجأة

بل يراها كارثة حلت بهم

ويتحاشى نظرات وتساؤلات القرية الصامتة

نفث فاروق دخان سجارتة الفاخرة وهو يسأل سائقه الخاص عما اذا اقتربوا من وجهتهم

: قربنا ياريس

ضحك فى سره من ريس فهو ايضا كان حتى وقت قريب سائقا لريس اخر

وقفت عربة حرسه الخاص امام منزل عتيق يبدو انه من الطراز الفكتورى

منزل يطلق عليه الاهالى القلعة

أسسه الجد عبدالحفيظ التاجر المعروف

رجل عصامى اسس امبراطورية تخصصت فى تجارة المحاصيل

ولا نشاط اخر له الا ان اسرتة لم ترضى بهذا الوصف المقل

فصنعت له تاريخ نضالى وكيف انه دعم الثوار ماديا وحتى انه قلعته استضافت بعض اجتماعاتهم

وبعض متطرفى الاسرة يدعون انه اعتقل وسجن نتيجة مواقفه من الاستعمار واكتشافهم لدعمه للمقاومة

والحق لم تصمد ثروة عبدالحفيظ كثيرا بعد وفاتة فقد تلاشت وتوزعت بين اولاده الذين لم يحسنوا ادارتها وتخطوا خط والدهم ليدخلوا عوالم اخرى غير المحاصيل

من معارض سيارت والشقق وكل استثمار يرونه مربحا وسريعا لتنتهى ثروتهم اسرع مما يظنون ولم يبق الا هذا المنزل العتيق كشاهد على النعمة والعراقة

نعم فهى اسرة عريقة ومعروفة ولم تضع هذة الصفة مع ما ضاع

ولذا قصدهم السيد فاروق فهم ينقصهم المال وهو تنقصه العراقة وفق ما يعتقد

وقد اشار له احد مسشارينه بهذا الراى

ان الزواج من عائلة عبد الحفيظ حماية له ومركز اجتماعى جيد

وقبل ان يتخذ هذة الخطوة استعان بخبراء فى مجالات شتى

فهناك كورس للغات فقط بعض الكلمات ليطعم بها كلامه متى ما استدعى الامر ثم كورس اتكيت تقوم به شابة

فى كيفية استعمال الشوكة والسكين وربطة العنق وتناسق الالوان

وحتى لون الجراب يجب ان يتسق مع القميص

السيد فاروق لم يكن تعجبه هذة التفاصيل صحيح انه يبحث عن نقلة توازى مركزه المالى لكن بدون هذة التعقيدات المملة

رحبت الاسرة بضيوفهم واجلسوهم على هول داخلى مطلى حديثا

فاروق يعرف تفاصيل المنزل من الداخل

يعرف انه لا اثاثات ملائمة عدا هذا الهول واغلب الغرف فارغة تحتلها الجرذان فقط الهول هو واجهتهم لاستقبال ضيوفهم او رصفاؤهم فى طبقتهم

مع عربة عتيقة اجتهدوا فى ان تكون مقبولة لحد ما

وكثيرا ماقررت الاسرة التخلص من المنزل فهو ثروة لا بأس بها يمكنها ان تعينهم

بيد ان خوفهم من الزحف بعيدا من طبقتهم لغى الفكرة

وهم يعيشون فقط على الاسم والتاريخ

فاروق يعرف كل شى فقد اشترى احد احفادهم ليكون عينه ويمده بكل صغيرة وكبيرة ولم يكلفه الحفيد اكثر من ان يفتح محفظته

تنحنح عم نجلاء والتى طلبها فاروق بالاسم وهو طبعا لا يعرفها ولم يراها بعينه

فالاسم والتفاصيل من المستشارين

وحسب مارشح انها مقبولة وعلى اعتاب الاربعين

تلقت تعليما اكاديميا جيدا وقد رفضت الاسرة مجموعة من الخطاب العاديين

لا يمكن ان يقدموا عراقتهم مجانا

تنحنح العم

وابتدر فاروق متسائلا

: لا قيت نجلاء وين؟

القى بالسؤال وقصد ان تكون رقبته لاعلى ناظرا لفاروق من اعلى

فاروق لم تفته هذة التمثيلية ويعرف ان العم لا يملك ثمن البنزين ليقود عربته

وانه يحتال ليختار شوارع امنة من الدائنين وانه متخفى من البنك بعد عجزه عن تسديد مرابحة

يعرف كل ذلك

ولذا لم ينزعج بل اشعل سجارة فاخرة ونفث. دخانها فى وجه العم مباشرة

: طيب ياجماعة نحنا نتكلم على بلاطة

غمز له مستشاره الخاص

وهى اشارة بأن ثمة خطا فى تصرفه

تجاهل غمزة المستشار وواصل

انا جيت لصفقة

لكن نقول زواج

وجاهز لطلباتكم كلها

من تسديد ديون الاسرة

واعمل معاكم مشاريع مشتركة

وعمنا ده عنده خبرة فى الشركات

امسك لى شركة بالنص

لازم نسابتى اكونوا فى مستواى الاقتصادى

تدخل عم اخر متهلل الاسارير وحاول ان يكون طبيعيا

ولا يليق ابدا بابناء الاسر العريقة ان تبهرهم المادة

تدخل قائلا

ده كله مابهمنا نحنا بهمنا الراجل واصله

: من الاخر ماعندى اصل

ولا ابوى شيخ قبيلة ولا عندنا اطيان انا اول زول فى حلتنا اشب لفوق

تدخل العم الاول منقذا الموقف

: كلنا لادم وادم من تراب

شخصيا بهمنى الرجل الدوغرى العصامى

: شوفوا ياجماعة

انا اكون صريح معاكم

عشان ماتقولوا لى ادينا فرصة نسال منك انا حاقول كل حاجة ونحسم الموضوع اليوم

موافقة او رفض

انا ما عصامى ولا دوغرى

ولو سالتو منى حيقولوا ليكم كده

انا انتهازى

يعنى بتاع فرص

كنت سواق للسيد مرين

دخلت معاه الكوميشن

عرفت نافذين

لاقيتهم فى المزارع الليلية كنت بسوق لمرين

المهم العالم ده دخلت معاه فى كل شى

من تهريب لمخدرات

: مادام حاسى بالندم ربنا غفور رحيم

هكذا افتى العم

: لا لا انا لا ندمان ولا تبت ولا ناوى

انا يادوب اتعرفت على اجانب ومسكت السكة الصاح

: لا حول ولا قوة الا بالله

رددها العم الثانى

وهو ينظر للمستشار الذى اعيته الحيلة ولم تجدى كل غمزاته فى اسكات فاروق

فتدخل المستشار

: فى تقديرى الشخصى....

ليقاطعه فاروق

اسكت.... انا عايز اسمعهم هم

واهو عرفونى على حقيقتى

عشان مابعدين غشانا والكلام ده

: ادينا فرصة

: والله لو مشيت تانى مابرجع

اجتمعوا الان وقرروا

اجتمعت الاسرة داخل هول اخر به فقط كنبات عتيقة وكرسى بثلاثة ارجل

كان اجتماعا صاخبا المشترك فيه الدفاع عن فاروق

وانه ضحية ظروف وربنا وحده من يحاكم الناس وليس من حقهم محاكمته

ثم انهم ومن خلال خبراتهم يمكنهم اصلاحه وتقويمه وينالون ثواب استقامته بدلا من طرده ليتمدد اجرامه

ان واجب اسرتهم كاسرة وطنية عريقة هو حماية امن البلد الاجتماعى والثقافى وحفظ عاداته وتقاليده

والواجب الان احتواء فاروق حتى لا يكون شرا مستطيرا

ارتاحوا جميعا لهذا الراى وانتخبوا العم الاول ليتحدث بأسم الاسرة

حمدالله العم وشكره واستهل خطابه بموافقتهم المشروطة على قبوله عضوا فى اسرته

وهو ان يترك تجارة المخدرات

اعترض فاروق على الطلب وليس من حق احد اى احد ان يفرض عليه رايه

ثم انه له التزامات فى السوق

استفسر العم الثانى

فى اى نوع من المخدرات يعمل!؟

ان كان الحشيش فهو لا بأس به صحيح يعاقب عليه القانون لكنه اعشاب مثله مثل اى عشب

وكثيرا من الدول تسمح باستعماله فى القهاوى

اراد فارق ان يؤكد انه يعمل على كل الانواع ولم يختار تخصصا محددا بعد

الا ان المستشار تدخل مباشرة ولم يكتفى بالغمز

قال المستشار

نعم نعم السيد فاروق يعمل على الحشيش فقط

مسح العم الاول على جبهتة بعصبية

وتحركت شفته ليقول شيئا ما

الا ان غمزة من المستشار اسكتته

لتنطلق زغرودة من داخل القلعة العتيقة

 









 

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة