قصة قصيرة
إيصال أمانة
بقلم عصام الدين محمد أحمد -الجيزة-مصر
إيصال أمانة
تضرب الطبول ، تدق الدفوف ، يذهب الحوار ويجىء،أضحت القعدة روتينا لا يفتقده الصخب، يرفع العُمدة نبرات تعليقه، الأعناق تشرئب، والآذان تنشده.
وأنور الجندي جالس فوق الدكة، ينتظر انفضاض مولد سيدى العمدة، فمُنذ شهر لم يغادر قعدته هذه فى مثل هذا الموعد.
مع المد والجزر والترقـُب يأتيان .. بخطي ذابلة، خطوة .. خطوتان ..نصف خطوة، ضجيج المزادات يعلو، وجيداهما مُكبلان بأطواق التعب، يقعدان .
ما الذي أتى بهما الآن ؟ !
عمومًا مجيؤهما فُرصة لإزاحة جبل الهم من فوق صدري .
أٌقول لهما :
أين فواتيركما ؟ !
يُخرِجُ ( غريب ) لفة فواتير، تتقلص أمارات وجهه، تتصلب أنامله على أطراف الفواتير، أقول :
للعمدة أحد عشر ألف جنيه .
ينهنه أسامة :
هذا الحساب غلط .
صاح العُمدة :
أين الخطأ ؟ ؟
هبط سكون الترقب، ربما يهدأ فوران الصدور الكظيم، أحضر أيمن النارجيلة، عموماً النارجيلة تعتبر حيلة جيدة وسهلة لالتقاط الأنفاس وللتفكير في كيفية الهروب من كمائن الموقف، لقف ( أسامة ) المَبسم شافطًا نفسًا عريضًا، فقد نفدت سجائره الأجنبية.
صوت أنور الجندي يرُجّني :
أ أنهيت كشف حسابي ؟ !
حسابك في الدفتر يا كبير، ورُبما يزورنا غواص البئر ويستخرج من جوفه أربعين رُزمة بأربعين ألف، قل أمين .
أتلفت بعيدًا تجنبًا لآثار قنبلتي، تجهم العُمدة ،يحتد :
النهار طويل يا أنور،( روح شوف) مصالحك أولاً، وفلوسك محفوظة، ياما أدنتك ولم أقف عليك كالديدبان !
الأدخنة تتما هي، يستنهض (غريب) الأرقام في ذهنه ،يضرب ويقسم ،يطرح ، يكُح ، يريل، ويجف حلقه ، دوشة في عقله، الدوائر الكهربائية في جهازه العصبي توش، أضحى أزيز الكهرباء سوطًا لاسعًا لخلاياه، الدوخة تصفد جبينه، والشيشة تفاقـم التوتر، ألم تسمع المحلل يشرح قائلاً :
نفس المعسل يطـُس الحلق، فتندفق الأدخنة من الفتحات، وخلال هذه الرحلة يتشابط الأدراك ويترنح .
ينظُر (غريب ) في وجه (أسامة)، يحثه على الكلام، يخرج الأخير نوتة من جيبه، يقلب الصفحات، ألمحها بيضاء، ركن الأولى ، طرح الثانية والثالثة، أسأله في غيظ :
أين حساباتك يا معلم ؟ !
كيف ربطت هذا المبلغ على نفسك ؟ ؟
لن يشفع لك أنك أخي حتى لا تدفع .
بنبرات هزيلة يقول :
موازين الفواتير أقل من موازين الباسكول بعشرين طنًا .
أنا حرامي وأنت مُغفل، أعندك اعتراض ؟ !
هكذا قطع ( العُمدة ) جسر المساومة، أنور الجندي يوبخ ابنه :
كل ما يقوله صدق .
و (الابن ) يتقول :
من الحكمة أن تصدق !
ها هي الأزمة تقتحمك يا فالح، ماذا ستفعل ؟ ؟
لا تملُك إلا أجرك الزهيد، والذي تلتهمه زوجتك مع طلعة كُل صباح، تربُط حزام الكفاف على بطنها طوال العام، تفك آزارها هذا الشهر، تخزن شُنط السكر والأرز والزيت والسمن، وظيفة الحكومة لا توفر إلا الخُبز الجاف، لا تسخر مني وتدعي أن العيش نَدُرَ وجوده ! .
توفر أجازاتك لتستنفدها في هذا الشهر، وتتحمل سخافات مُدير الإدارة، وتهكُمات وكيله، طيب يا سيدي لو دفعت أجرك ككاتب حسابات و (ريس ) فرقة رص البطيخ فلن تسد نصف المبلغ، وأجر الرجال- يا فارس – كيف تستوفيه ؟ ؟ .
آه ... عقلي كاد أن يتشظى وينفرط عقده .
(أسامة) يتأمل وجه (غريب )الجاف :
أتتركني أغرق ؟
(العُمدة ) يَمعِرُ :
قولوا : ما بقيت فلوس، وأنا ( مش ) عاوزهم، والله ما يسهل لكُم، فأنا طول عمري فريسة لنصب الأقارب، وليس في الأمر من جديد .
يشمر ( العُمدة ) كُمه، تنتفض عُروقه، يداعبه الهياج، يقلب ذاكرته المرتبكة :
{ أهل صباحاً وجيوبي فارغة، عشر رجال يمسحون لي الكرسى، تنقضى الساعات الطويلة فى كركرة الحشيش ولعب الورق،والهزار عمال على بطال ، أغادرالمحل وأوراق النقد تبز من سروالي، وفى كل المساءات أمارس حياة التسكع .هكذا يردد الحاقدون .
قال (مجلس الحى ) :
سوق روض الفرج يقبع في صرة البلد، يحتل مركز الدائرة، وجوده يُربك المرور والأخلاق.
قلت (للعمدة ) :
ندفع مقدم محل فى العبور .
للأسف (ودن ) من طين و (ودن ) من عجين .معتقدا أن المحكمة لن توافق على نقل السوق .حفاظا على هيبة الدولة ـ هكذا أذاعت وسائل الأعلام ـ نقلوه الى أطراف الصحراء.وأنتقل العُمدة الكبيرالى سوق ساحل مصر القديمة ،يستأجر محل (الجدى ) فى موسم البطيخ ،انهارت مملكته، الأعوام تمُر والحال لا يتغير ، من المنطق أن أثور، وأطرد كل الرجال؛أولاد العم والخال ؛ زعماء عصابة استنزاف العمدة، وأقصر تجارتي على عميل واحد، رجب استرلينى ،فلاح قرارى ،ولكي أنجح أحيل والدي للمعاش عنوة، أجبره على القعود في مقهى لا يتسع لبناء ديوان ولا حطب فيه لنيران حاتم الطائي، سنوات وتجارتي تتقلص حدودها، لم أندم على قرار اتخذته، فأنا المُغني الوحيد في الجوقة، أمكتوب على الغناء، من الوضع واقفاً، فلماذا لا أجلس على خشبة المسرح ؟ ؟ صوتي قوي فلماذا المسرح والجوقة ؟ ! الجمهور أيضاً لا يجيد السمع فدعك منه .
مــا جدوى الفلوس وزوجتي تنثرها كالرماد ! خلف جلباب العفة را قصة ، والآن الجميع يمد سكينه يبغي اقتطاع لحمي .}
زعابيب المزادات تهُب، البائعون يهرولون كأفلام الأكشن ،الأولاد يحملون البضائع فوق عربات نصف النقل وموسيقى الزعيق والسباب تملأ الجو بالمدارات الصوتية المُتقاطعة، و (عربي الجدي) يتعارك مع البائعين على فلوس الغفر، يساومونه ولكنه لا يقبل إلا المبلغ الذي حدده، يقبض المعلوم ويغافلهم ليسرق بضاعتهم، تتصادم العربات والغلبة للنوابيت الفتية والألسن العفية.
يتجه إلى ( العُمدة ) بكليته زاعقاً :
لا أعرف أحداً سواك، فأنت الوحيد المسئول أمامي .
ما قُلت لك أقرضهما هذا المال .
ما أعطيتهما إلا لمعرفتي إياك .
هراء ... لم تشرني .
بل أنت المُخطط لهذا الكمين .
هأ .... هأ .....
والآن أمض إيصال أمانة .
صمت ثقيل، الهواجس تهاجمني:
{ أطأ الأرض المزركشة ، تحتوينى الطاولة ، يسكن القلم أناملى.تنتكس الرأس ،تنكمش عضلات العنق ،تشت العينان ،تشع الحروف ،يلتهب الوجه ،يأمر القلم :
وقع هنا .
تتمدد الكلمات هلاميا ، تناضلنى الحروف ،أتحسس القلم تقليبا ،تهزل أصابعى ،تجابه الورقة عينى اليسرى ،تتشفع العين بالنقاط الملحية ، تنز الأنف بحيرة لزجة ، يريل الفم ،تنساب المياه ، تتجمع أسفل الذقن البارز ، أبحلق بين السطور ،أتناجى بإعياء:
أبعد هذه الخدمات أوقع على صك مديونية، فمنذُ مواسم بعيدة يتركني في الظهيرة بدون مليم واحد تاركاً رزمة فواتير لازمة السداد وقيمتها تتعدى مبلغ العشرين ألف جنيه، ألف كالنحلة مُستديناً المبلغ من معلمي العُهد، و (فرج )صاحب المطعم ، ولولا ثقتهم ما أقرضوني مثل هذا المبلغ" والآن مطلوب مني صك ورقة دين بمبلغ أحد عشر ألفً من الجنيهات والمعلم (أسامة) يسلب قوت أولادي، كل عام يغربلني وكأنه خلق – خصيصاً – لتأديبي،وأيضا تنصل ( غريب ) شريكه من الدفع ، يا داهية دقى ! }
تخشى الفضيحة، ففي بلدكم لا يعرفون هذه المُلابسات، ولن تجد عندهم سوى التشهير، فغراء العار يُلطخ ثوب العائلة، وأمك ستُلخبط مُفردات اللوحة بدموعها المدرارة، ستنشُر غسيلك الوسخ في طريق الشامتين ، ستتذكر قلبها المُنفطر وقلبي الحجري، أنتبه على صوت ( مدحت ) :
لن توقع .
يهينم (العمدة ):
وفلوسى ،أكلها الغراب وطار .
يقترح (مدحت ) :
اخصم له فلوس رصاصة البطيخ ، والباقى حين ميسرة .
أردد والفهم غائب : "
لو كان القاضى ينصف الشاكى ما كان الشاكى رجع باكى .
تمت بحمد الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق