Translate

الجمعة، 17 مارس 2023

قراءة الناقد اللبناني الكبير سليمان جمعة لنص قصة قصيرة جدا للاديب العراقي مهدي الجابري

 قراءة الناقد اللبناني الكبير سليمان جمعة

لنص
قصة قصيرة جدا للاديب العراقي مهدي الجابري
_________
تمن
وضب لابنه الكرسي، أجلسه، أخذ يتمايز به، رسم له مخططاً يؤمّن مستقبله.. استفاق وهو يتصببُّ عرقاً؛ قرر مراجعة طبيب العقم للمرة العاشرة عله يحظى بامتداد يخلده.
مهدي الجابري.. العراق
_________
///القراءة ///
معاناة العقم
تتحول الى هلوسة وتفرغ شحنتها في المنام او السرحان ..وكذلك في التفتيش عن مخرج في الطب احيانا وفي الخرافة احيانا التي لم يتبناها النص..
اذن نفس العقيم مشتتة متشظية تخاف من ان ينبتر نسله ولا يكون له امتداد ..ذلك يمليه عليه الواقع القبلي وحب البقاء والخلود .. فالبنية المعرفية هذه تفرض نفسها على تفكيرنا ووجودنا فنحاول ان نتغلب عليها بالنسل ..
والتكاثر ..وهنا اتخذت منحى واضحا ان الاب في تصوراته وضب له لغير موجود كرسيا وخطط لمستقبله ..وهذه ايضا تمليها بنية معرفية متخفية ..وهي ان الاهل يتدخلون في رسم مستقبل اولادهم ايكون لهم صورة او تعويضا لما لم يستطيعوا تحقيقه هم..فيسخروا طاقات اولادهم لهم ..لرغباتهم ..
وذلك في بنية اخرى تسمح باجتياز الحدود ..وذلك يكون في الحلم ..الذي يتجاوز الاشكاليات ويلغيها ..
والتكرار في الذهاب الى الطبيب هو لتأكيد فكرته ..ومحاولة للتغلب على عقمه..
هل حقق له المنام بعضا من امله ؟
هل اشكالية واقعية اذا تفاقمت سيطرت على الانسان حتى تتجلى في المنام ؟
النص يغوص في كشف المعاناة واقعا وتخييلا ..
وما تصبب العرق الا لغة النصب ..الذي يعانيه في الحالين ..
صاحيا وغافيا ..
وكذلك الامنيات قد تتحقق او لا تتحقق .لذا كانت صيغة الماضي تقول ان الامر حدث وانتهى واصبح الامر خبرا ..يمتد في الماضي ..وضّب...أجلس ...اخذ يتمايز .. "وهو يتصبب"
حال لاستفاق..اي ماض ..
ولكن العقم الخلقي قد لا يصلح .."وجعلناه عقيما".
او نهبه الذكور والاناث ..
قد تكون صورة ‏‏شخصين‏ و‏نص‏‏

الخميس، 16 مارس 2023

 

بَرَكة رمضان

تأليف / متولي بصل

من حسن حظه أن راتبه الشهري وصل جيبه في ذلك اليوم، حتى يستطيع أن يشتري سحور أول ليلة من رمضان، فهو موظف بسيط ولا يملك إلا هذا الراتب! لكن فرحته لم تدم طويلا ، فقد اصطدم بطفلة تحمل فانوسا، فسقط من يدها، وتفككت بعض أجزائه، وقبل أن تنخرط  في البكاء، انحنى ليلتقط أجزاء الفانوس، ويحاول إعادة تجميعها، لكنه فوجىء بأن بعض الأجزاء كُسرت، وأنه بعد تركيبه لم يعد ينطق ويردد ( حلو يا حلو رمضان كريم يا حلو) فانطلقت الطفلة في البكاء؛ لذلك أدخل يده في جيبه، وأخرج ورقة نقدية من فئة الخمسين جنيها، وأعطاها لها، فوجيء بها ترتمي في أحضانه وتعانقه وتقبل جبينه، ثم انصرفت بعد أن أخذت الفلوس، وتركت له الفانوس!

حمل الفانوس، ومشى، ولكنه عندما همَّ بشراء طعام السحور؛ فوجيء بأن الراتب غير موجود في جيبه، وفوجيء أيضا بأن جيبه مقطوع وكأنه مقصوص بمقص، لا يدري كيف حدث هذا! شعر أن الأرض تميد به فهو حتى لا يعرف من هذا اللص الذي سرقه! وحتى لو عرفه، كيف سيعثر عليه في هذا الزحام!

في النهاية عاد إلى بيته محزونا، ورغم الحزن الذي كان ينضح به، فرح أولاده عندما رأوا الفانوس وأخذوا يغنون ( وحوي يا وحوي رمضان كريم يا وحوي )

لكنهم بعدما سمعوا الكلام الذي يدور بين أمهم وأبيهم، عن سرقة فلوس الراتب؛ تجمعوا حول والدهم المسكين يواسونه، قال أصغرهم:

-         يا أبي لا تحزن، فربما يكون هذا هو الفانوس السحري، وعندما ندعكه، يخرج العفريت، ويلبي طلباتك، ويحضر لنا أموالا كثيرة! أكثر من الراتب الذي سرقه اللص .

ضحك أخوه الأكبر، وقال:

-         عفريت في رمضان! حتى لو كان هذا هو الفانوس السحري فلن يخرج العفريت لأننا في رمضان، والعفاريت فيه تقيد بالسلاسل .

سمع الرجل صوت تاجر الروبابيكيا يصيح وينادي كعادته؛ فقام من مكانه، وانطلق نحو غرفة النوم، وأخرج جهاز تليفزيون من تحت السرير، عاتبته زوجته قائلة:

-         هل ستبيع تليفزيون أبيك، لقد أوصاك قبل موته بألا تفرط فيه!

-         ليس أمامي حل آخر، إنها أول ليلة في رمضان، ويجب أن أشتري سحورا لنا وللأولاد.

حمل جهاز التليفزيون، وانطلق نحو بائع الروبابيكيا، قال له بتوسل:

-         أعطني مائة جنيه، وحلال عليك هذا التليفزيون الأثري، ولا يغرك أنه قديم، صدقني هو شغال !

-         ياه .. مائة جنيه، يا أستاذ إنه قديم جدا، ولا يساوي حتى عشرة جنيهات !

-         عشرة جنيهات فقط! يا أخي صدقني هو شغال، جربه إن كنت لا تصدقني !

أخرج بائع الروبابيكيا مفكا من طيات ملابسه، وبدأ يفك ظهر الجهاز، ليتأكد من محتوياته الداخلية، وبمجرد أن خلع الظهر؛ ظهرت لهما حزما كبيرة من المال من فئة الخمسين والمائة والمائتين جنيه! صرخ الرجل بأعلى صوته، واحتضن التليفزيون، وحمله وعاد مسرعا إلى بيته، وهو يهتف بفرح كالمجنون:

-         تليفزيون أبي حبيبي، وفلوس أبي، لا لن أفرط في تليفزيون أبي .

شروق قصة قصيرة جدا للكاتب المبدع / نجيب صالح طه الحميري( أمير البؤساء )_ اليمن

 قصة قصيرة جدا.

شروق
تمطت خراطيم الجهل من آباط الظلام، رقتها طلاسم ماض وقور، تعاضدت، تشكلت شبحا تلوى بأقدام
المضارع، تلت عليه طلفة حبلى تعويذة من نور ، تزينت السماء بأبناء الغد.
أ/ نجيب صالح طه الحميري( أمير البؤساء )_ اليمن.
قد تكون صورة بنمط رسوم متحركة ‏شخص واحد‏

تباريح قصة قصيرة جدا للكاتب المبدع / مهاب حسين - مصر


 قصة قصيرة جدا

تباريح
امتشقوا رايات تشبه عَلَمَنا،
أنكروا أنسابنا. صَفّونا ولقّموا بنادقهم. كلما أطلقوا رصاصة، نهض شهيد. لما فرغوا.. فاضت القرية بالناس!.
مهاب حسين / مصر.

بين ظل وضوء الواقع, قراءة في المجموعة القصصية (غبار الرفوف) للقاص الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف للدكتورة بيداء جبار الزيدي

 




بين ظل وضوء الواقع, قراءة في المجموعة القصصية (غبار الرفوف) للقاص الأستاذ الدكتور مصطفى لطيف عارف للدكتورة بيداء جبار الزيدي الدكتور الناقد مصطفى لطيف عارف في مجموعته القصصية (غبار الرفوف) راوي عليم يسرد من الواقع ما يذهلنا ويؤسينا في آن واحد, يأخذنا الى زوايا نعيشها كل يوم ولكنها في الظل عمداً, فيكشفها ويشاركنا فيها آلاماً مريرة, في هذه الاقاصيص الفكرة تدور حول نمطين من المصاعب الواقعية والأزمات العراقية, الأولى في ما قبل 2003 والثانية في ما بعد هذه الحقبة, لقد بدت هذه الاقاصيص وكأنها توثق تأريخ أو تسجل وتشخص وتنقل مآسي بوعاء سردي تتلبسه شخصيات متنوعة تعاني الظلم والاضطهاد والتهميش والأمراض النفسية والجنون أحياناً , وقد خصّ مدينة (الناصرية) جنوب العراق ببعض الأقاصيص في خصوصية النقل الحرفي ليجعل القارئ متأرجحاً بين الواقع والايهام باللاواقع لما فيه من مفارقات اليمة يصعب تصديقها. فتراه ينقل اسماء أماكن واقعية عن (الناصرية) كـ (حي اور) , (الشرقية).. او اسماء مقاهي , او اسماء شخصيات كرجل الدين المعروف بـ (ابو عفاف) .. أو اسماء مدارس مثل مدرسة (الجمهورية).. كما نجد دقة وصف الأجواء الاكاديمية فضلاً عن الأجواء التي يعيشها المبدعين والمثقفين والفنانين والعلماء والأدباء , وهذا يتأتى من معايشة بتفاصيل هذه الشرائح والوقوف على بعض المشاكل الاجتماعية والثقافية والسياسية فيها, مع حساسية إزاء هذه الاحداث والمفارقات والمآسي ونقل يشبه رصد الكاميرا والتركيز على نقاط من اللون وتكثيف الاضاءة عليها دون غيرها.. تمارس بعض الشخصيات في القصص دور الجلاد والضحية في وقتاً واحد, وهي وسيلة عرض للمشكلة والتبرير لها, او هي عرض للسبب والمسبب معاً : كما في قصة (اغتيال البلد) التي تعرض لمشكلة ثقافية اجتماعية تربوية اخلاقية وهي بيع الرسائل والأطاريح والبحوث الجاهزة بأنواعها العلمية والأدبية مقابل المال , وهذه الجريمة المخالفة للضمير كما ترد بشكل سؤال يجيب عليه البطل/ الضحية , مبرراً ومحتجاً بالفقر والبطالة بعد ان أحيل على التقاعد ومرضت زوجته وعجز عن سد اجورها الصحية: "لماذا تكتب الرسائل والأطاريح الجامعية مقابل المال؟.. أحلت على التقاعد منذ سنوات ولم احصل الى الآن على راتبي التقاعدي .. وعندي عائلة كبيرة زوجتي أصيبت بمرض السرطان ولا املك أجور عمليتها الجراحية ولم اتمكن من دفع اجورها حتى فارقت الحياة .. بلدنا ذبح بسكيت الجهل والجهلاء " ص133-134. ثم تداخل الشخصية التي تمارس دور البطل والضحية معاً المشكلة لتدفع عن نفسها هذه الجريمة تدفعها بأخطاء الآخرين ومشاكل اخرى لتبرر جريرتها : "ولماذا تحاسبني ولا تحاسب جشع الأطباء والصيادلة"
ويعرض القاص لمشكلة اخرى تتكرر في أكثر من قصة من قصص المجموعة وهي مشكلة " التعيين" بعد التخرج والحصول على الشهادة الاكاديمية لممارسة المهنة اذ ينال الشخصيات المظلومية العلمية والحيف الاجتماعي جراء الحرمان من ذلك , فمعظم الشخصيات عراقية غادرت للدراسة في جامعات عالمية وحصلت على شهادات الدكتوراة او شهادات في تخصصات نادرة ورفضت ان تهب عطاءها الاّ للعراق بلدها , فما ان تعود حتى تواجه بالتهميش والاهمال واللاتعيين , بل أكثر تلك الشخصيات تتجه الى القطاع الخاص او الى مهن لا تتناسب مع مكانتهم العلمية ودرجة وعيهم الثقافي : كبيع السكائر او سائق اجرة او صاحب محل تجاري او حمّال .. "حصلت على شهادة الدكتوراة من بريطانيا .. سوف لن تتعين حتى تنتمي الى جهة سياسية تلتزمك او تفتح محلاً تجارياً تعمل فيه اعمال حرة .. انا احمل شهادة علمية بالفيزياء النووية عرضت عليّ جامعتي في بريطانيا التعيين ومنحي بيتاً وراتباً مغرياً رفضت تلك الامتيازات وفضلت العودة الى بلدي العراق وجئت مسرعا كي اقدم خدماتي"ص23 ويداخل هذه المشكلة الكبيرة بمشكلة التشظيات والانتماءات السياسية وكثرة الاحزاب ومحسوبيتها لدى الادارة وتوزيع فرص التعيين بينها , فتشيع البطالة , ويلجأ البعض الى ممارسة مهنة مقابل "أجر يومي" لا يكاد يسد رمق الحياة: "سألتها انتِ تحملين أعلى شهادة جامعية وتعملين بأجر يومي؟ .. خرجت خائباً من واقعنا المرير" ص10-109 يميل القاص الى جعل البطل في اقاصيصه في الذروة من التفوق والرفعة وهذا من منطلق "والضد يظهر حسنه الضد" اذ يجابه بالتهميش والاهمال غالباً وربما بما لا يستحق من الاهانة بدلاً من التكريم والحفاوة كما في قصة (ذلة الأمل) , او في قصة اخرى: "أعلن رئيس هيأة التحكيم الفائز الاول.. وقلت تمنيت لو كان تكريمي في بلدي" ص129/ ص77 وغالبا ما تكون تلك الشخصيات بعد ان تعود الى البلد تُصعق بما تُقابل به: "تركت العراق لأكثر من ثلاثين عاماً .. أريد الذهاب الى مدينة الناصرية.. شاهدت الحفر والتخسفات في الشارع السريع والتي تؤدي الى الحوادث المميته والحفر الجانبية على الطريق" ص29-140 ولكن القاص في عرض بعض المشكلات يصاحب ويزاوج بين الظالم وحتفه. وهي نهاية وشيكة لكل ظالم عاجلاً ام آجلاً كما في قصة (فوبيا الضمير) وسميع الذي اختلس اموالاً من الدولة وفُصل , ولكن بعد الاحتلال اصبح (ملياردير سميع) ثم فقد عقله دون أن يهنأ بماله الحرام وتنتهي حياته بما جنى على نفسه من وارث لا يرحمه وهي زوجته التي تتنعم بماله الحرام: "دهسته سيارة مصفحة مسرعة من سيارات زوجته التي تقلها الى النادي , وانتهت حياته" ص154. وهذا المخبول وامثاله يتحكم في مصائر اولئك المجتهدون من اصحاب الكفاءات: "سأل نفسه سميع اليوم عندك دوام ومن الذي تعينه في وزارتك الجديدة؟ اجابه الوهم اليوم تعين الذي يدفع اكثر, تعين كل شخص يدفع مبلغاً كبيراً من المال ونجعله من الكفاءات واصحاب الشهادات العليا التي نحصل عليها من اصدقاءنا المقربين" ص154 ثم يعرض القاص مشكلة اخرى تناثرت حباتها الموجعة على أغلب الأقاصيص وهي (الارهاب والتفجير والاغتيال) الذي طال امن البلد ثم جاءت فتوى المرجعية لتعيد الأمن والامان وتخلص البلد من ظلمهم فهور يعرض جانب من الذين ضحوا بدمائهم الزكية من كل الفئات والاختصاصات الطبيب والاعلامي .. وليس الجندي فقط , ويصّور جانب آخر هو بؤس الضحايا من الأبرياء : "بكيت دما على شبابي الذي تلاشى .. عندما انفجرت العبوة قربه افقدته الحركة والنطق" ص120. "قُتل ملاك القناة الفضائية بالكامل ونحرت الحقيقة معهم "ص151. "ولدي الوحيد محمد الطيب الذي استشهد في ريعان شبابه عندما صدرت الفتوى المباركة .. للتصدي للدواعش"ص24. ويرسم القاص صوراً مؤلمة لأب يصف ابنه وقد زفته اليه سيارات الشرطة والاسعاف شهيداً مع ان زواجه الاسبوع المقبل, واخرى تصف اغتيال زوجها الدكتور اثناء عودته من الجامعة بسبب الصراعات الطائفية, وآخر اختطفته الجماعات الارهابية وعليه دفع الجزية والفدية لهم ويضطر ذويه لبيع بيته بثمن بخس من أجل انقاذ حياته. فيُسلم لهم مقطوع الرأس واليدين , والكثير من المشاهد المتنوعة على هذه الشاكلة من الألم : "يحمل سيفا كبيرا قام بضرب العسكري بقوة بتر يديه وقطع رأسه"ص126. "أعددت اطروحة جميلة تناقش الاوضاع توصلت الى نتائج مذهلة بينت حقيقة شخصيات بارزة في المجتمع العراقي .. هددت من بعض المتسلطين .. وقبل أن تصل الى قاعة المناقشة اغتيلت .. قدمت حياتها ثمنا لكشف المستور"ص33. ويعرض القاص لمشكلة الآثار النفسية التي خلفها النظام السابق اي قبل 2003 , والشخصيات تسترجع ذكريات ممضة تقترن بواقع اسوء : "رجعت بي الذاكرة الى الستينات عندما قرأت أول قصيدة .. اعتقلت وسجنت" ص128. كما يعرض لحقبة الثمانينيات حيث الحرب الطويلة, ومرحلة التسعينات حيث (الحصار الاقتصادي) : "اعتقل وحبس مدة زمنية كانت تهمته الانتماء الى جهة سياسية معادية بعدها اطلق سراحه بعد تحطيم نفسيته وترك عاهة دائمية في جسده.."ص82. ويعرض ما عانى الشعب من جوع وفقر مدقع جراء سنوات الحصار الاقتصادي: "لا نملك قوتنا اليومي.. اتذكر جيداً عندما اكلنا نشارة الخشب والحجارة التي تطحن لنا مع الطحين.. باع والدي ابواب بيتنا.. نساؤنا تملك عباءة واحدة ترتديها كل نساء البيت .. عانينا من الحرمان وتجبر المسؤولين في زمن الحصار الجائر .. وفي الليل لدينا (لالة) نشعلها .. نسمع الاخبار عن طريق مذياع قديم يعمل على البطارية.. هجم الحرس لاخماد الانتفاضة الشعبية التي ارادت الاطاحة بالنظام وهناك اطفال يسرقون الدوائر الحكومية"ص97. فضلاً عن الاعدامات آنذاك والتعذيب ومقارنة كل تلك المآسي مع ما يحدث, بعد 2003 حيث الموت بأشكاله المتعددة كالانفجارات في الاسواق والاماكن العامة: "المأسوف على شبابهما استشهد في انفجار سيارة مفخخة في سوق الوحيدات عشية العيد"ص102. كما يتعرض القاص الى الفوضى والاعتداء على الكادر الطبي: "ذهب سنان الى المستشفى ليلاً دخل عليه مجموعة من الاشخاص يحملون رجلاً مصاباً بطلق ناري قاموا بتطويق
كما يتعرض القاص الى الفوضى والاعتداء على الكادر الطبي: "ذهب سنان الى المستشفى ليلاً دخل عليه مجموعة من الاشخاص يحملون رجلاً مصاباً بطلق ناري قاموا بتطويق المستشفى وتوجيه الاهانات والاعتداءات على الاطباء.. حرقوا المستشفى وتم تدميره بالكامل وسجلت الجريمة ضد مجهول" ص9-54. كما يعرض القاص (واقع الثقافة الحالية) ومشكلة العزوف الثقافي عن المطالعة والاقتصار على الاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي: "المكتبة المركزية.. فوجئت بانها تحولت الى دائرة حكومية اخرى وانطمست اثار المكتبة والكتب والثقافة" ص71. ويصور القاص في نصوص اخرى كيف كان يتردد القراء على المكتبات وعلى مدار الاسبوع من المثقفين والشعراء والكتاب وطلبة المدارس في العطل الصيفية اما بعد 2003 فانحسر هذا الامر كثيراً مما يبعث الحزن. كما يعرض القاص مشكلة الحاق التهم بالآخرين خدمة لأهداف حزبية او طائفية او سياسية – ويعرض في القصص ضحية أُتهم بالجنون: "القي القبض على موظف معي اختلس اموالاً من الدولة. سجنت بدلاً عنه لم يصدقني أحد حتى عائلتي وزوجتي واطفالي وزملائي وجيراني .. وجدت نفسي في هذه المستشفى" ص184. فضلاً عن التهاون في محاكمة بعض المجرمين: "لماذا لم يتم اعدام هذا المجرم الخطير؟ اجابني لا توجد عندنا اوامر بذلك"ص170. كما تعرض القاص الى مشكلة ملاحقة من يتحرى (العدالة) وزج المجرمين بجرمهم : "ولم انت هنا مسجون مع المجرمين.. لأنني حكمت عليهم بالإعدام.. تم سجني هنا سنوات عدة واتهامي باني ابله"ص172. ويعرض لمشاكل اجتماعية اخرى منها (المخدرات): "هناك مجموعة من الطالبات .. تتعاطى المخدرات داخل المدرسة بصورة سرية"ص156. كما يتعرض القاص لتاريخ مدينة الناصرية في اشارات متعددة من معالمها الحضارية مثل: الزقورة, والاهوار: "انها اقدم بقعة على ارض البشرية ضمت بيت النبي ابراهيم عليه السلام.. في اعماق الاهوار الطيور من فوقنا .. والاوز .. والاسماك"ص167-168. كان القاص اذ يعرف مشاكل عراقية عامة نجد في اغلب الاقاصيص يكشف الاضواء عن (مدينة الناصرية) جنوب العراق ويحيطها بالخصوص كما تحيط الكاميرا بالاهتمام جزئية خاصة.

الأحد، 12 مارس 2023

أغبى زوج في العالم تأليف / متولي بصل

 

قصة قصيرة

أغبى زوج في العالم

تأليف / متولي بصل

      رغم أن الوقت متأخر جدا، والناس نيام، والشارع خال من المارة، توقف هذا الملثَّم، الذي يحمل صنارة ثبَّت في طرفها نصلا حادا، من يراه يظنه ذاهبا للصيد، لكنه كان واقفا يتطلع إلى شرفة إحدى الشقق في الطابق الأول من العمارة التي يقف تحتها، فَرَدَ الصنارة؛ فتضاعف طولها ما يقرب من سبع مرات، ثم رفعها إلى أعلى نحو الشرفة المقصودة، وطفق يحركها طلوعا ونزولا، محاولا قطع حبال الغسيل، وبعد محاولات كثيرة، جمع كل الملابس المنشورة على هذه الحبال، ووضعها في حقيبة كبيرة، ثم علَّقها في كتفه، لكنه وهو يخلع النصل الحاد من طرف الصنارة، جرح يده، فسالت منها الدماء، أخرج منديلا ورقيا ليكفكف بها دمه المسال، وفي نفس الوقت سمع وقع أقدام تقترب؛ فجرى ليختبيء في الظلام، خلف إحدى السيارات المركونة بمحاذاة الرصيف، لكن لسوء الحظ  داس على ذيل كلب نائم لم ينتبه لوجوده؛ فانتفض الكلب غاضبا، وأخذ يزمجر وينبح نباحا عاليا، فوجيء الرجل الملثم بعشرات الكلاب تخرج من تحت السيارات! وتشارك زميلها نباحه، بل وبدأت تدنوا منه بطريقة مفزعة، اضطر أن يجري بعيدا قبل أن تهاجمه، ولكن جريه حفَّزها أكثر على ملاحقته، وهو يجرى بأقصى ما يمكنه سمع أصوات أناسٍ خلفه تصرخ وتنادي ( حرامي .. حرامي ! ) أطلق ساقيه للريح، وظل يجري، وفي النهاية استطاع أن يهرب منهم.

ثلاثة ممن كانوا يجرون خلفه، عادوا إلى الشارع، ووقفوا تحت نفس الشرفة، والتقط أحدهم حبل غسيل ممزق، قال:

-         هل ننادي على صاحب الشقة ونخبره بأن الحرامي سرق ملابسه وملابس زوجته ؟!

-         يا أخي لا داعي لإزعاجهما الآن، فلم يمر على زواجهما أكثر من ستة أشهر، نذهب لنصلي الفجر، والصباح رباح.

في عصر اليوم التالي كانت الزوجة تحاول أن توقظ زوجها الذي كان يغط في نوم عميق، أخذت تصرخ فيه كالمجنونة، قائلة :

-         اصحى يا محروس! اصحى .. الحرامية سرقوا طقم الفرح، الطقم الجديد سرقوه، وسرقوا حبال الغسيل والملابس!

وهو يفرك عينيه، ويتثاءب، سألها متعجبا :

-         طقم الفرح! أي فرح؟!

-         فرح ابن عمي، حاولت تمنعني من حضور فرحه، وهددتني بالطلاق إذا حضرته، الله يسامحك .. الطقم انسرق يا فقري ! ضروري تقدِّم بلاغ في قسم الشرطة، اعمل محضر، ماما - الله يعطيها الصحة - نصحتني وقالت ضروري نعمل بلاغ لأن الحرامية ممكن يرجعوا ويسرقوا أي شيء، وممكن يقتلونا . .

سمعت رنين هاتفها الذي كان متصلا بالشاحن في حجرة المعيشة؛ فخرجت إليه مسرعة، ولم تلحظ ابتسامته، أو تسمعه وهو يردد متعجبا :

-         يقتلونا! والله ممكن .. تصدقي فكرة، سوف أجعلك تعيشين الرعب أنت والهانم مامتك .

سمعها تتحدث مع أمها، اعتدل قليلا فوق السرير، وأخرج يده من تحت الغطاء، كانت مربوطة بالشاش، ورائحة ( البيتادين ) تفوح منها، وهو يطمئن على يده، قال :

-         المهم ألا تحضري الفرح، وإلا وقعت الطلقة الثالثة.

صك أذنيه صراخ زوجته؛ فوثب من فوق السرير، وانطلق نحو الصوت، فوجىء بها تمسك حقيبة كبيرة فتحتها، وأخرجت منها الملابس التي كانت منشورة على حبال الغسيل، ومن بينها طقم الفرح، صرخ هو الآخر، وكاد يلطم وجهه بيديه، فمن شدة تعبه وإرهاقه ليلة أمس، نسى أن يخفي الحقيبة في مكان بعيد! انعقد لسانه، وطفق يحرك ذراعيه في الهواء مثل المجنون لا يدري ماذا يقول، وهو يخشى أن يفتضح أمره.


الجمعة، 10 مارس 2023

زلزال يوم القيامة تأليف / متولي بصل دمياط - مصر


 

زلزال يوم القيامة

تأليف / متولي بصل

دمياط - مصر

يقولون أن الإنسان وهو يُحتضر، يمر شريط ذكرياته أمام عينيه، ويرى أحداث حياته المنصرمة، وهذا هو ما حدث لي في هذه الليلة، كلما أغمضت عيني رأيت صورا واضحة من حياتي السالفة، ووجوها جُلُّها لأناس رحلوا عن الدنيا، حتى إنني أسمع حوارات مرَّت عليها سنوات، وأصحابها أصبحوا عظاما ورفاتا ! والأعجب من ذلك أن القطط في الخارج لا تهدأ، وتموء مواء غريبا، حتى كلب الحراسة الذي يحرس الفيلا القريبة، هو الآخر لا يكف عن النباح، يا إلهي ! هل هناك زلزال قادم سيدمر القرية ؟!

أحاول أن أُطمئن نفسي، لكي يهدأ قلبي الذي تتزايد سرعة دقاته بطريقة مفزعة، لدرجة أنني بدأت أسمع صوتها! لكن كيف السبيل إلى الهدوء والاطمئنان وأنا لا أستطيع النوم! ذهبت إلى المطبخ، وفتحت علب الأدوية التي وصفها لي الطبيب بالأمس لعلاج نزلة البرد التي أصابتني، وبدأت أقرأ النشرة الداخلية لكل دواء رغم صعوبة الأمر بسبب صغر حجم الحروف والكلمات؛ فربما يكون أحد هذه الأدوية هو السبب فيما يحدث لي، ربما سبَّب لي هلوسة بصرية أو سمعية ، لكنني لم أجد شيئا من ذلك، فهى مجرد أدوية عادية، وسبق لي أن تداويت بها أكثر من مرَّة؛ أعدتُ العُلب إلى الرف حيث كانت، دقَّت ساعة الحائط معلنة الثانية بعد منتصف الليل، وقفت حائرا لا أدري ماذا أفعل! أخشى إذا أيقظت زوجتي، أن يصيبها الفزع خصوصا إذا أخبرتها بمخاوفي، وأطفالي قد يقومون من نومهم مفزوعين هم أيضا، دقات قلبي أصبحت أسرع من أي وقت مضى! أشعر بآلام رهيبة في صدري، وكأن أضلاعي ستنفجر، كلا لن أوقظ زوجتي ولن أزعج أطفالي، سأذهب إلى المستشفى، وهناك الطبيب النوبتجي في الطواريء سيكشف عليَّ ويخبرني بما أصابني .

ارتديت ملابسي بصعوبة شديدة، وخرجت من الشقة على أطراف أصابعي، كنت أمشي منحنيا كالشيخ المسن، ويدي على صدري من شدة الوجع! في الطريق الزراعي الضيق، كانت القطط كأنما مسَّها جن، ونباح الكلب لا يزال يتردد في الجوار، أسمع أوراق الشجر الجافة تتكسَّر تحت قدمي، الطريق طويلة، ولا توجد  - في هذا الوقت المتأخر من الليل - أي وسيلة مواصلات، كان عليَّ أن أواصل السير حتى أصل إلى الطريق الرئيسي؛ حيث يمكنني أن أجد سيارة عابرة تنقلني إلى أقرب مستشفى، بعض الأشجار على جانبي الطريق تعرَّت من أوراقها رغم أننا لسنا في فصل الخريف ! مياه الترعة هبط منسوبها لدرجة أنني أرى القاع وما فيه تحت أنوار القمر، نقيق الضفادع - المنتشرة في الأراضي الخضراء الممتدة على جانبي الطريق - تتردد في أذني - الليلة - كلحنٍ جنائزيٍّ حزين !

مقابر القرية هناك على مرمى البصر، قبل الطريق الرئيسي، وفي وسطها مقبرة أهلي، سرَت في جسدي قشعريرة بسبب الصمت المخيف، ورهبة المكان، عاتبت نفسي قائلا ( ما الذي أتى بي إلى هذا المكان الموحش في ذلك الوقت ؟! ) من شدة فزعي كنت أصرف بصري بعيدا عن المقابر تجاه الطريق الرئيسي الذي أصبحت قريبا منه، لكن قوة خفية كانت تدير رأسي نحو المقابر ! توقفت فجأة عندما لمحت أنوارا تظهر ثم تختفي، كنت مرعوبا، لكن المكان الذي كانت تظهر فيه الأنوار وتختفي كان هو نفس المكان الذي فيه قبر أهلي، هل هذه أرواحهم؟! نظرت يمينا ويسارا لعلي أجد من يساعدني، فالخوف يكاد يقتلني، وفجأة سمعت صوتا حبيبا إلى قلبي، لا يمكن لأذني أبدا أن تنكره، لم يعد في القلب مكان للتردد، لا أستطيع تجاهل هذا الصوت، سأدخل بقدمي الجحيم - وليس المقابر -  إذا لزم الأمر ! لم أعد أشعر بأي ألم في صدري، ذهب الوجع الذي كان سيقتلني منذ قليل ! ووجدتني أهرول وسط المقابر حتى اقتربت من الأنوار، يا إلهي ! من أنتم، أيها - اللصوص .. أيها الكلاب .. ماذا تفعلون ؟!

كانوا ثلاثة، وبين أيديهم كفن، وضعوا فيه عظاما وجماجما ! التقطت فأسا كانوا يحفرون بها، وتركوها على شفير القبر، هويتُ بها على أحدهم، لكنه نجح في تفادي الضربة، المفاجأة جعلتهم يهربون رغم أنني كنت وحدي بلا معين، وبعد أن لاذوا بالفرار، أخذت أصرخ بأعلى صوتي :

-         يا كلاب .. يا لصوص! الله يلعنكم ..

القبر كان مفتوحا كبطن إنسان نزعوا منه أحشاءه ! لم أستطع أن أتمالك نفسي، وأخذت أدور حول الكفن والعظام، وأنا أجهش بالبكاء، بكيت أكثر مما بكيت يوم وفاة أمي، ويوم وفاة أبي، كنت أتساءل كالمجنون:

-         من هؤلاء .. وماذا يريدون .. هل وصل الأمر إلى هذه الدرجة ؟!

جسدي كله كان يرتجف، اقتربت برفق من العظام، وأخذت أتحسسها بيدي المرتعشة، وأربت عليها وكأنني أربت على صدر طفلي الصغير حتى يهدأ ويطمئن، وظللت أبكي حتى بلَّلت العظامَ دموعي، همست بصوتي المبحوح :

-         لا تفزعي يا أمي .. أنا هنا بجوارك، لن أتركك !

البريئة بقلم الأديب / متولي بصل دمياط . مصر

 

البريئة

بقلم

متولي بصل

كلما نظرت حولي شعرت أن الحياة مأساة كبيرة، وأكبر غلطة يمكن ارتكابها هى اتخاذ قرار خاطئ، ويبدو أن قرار زواجي كان أكبر غلطة في حياتي، الجميع كانوا يعلمون ذلك إلا أنا، ونصحوني كثيرا، لكنني كنت مبهورة بالهدايا التي كان يغدقها علي، مسحورة بمظاهر الرفاهية التي كان يعيش فيها، والتي سأشاركه إياها بعد زواجنا! كانوا مندهشين مني كيف بعد سنوات تعليمي الطويلة أوافق على الزواج من شخص لم يحصل حتى على الابتدائية! حتى ولو كان ابن أشهر تجار الحلويات في دمياط .

زميلاتي في المدرسة كل واحدة منهن كانت حريصة على أن تنهي حصصها؛ لتخرج وتعود إلى بيتها قبل موعد الانصراف، أما أنا فقد كنت أتعمد البقاء في المدرسة حتى انتهاء اليوم الدراسي، وكأنني كنت أهرب من البيت!

لكنني في الوقت نفسه تعودت على حياتي الجديدة،  وبدأت أتقبلها رغما عنِّي، صحيح أن الضرب إذلال للإنسان، لكن الذل الأكبركنت أراه في شماتة الشامتين، فلا أريد أن يشمت بي قريبٌ أو غريب ! ومن العجيب أنني كنت ألتمس له الأعذار، فقد كان قبل الزواج شخصا آخر؛ كان ملاكا، أو ربما كنت مخدوعة، لكنني على يقين من أن الشرب ولعب القمار هما اللذان جعلا منه شيطانا، اللعنة على رفاق السوء الذين جعلوه على هذه الصورة البشعة . ذهبت ثروته التي ورثها من أبيه أدراج الرياح، وأصبحنا نعيش في شقة أدفع أنا إيجارها من راتبي الشهري، أما هو فلا يزال رغم ما حلَّ بنا من بلاء وفاقة، يشرب ويلعب القمار! 

من شدة ما أنا فيه من كرب، عرضت عليه أن ننفصل بالمعروف، فما كان منه إلا أن جلدني بالحزام، حتى تشوه جلد ظهري، وهددني بتشويه وجهي بماء النار إن فكرت في الطلاق أو حتى الخلع ! كنت أعرف أنني لو ذهبت إلى الشرطة فسأنال حريتي، وسيدخل السجن، لكنني كنت أخشى على نفسي وعلى أهلي الطيبين مما سيفعله بنا هو ومعارفه الذين على شاكلته.

مرَّت سنتان حرصت فيهما أن أظل وحدي ضحية قراري، حتى عندما كانت تعن لي بادرة حمل كنت أجهض هذا الحمل بكل الطرق .

 منذ شهرين تقريبا، جاءت المدرسة عاملة جديدة، هى الوحيدة التي استطاعت - دون قصد منها - أن تخرجني مما أنا فيه ! كانت تتكلم وهى تمشي وكأنها تكلم نفسها، وتوجه لي الحديث حتى ولو كنت لا أعيرها أي اهتمام، وشيئا فشيئا وجدتني أستمع لثرثرتها اليومية ! وكنت كلما تأملت حالها، تصبَّرتُ على حالي

كل يوم أجد نفسي مجبرة على الاستماع لما تقوله هذه المسكينة، رغم أن كلامها مكرر، وتردده باستمرار، ولا أحد من زميلاتي أو زملائي يهتم بسماع شيء منه، رغم حرصهم على تقديم المساعدات لها .

وهى تتكلم أهز رأسي حينا، وأنظر إليها حينا، رغم انشغالي بكتابة الدروس في دفتر التحضير، أحاول أن أشعرها بالاهتمام، اعتقادا مني بأنها تحتاج للدعم المعنوي - مثلي - كما تحتاج للمساعدة المادية، وربما أكثر.

ويبدو أن إظهاري بعض الاهتمام لما تقوله؛ كان يفتح شهيتها للكلام، ومن خلال كلامها عرفت أنها لم تصل للثلاثين بعد! رغم أن من يراها يظنها في الخمسين من عمرها، من كثرة التجاعيد والخطوط التي حفرتها معاول الشقاء على وجهها، كل يوم كانت تأتي بثوب جديد، وجديد هنا ليست بمعناها الحرفي، فكل ثيابها قديمة بالية، لكنها كانت تأتي كل يوم بثوب غير الذي ارتدته في اليوم السابق، تحاول بقدر الإمكان أن تتكلم بالفصحى، رغم أنني أنا وزميلاتي لم نكن نتحدث بها إلا داخل الفصول عند شرح درس ما، كما يحلو لها أن تتقمص دور المثقفة رغم أنها توقفت في سلم التعليم عند الصف الثاني الإعدادي! ولم تهتم بالقراءة أو الاطلاع لتعويض ذلك .

سألتها ذات مرة عن زوجها، فابتسمت ابتسامة عجيبة بلهاء، وقالت :

-         طفشان .. ترك لي " صابر " و " صابرين " وطفش، وأصبحت مجبرة يا مس إني أعمل وأشتغل، ويكون لي مصدر دخل من المدرسة، أو من جمع الخردة .. صحيح الناس أسمعهم يقولون عني  " أم صابر " الزَبَّالة، لكن الزِبالة كلها مكاسب .

دائما تشتكي من اضطهاد مدير المدرسة لها، وغروره وتعاليه عليها، ورغم ذلك فهى مجبرة - على حد قولها - ألا تترك العمل في المدرسة، وذلك حتى لا تُحرم من المساعدات المادية والعينية التي تحصل عليها من المدرسات والمدرسين، وبعض أولياء الأمور من أصحاب القلوب الرحيمة.

-         أمسح الحمامات، وأكنس الفصول، والفناء، وأنظف المدرسة كل يوم، وأكنس وأمسح مكتبه، ثم يعطيني مائة جنيه في الأسبوع! ويهددني بالطرد لو اعترضت .. مائة جنيه يا مس، والله العظيم ابني " صابر " في الأجازة صاحب الشغل كان يعطيه كل أسبوع مائة وثمانين جنيه أجرة عمله، تخيلي حضرتك ابني في رابعة ابتدائي، أجره أكبر من أجري ! هو المدير فاكر إني جاهلة! لا .. أنا متعلمة ومثقفة، وأعرف أحسب، لكن ظروفي صعبة ..  صعبة جدا .

كلامها كان ينسيني مأساتي؛ لذلك كنت ألهي نفسي بالاستماع إليها، وقد فاجأتني اليوم بحكاية جديدة، فقد قالت :

-         والله العظيم يا مِسْ بالأمس كنت أجمع علب ( الكانز ) الفارغة، ووصلت عند كازينو على الكورنيش، وسألت إذا كان عندهم ( كانز ) أو حتى علب كارتون أبيعها لتاجر الخردة؛ صاحب الكازينو تأثر، ومن شدة تأثره أعطاني كرتونة ( كانز ) ممتلئة، أشرب منها أنا وأولادي، ونبيع الفارغ خردة للتاجر! على فكرة يا مِسْ بيع الخردة مكسبه كبير، كيلو الكانز بعشرين جنيه ! يعني خمسة كيلو بالمائة جنيه التي يرميها لي حضرة المدير المغرور!

ضحكت وأنا أسمعها تصف المدير بالمغرور، وقلت لها :

-         واضح إنه أصبح بالنسبة لكِ عقدة ؟!

ابتسمت ابتسامتها العجيبة، وقالت :

-         عقدة! مصيبة، كل يوم الناس كلها تخرج من المدرسة، إلا أنا بحكم من حضرة المدير قراقوش  ضروري أعمل لحضرته شاي أو نسكافيه، أو قهوة، وأشتري له علب السجائر، وبعد ما حضرته يخرج من المدرسة العصرأو بعد العصر؛ أقوم أتمم على الأبواب كلها وأقفلها !

-         معقول يا " أم صابر " أنتِ وهو وحدكما والشيطان ثالثكما !

-         يا مِسْ لا شيطان ولا يحزنون، " أم صابر " بالنسبة له عاملة نظافة، يعني زَبَّالة، أو تقدري تقولي خدامة .

-         الله يعينك !!

-         تشكري يا مِس! والله العظيم ساعات الشيطان يكون موجود فعلا !

-         معقول !!

-         ويقول لي ( كلمة في سرك يا مِسْ ) أضيف له في الشاي مع السكر حبة أو حبتين من سم الفئران، لكن خوفي على نفسي وعلى أولادي يمنعني في آخر لحظة، فأقول ( الله يخزيك يا شيطان .. الله يخرب بيتك يا شيطان أنت والمدير في ساعة واحدة ) .

وأنا أضحك من كلامها وأسلوبها في التهكم من المدير، ولثوانٍ معدوداتٍ تخيلتها خلف القضبان ووكيل النيابة بأعلى صوته يقول لكل من في قاعة المحكمة :

-         انظروا إلى تلك المرأة الماكرة اللعوب، التي يسهل عليها استدرار عطفكم، إنها قتلته ببشاعة دون أن يرمش لها رمش !

سماعي لثرثرة ( أم صابر ) كانت بالفعل تخفف عني الكثير من التوتر والضغوط النفسية التي كنت أعاني منها في هذه الفترة الصعبة، لا سيما أنني أصبحت أعيش في جحيم لا يُطاق، لكنني مشلولة الإرادة، ولا أستطيع اتخاذ قرار بالفرار والنجاة منه !

وذات صباح وأنا في طريقي إلى المدرسة؛ صدمتني سيارة يبدو أن سائقها كان سكرانا مثل زوجي، فلم تأخذه بي أي شفقة، ولم يتوقف حتى ليطمئن على هذه الروح المسكينة التي كاد يرسل بها إلى الأخرة!

نُقلت إلى المستشفى، وظللت محجوزة هناك أياما، ثم نقلني أهلي عندهم لرعايتي، حتى أسترد عافيتي، وعندما عدت إلى شقتي لم أتحمل، فقطعت أجازتي المرضية، وعدت إلى المدرسة؛  فوجئت بخبر اختفاء المدير، هذا الخبر الذي وصلني من زميلاتي - من قبل - وأنا في بيت أهلي، لكنني كنت لا أزال أعاني من آثار الحادث فلم أهتم، وحسبته في أجازة مرضية - كما حدث لي - أو في مأمورية طويلة، أو تدريب، لكنني عندما عدت إلى المدرسة؛ فوجئت بأن الجميع يتحدثون عن اختفائه الغامض،  ويرجحون أنه قد قتل! ويقولون أن الشرطة بحثت عنه في كل مكان لكنهم لم يعثروا له على أي أثر! ولا يزالون يبحثون ولكن دون جدوى .

لا أحد يعرف أين ذهب ! حتى "أم صابر" عندما سألتها ؛ ارتسمت على وجهها ابتسامتها البلهاء تلك، وقالت وهى تهز رأسها بطريقة عجيبة :

-         أكيد طفشان يا مِسْ .. عنده خمسة أولاد محتاجين مصاريف، والعيشة صعبة، أكيد طفش !

لا أدري لماذا بدأت أشك في أن " أم صابر " هى التي قتلت المدير، وأخفت جثته، بل وبدأت أشك أيضا أنها كانت قد قتلت زوجها، وأخفت جثته بنفس الطريقة ! إلى هذه الدرجة تستطيع امرأة أن تقتل شخصا، وتخفي جثته، ولا تترك أثرا يدل على جريمتها ! رجال الشرطة أنفسهم حتى الآن لم يعثروا عليه، إنهم حتى لا يعرفون إن كان قد قُتل أم لا يزال على قيد الحياة!

تلك الداهية يظنها الجميع مسكينة بلهاء، بينما هى في الحقيقة سفاحة لكنني أعذرها، فالحياة قاسية، وليس أمام المرء فيها إلا أحد خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن تكون ظالما، أو ترضى بأن تكون مظلوما، وهى اختارت أن تكون ظالمة

لقد قتلت زوجها لأنه كان يضطهدها، واليوم قتلت مديرها لنفس السبب، ربما هى ليست ظالمة، إنها فقط امرأة حديدية تخفي حقيقتها خلف تلك الهيئة الرثة والثياب المهترئة .

قررت أن أستعين بها في التخلص من سبب بلائي، حتى أستريح وأهنأ بعد شقاء؛ لذلك طلبت منها أن تأتي لتنظف شقتي وتمسح السلم، وعرضت عليها أجرا لا تحلم به، فوافقت على الفور.

وهى تجلس معي في غرفة الاستقبال، رأيت الدهشة وعلامات التعجب ترتسم على وجهها، فالشقة نظيفة، والسلم يلمع أكثر من سلالم المدرسة التي تمسحها كل يوم ! لم أضيع وقتا، وفاتحتها بالأمر، وأخبرتها أنني سأدفع لها ما تطلبه وأكثر، وبأنني سأعينها في تنفيذ المهمة، وأكَّدت لها أن أهم شيء عندي هو إخفاء الجثة، والتخلص منها، لكنها للأسف رفضت، وأخذت تصرخ وتصيح في وجهي، وهى تنكر أي صلة لها بمقتل مديرها أو زوجها، بل ودفعتني بقوة جانبا، وانطلقت نحو الباب، وهى تصرخ باكية:

-         أنا بريئة يا مِسْ، والله العظيم بريئة، حرام عليكي تتهميني، أنا لا يمكن أقتل فرخة حتى ..

يبدو أنني - كعادتي - أسأت التقدير، كيف سأتخلص منه الآن بعدما أطلعت تلك اللعينة على سري الدفين ؟! ربما يجب علي أولا أن أتخلَّص منها قبل أن أتخلَّص منه، إنها ثرثارة، ولا يقر في صدرها سر، ولكن قبل أن أفعل ذلك يجب علي أن أعرف كيف تذيب كل اللحم والعظم، ولا تترك أي أثر !

في اليوم التالي، وبعد انصراف الجميع، نزلت " أم صابر" كعادتها لتمسح دورات المياه، كدت أتراجع عما انتويته وأنا أتابعها من فتحة باب الحمام الذي اختبأتُ فيه، هى فعلا مسكينة، كدت أبكي وأنا أراها تمد يدها في إحدى بلاعات الصرف الصغيرة، لتخرج منها قطعة قماش كانت تسد مجرى المياه، كان الإجهاد واضحا عليها، والعرق يسيل منها بغزارة، فتمسحه بأكمامها الملوثة بمياه الصرف، الحبل الذي سأخنقها به سقط من يدي رغما عني، التقطته، وتابعتُ مراقبتها في انتظار اللحظة المناسبة لإنهاء الأمر، كنت على ثقة من أنه لا يوجد في المدرسة - في هذا التوقيت - إلا أنا وهى، فجأة رأيتها تترنح، وتسقط على البلاط ! أصبحت ممدة على الأرض بلا أي حِراك، وكأنها فقدت الوعي، ظللت في مكاني وراء باب الحمام ولم أتحرك، مرَّت دقائق ولم تأتِ المرأة بأية حركة، أتكون قد ماتت ؟! لم يعد بإمكاني البقاء أكثر من ذلك، فخرجت من مكمني، تحسست يدها ورقبتها لأبحث عن أي نبض، ولما تأكدتُ أنها حية، أخذت أرش وجهها بالماء لتفيق، مع أن وجهها كان ينضح بالماء والعرق! يبدو أنها في غيبوبة، ماذا أفعل؟! بضغطة بسيطة على عنقها، ستموت، يمكنني أن أكتم أنفاسها! لكن يدي لا تطاوعني، لست قاتلة، أجهشت بالبكاء، وأنا أحاول حملها، وجرِّها للخارج، جريت نحو الباب الرئيسي للمدرسة، بعض الباعة الجائلين كانوا لا يزالون في أماكنهم أمام المدرسة، استغثت بهم، طلبوا الإسعاف، وتم نقلها للمستشفى .

لا أعرف كم مرَّ من الوقت، وأنا أجلس بجانبها على أحد الأسرة، أخبرني الطبيب بأنها غيبوبة كبدية، فالمسكينة لديها تليف كبدي كبير، كما أنها تعاني من فقر دم وأنيميا .. ولديها مشاكل أخرى، حتى أن الطبيب قال متعجبا :

-         أنا مندهش جدا، هذه المرأة لا يمكن أن تكون على قيد الحياة، فلديها مجموعة أمراض، كل مرض منها كفيل بقتل فيل!!

عندما عدت إلى شقتي، كان الوقت متأخرا، حاولت أن أشرح له، لكنه كعادته لم يترك لي فرصة للكلام، دفعني بقوة نحو المرآة؛ فتهشمت، وتناثر زجاجها في كل مكان، وشُجت رأسي، وسالت منها الدماء بغزارة، على التسريحة مقص حديدي متوسط الحجم، لا أدري كيف وصل إلى يدي، ولا أدري إلى الآن كيف استطعت أن أغرسه في عنقه، الأمر يبدو لي كحلم مزعج أو كابوس، لا يمكن أن تكون كل هذه الأحداث حقيقية!

في قاعة المحكمة، وبعد مرافعات ومداولات، وقبل أن يصدر الحكم، شاهدت بعينيَّ مدير المدرسة بين الحاضرين! " أم صابر" كانت قريبة من القفص الحديدي، أشرت إليها لتقترب مني، فاقتربت، سألتها بذهول :

-         لم تقتلي المدير ؟!

اغرورقت عيناها بالدموع، وقالت هامسة :

-         يا مِسْ، المدير كان محجوز في مستشفى في رأس البر، ومحفظته بالفلوس بالأوراق واحد ابن حلال سرقهم، أنا بريئة يا مِسْ

-         معقول أكثر من شهر وهم يبحثون عنه

ابتسمت ابتسامتها البلهاء، وهى تقول :

-         في المستشفى الداخل مفقود، والخارج مولود، اسأليني أنا يا مِسْ .

تأليف / متولي بصل - دمياط . مصر

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة