Translate

السبت، 18 ديسمبر 2021

فوق الجسر الإيطالي... -قصة قصيرة- بقلم / إيثار محسن/العراق

 

فوق الجسر الإيطالي... -قصة قصيرة-
بعد إنقضاء نهارٍ روتيني مُضنٍ، تبدأ رحلتي شبه اليومية عند المغيب لصعود الجسر الإيطالي الواقع ضمن حدود منطقتي السكنية على ضفاف شط العرب ، رحلة الصعود بلا شك ممتعة، فأطلالته العالية التي تصل لخمسة وثلاثون مترا، تتيح لي الرؤيا الأخاذة للشط العريق بلونه الأخضر الفستقي. أما المدينة فانها تبدو كجوهرة نفيسة متلألئة. مشهد الغروب ساحر في فصل الشتاء، فالسُحب الركامية البيضاء تأخذ لونا قرمزيا قاتما، التدرجات اللونية للسماء تبدو أكثر صفاء من أي وقت آخر، قرص الشمس البرتقالي المنحدر نحو الافق، يعلمنا بأن نهارًا آخر على وشك أن يودعنا ولن يعود ثانية .
أثناء صعودي للجسر في الثلث الأول من المسافة، تتسارع نبضات قلبي، ويضيق تنفسي، نتيجة للجهد المبذول في الصعود.. لا يزعجني هذا الشعور، بل عل العكس ، ينتابني إحساس كأنني على جناح غيمة والأرض كلها تحت نظري بينما أنفاسي تؤكد لي بأنني ما زالت على قيد الحياة ..
أستمر بصعودي لأقرأ كتاباتٍ على الجدران الكونكريتية بصباغ أسود شوه طلاءه الأبيض، صبوا بفعلتهم تلك سواد أيامهم على صفحة بيضاء من هذا العالم، لم يكن أمامهم إلا أن يفرغوا شحنة الطاقة تلك بعبارة «أحبك نونة»...«نونة +فاضل= رسمة قلب مغروساً بسهم العشق» أو أنا وأنت للأبد وثالث كتب ..هنا التقينا ..
أكمل صعودي لأعلى جسر الفلتة .. آه..!!! ماذا قلت؟ جسر الفلتة ههههه...
نسيت أن أذكر أن جسري هذا له ثلاثة أسماء إسم الفلتة هو إسمه الحركي .. إكتسبه منذ اليوم الأول أثناء حفل إفتتاحه من قبل محافظ البصرة السابق، حيث قدم خطابه الموجه للأهالي تبعه إعلان بالإستقالة من منصبه واعدا الناس أمام الله بأن يكون مواطن خادم لمدينته، انتهى الخطاب بالتحية والسلام قابله تصفيق حار من أبناء البصرة ، بعدها مباشرة توجه لعبور الجسر إلى الضفة الأخرى من شط العرب نحو جهة الشرق، ليَفُلت بنفسه من كل وعودٍ قطعها أمام الله وأمام الشعب البصري، رحل بلا عودة.
وأنا اقرأ اللافتة التي كتب عليها جسر الشهيد محمد باقر الصدر، أثار هذا الإسم تساؤلا في نفسي، لماذا تسمى الصروح والشوارع والساحات في بلدي بأسماء الشهداء؟..
لكن الناس أختارت الجسر الإيطالي إسما أخيرا له لعلها بذلك تريد أن تهرب من كل ما يذكرها بالموت ..
وصلت للمنتصف .. هنالك دورية للشرطة تقف على يمين الجسر ، توقفت لأخذ قسط من الراحة أحدق في النهر وأمواجه المتجه نحوي ونسائمه التي أنعشتني بينما الزوارق الصغيرة تتأرجح على صفحته غير عابئة بأي شيء ، لكن ثمة صوت قطع علي صفاء تلك اللحظات وسرق مني فرصة التأمل التي كنت أمني نفسي بها .. أنه أحد أفراد الشرطة المكلفين بحراسة الجسر .. تقدم نحوي بحذر، وقال مبتسما بإستحياء:
- عذرا هل من خطب؟
إستغربت سؤاله؟ فقلت متساءلة بعد أن لفت نظري بوسامته وأناقته:
- هل إرتكبتُ خطأ ما؟
رد قائلا:
- هو إجراء احترازي خوفا من محاولة إنتحار... إن وقوفك عل الجسر متأملة مدعاة للشكوك
قلت له:
- لو كان الواقف مكاني رجلا، هل كنت ستسأله؟
ظل يحدق فيّ متفاجئا من سؤالي فقال بصوت تغيرت نبراته:
- الموضوع ليس له علاقة بكونك امرأة ..
قلت:
- بماذا إذن ؟
- شهد الجسر حالات انتحار عديدة في الأسابيع الماضية ..
- اطمئن... لن أنتحر ..
أنسحب الشرطي من أمامي وهو يشعر بالرضا، أكملت بعض خطوات، ثم عدت أدراجي مرورا به، قلت له:
- شكرا لأنك أحلت بيني وبين قرار الإنتحار..
. فتح عيناه، فاغرا فاه، قائلا:
- وهل كنت ستفعلينها؟
غمزت له.. إن نعم.
فأطلق قهقهة في الهواء، وهبتها له بالمجان بينما نظراته تسألني .. هل تأتين غدا؟؟...
ما أسرع الغد .. لقد أتى ليسرق يومًا آخر من حياتنا ... عدتُ إلى الجسر وكأنني أعود لشيء يجعلني أشعر بالسعادة .. أجمل ما في رحلتي هو استمتاعي بالصمت المطبق .. طالما أذهب وحيدة دون رفيق يؤنسي .. لكن هل حقا أنا صامتة؟
ضجيج هائل من الأفكار يتزاحم في رأسي .. كل فكرة تنافس أختها حتى تحظى بالإهتمام أكثر من غيرها .. كم المشاعر لا حدود له .. شعور بالمحبة يغمرني تجاه مدينتي بأسرها .. كم اعشقها .. عذبة في كل شيء.. في أرضها وسمائها .. صوت طائر السنونو قطع سلسلة أفكاري .. عجبا!!! أصوات العجلات الكبيرة والصغيرة منها لم تفعل ما فعله هذا الطائر في جذب انتباهي .. إن للجمال سطوة على قلوب محبيه. عند المنتصف .. دورية الشرطة بدأت تنتبه لي .. تجاهلتها تماما وانشغلت بأخذ نفساً عميقاً من الهواء الطلق .. لكن بدا الأمر مستحيلا أن أختلي بنفسي في هذه النقطة بالضبط .. فقد عاد الشرطي الذي رأيته بالأمس ليقترب مني .. أدى التحية هذه المرة بجراة أكبر مبتسما قائلا:
- سلام عليكم .. توقعت مجيئكِ اليوم.
رددت التحية .. خجل ظاهر وفرح مخفي وأنا أقول:
- كيف لك توقع ذلك ؟
- إحساس راودني بأنك سوف تأتين ..
- هل يراودك هذا الإحساس لكل من يمر من هنا؟
- بالطبع لا !! ...
صمت قليلا كأنه يبحث عن كلمات هربت منه ... أطرقت رأسي خجلا.. عيناه تغمرني بنظرات آسرة أما تلك اللمعة التي رأيتها تتسلل منهما ألجمت لساني .. بحرا من الكلمات تسرب من خلال العيون ولا قارب نجاة ينجينا .. أخذت العيون زمام الأمر، قصة حب بدأت من أعلى نقطة في الجسر الإيطالي.
هكذا دائمًا يفعل الحب.. يختار العاشقين دون مراعاة لأي ظروف زمانية ولا مكانية ولا أي معايير أخرى .. بعد أن اشتعلت شرارة الحب بيننا .. طرنا فوق الغمام .. رأينا العالم من منظار أوسع .. قلوبنا وسعت كل حب العالم .. بهذا الحب نشفي كل جروحنا .. آلامنا و عذاباتنا .. نهب العالم معنًا جديدًا .. نصبح أقوى في درء مشاكلنا .. وأقدر على تحقيق أمانينا .. لا ينبت الحب إلا بأرض خصبة .. رجولة مطلقة تقابلها انوثة خجولة .. مع هذا كنا مرآة لبعضنا .. عيوننا ترنو الى بعض .. نظرته تتسرب داخل روحي فتكشف كل أسرارها .. وعندما أنظر في عينيه ينفضح كل شيء أمامي .. حبه .. قلقه و خوفه.
عشقته بجوانبه المضيئة والمظلمة .. بادلني نفس الشعور .. خلعنا كل أقنعة الزيف لتتحد ذواتنا .. فأنسلخ كل واحد منا بذات جديدة لا تقهر. لم يكن الأمر سهلا .. كانت هنالك ليال سوداء من الفراق والألم تتخلل أيامنا .. ونار مستعرة من الأشواق تحرق مدننا بأسرها حتى اكتفينا من الاكتواء .. عدنا من جديد... حينها... طلب مواعدتي فوق الجسر عند أول مكان التقينا فيه..
قال لي... من يرانا عن بعد لا يرى فينا غير شرطي يعمل على حماية الناس وإمرأة عابرة فوق الجسر.. لكن أروحنا التقت هنا في هذا المكان، ليس لشيء... فقط لأننا في حقيقتنا شعلة محبة.
ثم أردف قائلا: لقد أعددت لك مفاجأة.
- ماهي يا ترى؟...
- انتظري و سترين.
نظرت وإذا بجماعة من المتطوعين .. يحملون فرشا وأصباغًا .. يعملون على طلي الجدران الكونكريتية لإخفاء تلك الكتابات السوداء وإبدالها برسم ورود جميلة و قلوب حمراء وقد زينو الجسر بالأضواء والبالونات والأعلام الملونة .. بدأ أهالي مدينتي بالتجمع إحتفالًا بنا .. مطلقين ألعابهم النارية .. كما الإحتفالات العامة .. نظرت الى نفسي رأيتني وقد ارتديت فستان زفاف أبيض أما هو فكان بالزي الرسمي .. بدأت أتقافز من شدة الفرح .. وهو يقول لي... من حقك أن تفرحي في يوم زفافنا.
حينها سمعت صوت ينادي:
- سيدتي.. هل من خطب ؟؟... سيدتي هل تسمعينني؟؟ ..
نظرت وإذا بالشرطي يقف من ورائي وهو يقول.. لقد طال تأملك... أنه يثير الشكوك خوفًا من محاولة انتحار.
قلت في نفسي:
إنتحار!!! عن أي انتحار يتحدث هذا الشرطي!!!؟ حسنًا... لأبتعد عن هذا المكان بأسرع وقت فكل الاحتمالات واردة.
إيثار محسن/العراق
صورة للجسر الإيطالي في البصرة
قد تكون صورة لـ ‏‏‏طبيعة‏، ‏جسر‏‏ و‏جسم مائي‏‏


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة