Translate

الاثنين، 13 يونيو 2022

مسخ بقلم / أحمد الواجد - سوريا


 مسخ

بقلم / أحمد الواجد - سوريا

لم تكن كبقية المدن تأخذ بأسباب النشوء والحياة ، فعلى عكس مااقتضته نواميس الطبيعة وحياة البشر ، تلملمت على عجلٍ وتراكمت بروابط لم تُعهد من قبل ، وتسارع نموّها .. ورَبَت متطفّلة على مفازةٍ لاتمتّ إلى الحياة بصلة ، فلا وَرَلَ يؤنس وحشتها ولا هدهداً يجوب سماءها ويستشعر ماءها ، بل هي الحَرّة تلتهب بمستطرق الأرض والسماء .. سماءٌ لم تعرف الرطوبة منذ عقود من الزمن .
لقد نمت بلاوشائج تربطها بالواقع ، أمراً تكفل على غموضه بتهافت أصحاب الطّموحات إليها ، وكلّ ذي حاجةٍ وضالةٍ أعياهُ أمر بلوغها ، إذ لم تكن تخفى كواليسها على أحدٍ من عامتها ، فالكل قد خَبِر الأمر واستيقنه وعضّ عليه بالنواجذ .
طبيبها ليس كباقي الأطباء ولامهندسها ولا تاجرها .. كلهم في فورة الأرباح يتنعمون ، دوائرها ومحلاتها وعياداتها لاتكاد تُعْدم حركتها المكّوكية ، فلاهدوء ولاراحة هنا .. الليل والنهار واللّحظات كلها سواء ، إنما هي القيامة عندهم بأهوال الأرباح ، وتقارب الزمن الذي يختصر عليهم ترهّل عالم الإنسان الذي تدبّج بالأخلاق .. فقد أصبحت داء الجسد العضال كما يدّعون ! ، نَعَمْ .. الجسد الذي ركَّب نفسه بلا أسباب نموٍّ على أرضٍ يباب أصبحت فيما بعد مقصد الكثيرين ، فكلّما ضرب إعلامها الأفق تداعى عليها الفاشلون من كل حدبٍ وصوبٍ لعمارة ذلك القبح الطارئ .. وغدا كلّ فاشل لبنة في ذلك البناء ، فهم يجدون ضالّتهم فيه ويكمل نقصه بهم مرتقياً لعتبة جنون المادة .. في مدينة إذا بحثت فيها عن سبب ازدحام المرضى أمام عيادة الطبيب مثالاً فلن تبتعد عن بائع الخضروات الملوّثة ، وصاحب الفرن الذي يخلط الخبز بالرمل ، وعامل التموين الذي علم بالأمر ، وقاضي القضاة الذي يهوّنه في حضرة الدراهم كما هوّن تجارة الأعضاء والمخدّرات وقوننها ، والمعلم الذي رفع شعار الغشّ والتزوير . وتتبدّل الأدوار أمام دور القضاء ومراكز الأمن .. فالخاسر هنا رابح هناك والعكس صحيح في دائرة أطماع متبادلة لانهاية لها بلغت معها المدينة سدّة العهر والشذوذ ، فالكل مستفيد وديدنه التواطؤ . لقد استمدّت نماءها الفاحش من انسحاق المبادئ والأخلاق .. فالعلاقة بينهم عكسيةٌ وفي انطلاقةٍ حتى تبلغ المعادلة صفرها المنشود .. وتتربع على عرش المال في هذا العالم ، وتصبح طفرة وأعجوبة ذلك الوجود الإنساني .. الذي تأخر عن الرّكب لتقديسه وثنيات المبادئ والأخلاق التي ابتدعتها نفوس البشر المريضة حسب زعمهم ، فالويل والثبور لمن أتى بمثل تلك الترّهات وقد أوشكت ثمارهم أن تبلغ أُكُلها .. وتقفز الأرباح حواجز الفحش حين اجتمع طبيبها وقاضيها وتاجرها .. في ليلة كتماء دفنوا سرّها وعقدوا العزم على بلوغ منتهى الثراء ، فعمدوا إلى ذلك الفيروس الخبيث يطوّرونه ويصنّعون مضادّه ويحتكرونه ويسعون بآليات نشره وهلهلة دِثاره القانوني .. حتى كان ذلك اليوم المشؤوم ليلة اكتمل مكرهم ، وأطلقوا العنان للثراء فاغرةً جيوبهم أفواهها .. تنتظر صباحها الباكر بفارغ الصبر .
أرخى الليل يومها عباءته على تلك المدينة متمنّياً لهم الهناءة في عبادة النوم التي هجروها .
نعم .. لأول مرّة يطبق هذا السكون على المدينة ، وتخلد الأبدان إلى الأرض وتنشد راحتها الأبدية .. متغلّبة هذه المرة على جماح الجشع ، فالليل الذي أدرجهم بعباءته ماإن انبلج صباح الغد حتى انقلب كفناً جماعياً.
هكذا صار الأمر فلقد أخطأوا بكمية الفيروس وتركيزه .. فلاهم سلموا ولا سلم أحد من سكان المدينة ، لقد بقيت جيوبهم فارغة وجثثهم كأعجاز النخل هامدةً تصفر الرياح بأجوافها ، وتذهب بأحلاهم .
رحمها الله من رياح تكفلت بردم التراب على ذلك الورم والانحراف الذي خالف سننها ، فسبق عليهم العدل .. الذي لايُستدام ولايستقيم إلا أن يكون محمولاً على الأخلاق .
لم يدم الوقت طويلاً على تلك المدينة الموبوءة المنبوذة الجاثمة في فم العوامل الجوية .. حتى كانت تلّاً من التراب شاهداً على وأدِ جسدٍ مريضٍ متعفّنٍ حفر قبره بنفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة