عندما تنبح الكلاب
الليل أشد سواداً من ذيل الغراب، والمطر يهفت، والصمت عميق كأنما يتغور في نفق سحيق، وسعد الصابر يرهف السمع من مكمنه خلف شجرة التفاح متحفزاً لكل طارئ.
قال له والده مرة: (( إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب))، لا يذكر بالضبط متى كان ذلك، لكنه يذكر تلك الصرامة في ملامح وجهه والنبرة الحادة في صوته، ورغم أنه لم يكن ذئباً مع لداته أبداً إلا أنه لم يطق أن يكون مهضوماً في يوم من الأيام، وها هو يتحدى المهانة ويقف لها بالمرصاد.
قالت له زوجته أمس (( لو تكف عن هذا الوسواس))، تظاهرَ بعدم الفهم وسألها إن كانت راغبة بمشاركته في احتساء القهوة التي أعدها للتو.
عندما تنبح الكلاب في الظلام لا شك أن آدمياً يتحرك، وفي مثل هذا الوقت فإنه لا بد آدمي مشبوه، لهذا قفز من مقعده كالقط وفتح باب البيت بحذر شديد وابتلعته الظلمة إلى مكمنه خلف شجرة التفاح حيث كان قد ثبت لوحاً خشبياً بين جدار الحديقة وجذع التفاحة ليقيه المطر، وها جاءت ساعته الآن.
المطر شديد والبرد شديد والصمت يلف الكون وكلب الجيران كف عن النباح، لعله رأى قطاً هارباً من السيل المتدفق فنبح، أو لعله فوجئ بوقع الهطل فأعلن وجوده واندس يلوذ من البلل والبرد.
تحسس سعد ما خبأه تحت معطفه ليستعين به في مفاجأة المتطفل في هذا الوقت ثم شد أطراف المعطف حول جسمه ومؤخرة رأسه، وتمنى لو يشعل سيجارة، وراح يغرز بصره في العتمة ويرهف السمع وينتظر ، فقد تكون الليلة نهاية انتظاره، إذ يقول العارفون إن المجرم لا يفتأ يحوم حول مكان جريمته، من يدري؟ أتكون الليلة موعد الحساب؟ إن كان كذلك فربما ينجلي الأمر عندما ينقطع المطر أو عندما يخف، إنه لا شك يرقد في مكمن من البلل يتفحص الليل ليهب إلى مراده، أحس سعد بقشعريرة تسري في بدنه، لن يكون ليناً (( فمن لا يكون ذئباً أكلته الذئاب)) سيراقب تحركه، لن يدعه يغيب عن عينه، وإذا لزم الأمر يلحق به بخفة وحذر ثم يفاجئه متلبساً.. وعندها..
مرة أخرى ملأت القشعريرة بدنه، أيهوي عليه بضربة تفقده صوابه؟ ثم .. وماذا لو تبين له انه ابن أحد المعارف؟ وماذا لو آذته الضربة؟ وقد تكون قاضية؟ يضربه إذن ثم ينسل إلى البيت فلا من سمع ولا من رأى، ومن يضمن أن الأمور ستسير هكذا؟ ألا يمكن أن يصرخ أو أن يحتمل الضربة ويهب من هول المفاجأة ليدافع عن روحه؟ ... إذن ينتهره قبل أن يقترب منه، وعندها يسمع الجيران فيستسلم ويسلم للشرطة... ، ومن يضمن أنه لن يهرب؟ أنه لا شك موقن النفس على ذلك ولا بد أنه حاذق في الأمر ويحسن التصرف فيه، ثم ماذا لو أخذ المهرب عليه؟ ألا يعقل أن يقاوم؟ بل هل يعقل لمثل هذا الصنف من الناس أن لا يكون مستعداً لكل الاحتمالات؟ ليكن ما يكون، المهم أن لا يفلت بدون اعتراض بل الأصح بدون عقاب.
مسح الماء المتهافت على جبينه من أحد ثقوب اللوح وحرك جثته ليتفاداه، فحرك اللوح الخشبي فوقه وسمع له صرير خافت جعله يتسمر، ثم ملأت الكون فرقعة متلاحقة للرعد وتبعها نباح كلاب لم يفتأ أن أغرى كلب الجيران بمشاركة لم يرتح لها، خُيّل له أنها آتية من مكان عميق، وعقب ذلك ارتطامُ المطر الغزير بالأرض فابتلع كل الأصوات إلا صوت خفقان قلبه.
آه لو يشعل سيجارة، كم هو مشتاق لأن يفعلها، ستُهدئ من تشنجه وانفعاله وتعوضه حرمانه من دفء الموقد إلى جانب زوجته أمام التلفاز، بل أنه سيفعلها، ولم لا؟ ففي مثل هذا الجو العاصف لا أحد يراه، وسيشعلها بعد أن يغطي كل رأسه بطرف المعطف ومن ثم يأخذها بكلتا يديه ، ويطبق عليها بكفيه، ويمج، ويطلق عينيه في كل اتجاه، من الأفضل أن يسرع إذن - قال في نفسه – قبل أن تسكن العاصفة.
أشعل سيجارة ومج حسبما خطط وراح يحدق في العتمة من جديد، ثم غمر وجهه بكفيه مرة أخرى ومج وحدق... ومج وحدق.. بدأ يخف صوت ارتطام المطر، وبدأ الهدوء يعود رويداً رويداً ... ولم تعد الكلاب للنباح، وتأهب، لعل الليلة تكون نهاية انتظاره. أحس بخدر في ركبتيه فاتكأ على رجله اليمنى ومج وأطفأ السيجارة واستعان بساعده الأيمن، ثم لم يلبث أن تحول إلى اليسرى ... ثم إلى اليمنى ... ثم إلى اليسرى ... ثم لكلتيهما .. ثم انحنى للأمام متكئاً على ركبتيه وساعديه معاً، ومد رأسه قدام جسمه ليواصل التحديق فخرج عن مدى اللوح الخشبي من الجهة المنحدرة وسال الماء على مؤخرته وعلى أذنيه فانتفض وتراجع للخلف بحركة سريعة لا شعورية، فارتطم قفا رأسه بحافة اللوح وآلمه كثيراً لدرجة أسالت الدموع من عينيه فمسحها بكمه، ثم أحس بسائل يملأ منخريه ويسح على شفته العليا فعالجه كما عالج دموعه.. وعبثاً حاول أن يكتم عطسة استحكمت وأبت إلا أن تنفجر بين كفيه، وفيما هو يعالج حالته هذه ويغالب عطسة أخرى سمع حركة ركض باتجاهه فوثب متأهباً بأقصى ما أوتى من ردة الفعل ووقف معترضاً فاستدارت الحركة وعند عامود الإنارة لمح كلب الجيران في أثر كلب آخر غريب.
بقلم / سلمان يوسف فراج - فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق