فيلسوف تائه ! 
بقلم / الهادي القاضي
كثيرا ما كنّا نراه يجوب الأزقة والدروب بشمعته المشتعلة في واضحة النهار.. كان يمعن النظر في الأشياء، يدقق في التفاصيل، يكثر الإطراق، ثم فجأة وعلى غير اتفاق تلمع عينيه ويشرق وجهه كمن بلغ لِكُنه شيء معيّن أو وجد حلّا لمعضلة مستعصية طالما أرقته! ذكرني فعله بالفيلسوف اليوناني (ديوجين الكلبي) الذي كان دائم البحث عن شيء ما بشمعته المشتعلة في بياض النهار، وحينما سأله أحدهم عما يبحث، قال: " أفتّش عن إنسان " ! 
حملني الفضول للتعرض له ذات مساء والتطفل عليه، فسألته قائلا: "ألم تظفر ببغيتك يا عم! ألهذا الحد يصعب عليك إجاد إنسان يحمل صفات معيّنة تظهر معدنه الأصيل، على نحو يُعفيك كدَّ التعب ومشقة البحث المتواصل كل يوم " ؟!
بدا السؤال غامضا نوعا ما، إذ لم أوطّد له بمقدمة تجلي مستبهمه وتبسط أسبابه ودواعيه، لذلك بدت علامات الاستفسار لائحة على وجهه المنهك من طول التفكير، فاستدركت مُعقّبا على صنيعه اليومي وبحثه الدائب بطريقة ينكرها العقل ولا يستسيغه المنطق، إذ يعفيه ضوء النهار عن حمل شمعة مشتعلة، ثم عرّجت على قصة الفيلسوف الذي حاز قصب السبق للفكرة ومُني ببراءة الاختراع في البحث بالشمعة المشتعلة نهارا!
ابتسم الرجل ابتسامة عريضة فضحت ضرسا يتيما متهالكا في مرحلته الأخيرة من الاحتمال، ثم قال مجيبا: " لا أيها الظريف، أنا لا أبحث عن إنسان البتة.. أنا أبحث عن الفيـ رو س اللعين، عن المحترمة كـ ورو نا وشقيقها من الرضاعة كـ و فيد عن إنتاجنا المحلي أوميـ كر ون.. 
كيف يجمل بهذا الفيروس أن ينبثق فجأة من عدمية مبهمة ويعيث في الخليقة ترهيبا وتخويفا، ثم يختفي في ظروف غامضة ومحيرة كما ظهر! بالله عليك يا ولدي أين هي الإحصاءات اليومية والاستنفار المغرض والطفرات المتجددة والمتحورات المتعددة... أي ثُقب أسود ابتلع هذه التوليفة البديعة جملة واحدة؟ أين حقنا من الجـ ر عات وما نصيبنا من كسب المناعة المثالية "؟!! 
اهتاج الرجل وعلى صخبه وبدأ الزبد يتجمّع في فمه، حتى ندمت ندامة الكسَعي على مباغتته بسؤال له ما بعده في موضوع محظور دوليا له توابع مخيفة، فحاولت تلافيه والابتعاد عنه.. غير أنه وعى عني ذلك من الحركة التي أتيتها فجأة، فخمدت ثائرته، وانتهى إلى الهمود ثم أطرق برأسه مليّا ، وعاد ينظر إلي ثم قال: " هل أخذت نصيبك من الجـ ر عات يا بني"؟! 
أجبته في التو واللحظة، كأني تهيأت لهذا السؤال قبل مدة طويلة بقولي: " أنا رجل عاطل عن العمل" ! 
فقال مستفهما : " وما علاقة هذا بذاك "؟! 
قلت: " هذه من حسنات البطالة يا عم فتدبر" ! ثم ولّيت الرجل ظهري ونصرفت ضاحكا أفرنس. 

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق