Translate

السبت، 1 أبريل 2023


لم يجدوا شبهة جنائية واحدة ، فأغلقوا الملف ، وصرحوا بدفن الجثة ، ذلك أن اسمها كان في كشف الركاب على العبارة شمس الأصيل ، كما أكد أحد الركاب أنها كانت معه على سطح العبارة قبل لحظات من اصطدامها بالشعاب المرجانية . ولكن الذي حير الشرطة هو أن العبارة غرقت أمام ميناء سفاجا ، والمسافة بين سفاجا والغردقة تبلغ ستين كيلومتراً ، فكيف تحركت الجثة كل هذه المسافة؟!

إستجوبت الشرطة عشرات الركاب ، بل واستدعت كل من له دراية بشئون البحر ، وأخيراً لجأت إلى مدير معهد علوم البحار بالغردقة ، الذي أكد ما زاد من حيرتهم بقوله أن الجثة لا يمكنها أن تتحرك كل هذه المسافة إلا بفعل فاعل .

ولما سئل عن احتمال أن تتسبب الرياح أو التيارات البحرية في تحريك الجثة نفى ذلك بشدة ، وقال أن الرياح في البحر الأحمر تهب عادة من الشمال إلى الجنوب في حين أن الجثة تحركت من سفاجا إلى الغردقة أي تحركت من الجنوب إلى الشمال ، وهو ما ينفي مسئولية الرياح أو التيارات البحرية في ذلك .

سلمى عجوز قصيرة وضئيلة الحجم كأغلب نساء الرشندية ، ذات وجه أسمر مستطيل ، وعينين صغيرتين باهتتين ، وقد كنيت بالعرجاء لأن إحدى رجليها أقصر قليلاً من الأخرى .

لم تكن سلمى ترى أحداً يمر أمام عشتها إلا وتدعوه لتناول الشاي ، كان البعض يقبل دعوتها ، بينما يعتذر البعض الآخر ، لأنهم يدركون أن كرمها لا يقف أبداً عند تقديم الشاي ، إذ لا يخرج الضيف من بيتها إلا محملاً بهدية ، بضع بيضات من دجاجاتها ، أو كوز لبن من عنزتها ، وهي لا تعدم ذلك أبداً ، فإن عدمت اللبن لا تعدم البيض ، وإن عدمت كليهما لا تعدم التمر الناشف ، كما لا تعدم فسيخ البربوني الذي تحتفظ به دوما في برميل خشبي صغير .

وللبربوني قصة مع العرجاء ، فلوقت طويل جداً لم يكن لأسماك البربوني أي قيمة مقارنة بالأسماك الأخرى ، بل كان الشائع بين الرشندية وسكان الغردقة عموماً أن البربوني من أردأ الأسماك طعماً ، لذلك كان الرشـندية يبيعونه بأبخس الأثمان ، ولكن لا يدري أحد ما الذي دفع العرجاء إلى أن تجرب أن تصنع من البربوني فسيخاً ، إذ كان الشائع بين الرشندية أن التفسيخ لا يصلح إلا لأسماك البوري فقط ، ورغم ذلك استمرت العرجاء في تفسيخ البربوني بكميات أكبر قليلا ، تتناول بعضه وتهدي معظمه للجيران ، وسرعان ما اشتهرت بين الرشندية بأنها تضع مع البربونى خلطة سرية ، لا يعرفها أحد سواها .

تسامع تجار الفسيخ بما يشاع عن امتلاك العرجاء لخلطة سرية ، فزارها أحدهم وعرض أن تقوم بتفسيخ البربوني في مستودعه ، ولكن العرجاء رفضت عرض التاجر ، ولكن أمام إلحاحه قبلت أن يأتي التاجر بأسماكه وبراميله إلى عشتها ، وقد فهم التاجر من ذلك أنها تريد أن تحتفظ بخلطتها السحرية سراً ، فوافق ، ونفحها مبلغاً كبيراً من المال تبرعت بمعظمه لفقراء النجع .

لم يمض وقت طويل حتى تسامع الزبائن بفسيخ البربوني اللذيذ ، فتكالبوا على شرائه من التاجر ، وتمادى التاجر في جشعه فرفع أسعار البربوني ، وانتقلت العدوى إلى بقية التجار فرفعوا أسعاره بدورهم حتى فاقت أسعار البوري وجميع الأسماك الأخرى .

ورغم أن موسم البربوني يقتصر على ثلاثة أشهر من العام ، فإن العرجاء كانت تغنم في هذه الأشهر المعدودة ما يقيم أودها طوال العام .

وعندما أخبرت العرجاء أقاربها أنها قد عزمت على الحج ذلك العام ، تسابق أهل النجع كلهم إلى مساعدتها بما يعينها على السفر ، وتطوع أحدهم بصبغ واجهة عشتها بالجير الأبيض مجاناً ، بينما تطوع آخر برسم زخارف جميلة على الواجهة بمناسبة حجها المبرور .

وفي اليوم الموعود لعودة الحجاج اكتظ ميناء سفاجا بالمستقبلين ، ومن بينهم عدد كبير من رجال ونساء الرشندية ، متأهبين لاستقبالها بالبيارق وجريد النخل ، وكان على العبارة قبل أن تدلف إلى ميناء سفاجا أن تجتاز بحذر ممراً ضيقاً يعج بالشعاب والصخور المرجانية ، ولكن لأن الحذر لا يغني عن القدر ، فقد اصطدمت مقدمة العبارة بصخرة مرجانية صلدة خلفت فيها فجوة كبيرة اندفعت منها المياه إلى جوفها في عنف ، فطيرت العبارة رسائل الإستغاثة ، وهرعت قوارب خفر السواحل لإنقاذ الركاب .، وأمكن بالفعل إنقاذ عدد كبير منهم ، ولكن العرجاء كانت واحدة ممن ابتلعهم البحر ، واستمر البحث عن جثثهم أسبوعاً كاملاً دون جدوى .

وفي نفس اليوم الذي أعلن فيه قائد فريق الإنقاذ في سفاجا أن الجثث المفقودة وقعت غالباً فريسة لأسماك القرش الجائعة ، كان بعض صيادي الرشندية ينصبون كمائنهم في الغردقة لأسراب البربونى الزاحفة من الجنوب ، إذ تصادف أن اليوم يوافق بداية موسم البربوني ، وقد دهش الرشندية من أن الصيد في اليوم الأول كان وفيراً على غير المعتاد في بداية الموسم ، وضاعف من دهشتهم أن شباكهم المتخمة بالبربوني خرجت تحتضن جسداً بشرياً لم يجدوا صعوبة كبيرة في التعرف عليه ، وهي العرجاء بشحمها ولحمها وثيابها كاملة ، جثة طبيعية لا يبدو عليها أي أثر لبقائها في مياه البحر لأسبوع كامل .

سارع الرشندية بإبلاغ الشرطة ، التي عاينت الجثة ثم قبضت عليهم جميعاً ، واحتجزتهم طوال أسبوعين كاملين ، وكان السؤال الوحيد الذي تبحث الشرطة عن إجابة له هو : كيف وصلت الجثة من سفاجا إلى الغردقة ؟!

ولكن الشرطة لم تصل إلى شيء ، فاضطرت إلى إطلاق سراحهم ، وتبع ذلك أن صرحت النيابة بدفن الجثة ، ثم تناسى الرشندية الأمر برمته ، بعد أن هل موسم البربوني الجديد ، فانشغلوا بنصب الكمائن لأسرابه . ولكن في ذلك الموسم ، بل وفي كل المواسم التالية ، لاحظ الرشندية أن أسراب البربوني قد تضاءلت إلى حد كبير ، ورغم أن ذلك كان كفيلاً برفع أسعاره فإن ما حدث كان على النقيض تماما ، إذ أخذت أسعاره في الانخفاض تدريجيا ، خاصة بعد أن ردد البعض أن طعمه لم يعد لذيذاً ، بل عاد رديئا ، تماما كما كان أيام زمان ، قبل أن تأتي العرجاء بخلطتها السحرية .

١ - الرشندية : قبيلة عربية في البحر الأحمر يعمل أغلب أبنائها بالصيد .

٢ - البربوني : نوع من الأسماك يتواجد في البحر الأحمر .








 





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة