زَمَنٌ جَميلٌ في الماضي. قصة قصيرة
بقلم الأديبة : عبير محمود أبو عيد فلسطين - القدس
كُنْتُ في الصَّفِّ الخامِسِ عِندَما أَرسَلَني والِدايَ إِلى بَيتِ جَدّي لِأُمّي في عَقَبَةِ التَّكِيَّةِ في البَلدَةِ القَديمَةِ بِالقُدسِ. سَأَبقى في ضِيافَةِ جَدّي فُؤادَ يَعقوبَ المُهتَدّي (أَبي يعقوبَ) شَهرَيْنِ كامِلَيْنِ، لِأَنَّ والِدايَ سافَرا إِلى لُبنانَ.
أُخبِرُكُمْ عَنْ جَدّي الّذي كانَ يَعمَلُ في دائِرَةِ الصِّحَةِ، ثُمَّ تَقاعَدَ بَعدَ أَنْ بَلَغَ السِّتينَ مِنْ عُمرِهِ، أَمّا جَدَّتي، فاسمُها "شَكيبَةُ" وَهِيَ تُركِيَّةٌ مِنْ مَدينَةِ "أَسكودارَ"، وَلَكِنَّها مَولودَةٌ في البوسنَةِ. جاءَ بِها جَدّي مِنْ تُركِيّا، وَهِيَ لَمْ تُكمِلِ الرّابِعَةَ عَشْرَ مِنْ عُمرِها. وَكانَ يَسكُنُ مَعَ جَدّي وَجَدَّتي خالي وَعائِلَتُهُ.
وَفي اليَومِ الأَوَّلِ، لاحَظتُ أَنَّ لِجَدّي سَريرٌ وَلِجَدّتي سَريرٌ آخَرَ، وَلَمْ أَجْرُؤْ أَنْ أَسأَلَهُما أَوْ أَسأَلَ خالي أَوْ زَوجَتُهُ : لِماذا يَنامُ جَدّي في سَريرٍ وَجَدّتي في سَريرٍ آخَرَ؟
وَكانَتْ جَدَّتي تَصحو مَعَ جَدّي وَخالي وَزَوْجَتِهِ لِصَلاةِ الفَجرِ جَماعَةً، ثُمَّ يَعودونَ لِلنَّومِ ساعَةً مِنَ الزَّمَنِ، وَبَعدَها يُصبِحُ البَيتُ كُلُّهُ كَخَلِيَّةِ نَحلٍ لا تَهدَأُ وَلا تَمَلُّ. كانَ جَدّي يَحرِصُ أَنْ أَذهَبَ إِلى المَدرَسَةِ وَأَنا في كامِلِ الزِّيِّ المَدرَسِيِّ الجَميلِ. كانَ يَكوي لي قَميصَ وَمَريولَ وَبِنطالَ المَدرَسَةِ بِيَدَيْهِ، وَكَذَلِكَ حِذائي، يَجِبُ أَنْ يَلمَعَ. أَمّا جَدَّتي، فَكانَتِ المَسؤولَةُ عَنْ شَعري (عَمَلُ جَدّولَتانِ مَعَ وَضعِ الشَّبَرِ الأَبيَضِ حَوْلَ كُلِّ جَدّولَةٍ )، وَعَمَلُ الشَّطائِرِ اللَّذيذَةِ لِلمَدرَسَةِ، ناهيكَ عَنِ الخِيارِ وَالتُّفاحِ وَالإِجاصِ. وَكانَ مَصروفي كُلَّ يَومٍ خَمسَةَ قُروشٍ يَضَعُها لي جَدّي عَلى الطَّاوِلَةِ في غُرفَةِ الجُلوسِ. أَمّا يَومَيِّ الجُمُعَةِ وَالأَحَدِ، فِإِنَّ مَصروفي يُصبِحُ ثَمانِيَةَ قُروشٍ، وَيُمكِنُ أَنْ يُصبِحَ عَشْرَةَ قُروشٍ حَسبَ عَلاماتيَ المَدرَسِيَّةَ. وَكُنتُ أَجتَهِدُ وَأُواصِلُ اللَّيلَ بِالنَّهارِ؛ كَيْ أَحصُلَ عَلى العَشْرَةِ قُروشٍ مِنْ جَدّي؛ فَهِيَ ثَروَةٌ وَكَنزٌ بِالنِّسبَةِ لي.
وَكانَ جَدّي مولَعًا بِشِراء جَريدَةِ القُدْسِ كُلَّ يَومٍ، مِثلَما كانَ والِدي يَفعَلُ. وَكانَ يُحضِرُ الأَغراضَ وَما تَطلُبُهُ جَدَّتي السّاعَةَ الثّالِثَةَ عَصرًا، وَأَكونُ قَدْ رَجَعتُ مِنَ المَدرَسَةِ. وَهُنا يَبدَأُ الصِّياحُ وَتَبدَأُ الحَربُ بَيني وَبَينَ جَدّي الّذي لا يُحِبُّ أَحَدًا أَنْ يَقرَأَ الجَريدَةَ قَبلَهُ، وَأَنا أُريدُ أَنْ أَقرَأَها أَيضًا. وَالظّاهِرُ أَنّي وَرِثتُ هذِهِ الصِّفَةَ مِنْ جَدّي، فَعِندَما تَكونُ جَريدَةُ القُدسِ في البَيْتِ، مَمنوعٌ أَنْ يَقرَأَها أَحَدٌ قَبلي.
وَكانَتْ جَدَّتي بارِعَةٌ ماهِرَةٌ في صُنعِ الكَعكِ بِعَجوَةٍ. وَذاتَ يَومٍ صَنَعَتِ الكَثيرَ مِنهُ، ثُمَّ ذَهَبَتْ لِتُصَلي العَصْرَ. تَسَلْلَتُ بِخِفَّةٍ وَرَشاقَةٍ إِلى المَطبَخِ، وَتَناوَلتُ صِينِيَّةً مُتَوَسِّطَةَ الحَجمِ وَمَلَأْتُها بِالكَعكِ، وَغَطَّيتُها بِكيسٍ كَبيرٍ، ثُمَّ صَعَدتُ إِلى السَّطحِ وَخَبَّأْتُها في زاوِيَةٍ بَعيدَةٍ. وَبَعدَ حَوالي السّاعَةِ، اكتَشَفَتْ جَدَّتي نُقصانَ الكَعكِ، وَدُهِشَتْ مِنْ ذلِكَ الأَمرِ؛ فَلا أَحَدَ يَستَطيعُ تَناوُلَ هذِهِ الكَمِّيَّةِ مِنَ الكَعكِ دُفعَةً واحِدَةً. وَكُنتُ كُلَّ يَومٍ، وَبَعدَ العَودَةِ مِنَ المَدرَسَةِ، أَصعَدُ إِلى السَّطحِ وَأَتَناوَلُ ثَلاثَ أَوْ أَربَعَ كَعكاتٍ، وَأَحرِصُ عَلى مَسحِ فَمّي قَبلَ النُّزولِ. وَظَلَلتُ عَلى هذا الوَضعِ خَمسَةَ أَيّامٍ، ثُمَّ وَضَعتُ الصّينِيَّةَ مَكانَها، وَلَمْ يُلاحِظْ أَحَدٌ ذلِكَ.
وَفي يَومٍ آخَرٍ، استَيقَظْتُ مِنَ النَّومِ السّاعَةَ السّادِسَةَ صَباحًا. يا لَلهَولِ، جَميعُ مَنْ في الدّارِ نائِمون. ارتَدَيْتُ الزِّيَّ المَدرَسِيَّ لِوَحدي وَذَهَبتُ إِلى المَطبَخِ وَعَمِلْتُ شَطيرَتَيْنِ عَلى عَجَلٍ. وَلِأَنَّني كُنتُ خائِفَةً أَنْ أَتَأَخَّرَ عَلى المَدرَسَةِ، نَسيتُ أَخْذَ مَصروفي مِنْ جَدّي. لا أَعرِفُ كَيْفَ كُنتُ أَركُضُ في سوقِ خانِ الزَّيْتِ ثُمَّ بابِ العَمودِ. وَصَلْتُ المَدرَسَةَ وَكانَ البابُ مُقفَلًا؛ فَالسّاعَةُ ما زالَت السّادِسَةَ وَالنِّصفَ صَباحًا. بَكَيْتُ مِنَ الخَوْفِ، وَأَخَذتُ أَطرُقُ البابَ بِشِدَّةٍ. فَتَحَ الحارِسُ البابَ، وَطَمأَنَني أَنَّ السّاعَةَ ما زالَتْ السّادِسَةَ وَالنِّصفَ صَباحًا. وَبَعدَ حَوالي النِّصفِ ساعَةٍ، جاءَ جَدّي إِلى المَدرَسَةِ لِلإِطمِئنانِ عَلَيَّ، وَأَعطاني مَصروفي. وَفي تِلكَ اللَّيلَةِ، خَبَّأَ جَدّي مِفتاحَ البَيتِ تَحتَ وِسادَتِهِ، كَيْ لا أُكَرِّرَ ما فَعَلتُهُ في ذلِكَ الصَّباحِ.
وَكُنتُ أَنامُ عَلى فَرشَةٍ عَلى الأَرضِ بَينَ سَريرَيْ جَدَّتي وَجَدّي. وَكانَ يَحرِصُ جَدّي أَنْ أَنامَ السّاعَةَ السَّابِعَةَ مَساءً، ما عَدا يَومَيِّ الخَميسِ وَالسَّبتِ، فَالنَّومُ يَكونُ السّاعَةَ الثّامِنَةَ مَساءً؛ لِأَنَّ المَدرَسَةَ تُعَطِّلُ يَوْمَيِّ الجُمُعَةِ وَالأَحَدِ. وَذاتَ يَومٍ، كُنتُ نائِمَةً، فَسَمِعتُ جَدّي يَقولُ : "ابنَةُ ابنَتي عَبيرُ لا تُحِبُّني؛ فَهِيَ تُديرُ لي ظَهرَها". وَبَعدَ حَوالي الأُسبوعِ، سَمِعتُ جَدّتي في اللَّيلِ تَقولُ : "أَهَذِهِ عَبيرُ الّتي أُحِبُّها؟ لِماذا تُديرُ لي ظَهرَها"؟ فَاحتَرتُ في أَمري وَكَيفَ أُرشي جَدّي وَجَدَّتي. وَكانَ الاتِّفاقُ أَنْ يَكونَ وَجهي مُقابِلًا لِجَدَّتي في ذلِكَ اليَومِ، وَيَكونُ وَجهي مُقابِلًا لِجَدّي في اليَومِ الّذي يَليهِ. وَهَكَذا فَرِحَ الجَميعُ بِخُطَّتي الّتي تَنِّمُ عَنِ الذَّكاءِ وَحُبّي الكَبيرَ لِجَدَّتي وَلِجَدّي.
وَعادَ والِدايَ مِنَ السَّفَرِ بَعدَ حَوالي الشَّهرَينِ، وَعُدتُ إِلى بَيتي وَالدُّموعُ تَملَأُ عَينايَ. رَحِمَكُما اللهُ يا جَدَّتي ويا جَدّي وَجَعَلَ مَأْواكُما الجَنَّةَ.
بَقِيَ أَنْ تَعرِفوا، أَنَّهُ إِذا مَرَرتُمْ بِمَقبَرَةِ اليوسُفِيَّةِ بِالقُربِ مِنْ بابِ الأَسباطِ، هُناكَ عَلى جِهَةِ اليَسارِ، وَأَنتَ ذاهِبٌ إِلى المَسجِدِ الأَقصى، شَجَرَةُ سَروٍ طَويلَةٌ جِدًّا. هذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ عُمرِ جَدّي، رَحِمَهَ اللهُ، وَهُوَ وَجَدَّتي مَدفونانِ تَحتَها.