Translate

الخميس، 25 أغسطس 2022

حكاية صبي عصامي ============ ناجح صالح / العراق

 حكاية صبي عصامي

============
ناجح صالح / العراق
أسوأ يوم في حياته يوم وفاة أبيه ، وأسوأ منه يوم دخل الدار رجل حل محل أبيه .
نظر الى أمه بازدراء الا أنه كظم غيظه وأزمع أن يرحل رغم أنه كان في سن لم تتعد العاشرة .
وذات صباح حمل متاعه ميمما وجهه الى المدينة تاركا القرية وراء ظهره .
واستقر في بيت تربطه قربى مع أبيه ، تعاطف أهل البيت مع محنته فحسبوه واحدا منهم .
كان له عقل رجل رغم أنه صبي ، وراح يشق طريقه في معترك الحياة بلا هوادة .
وقف مع رب البيت يؤازره في مهنة النجارة ، وفي غضون شهرين أتقن الصنعة ، فأعجب به الرجل اعجابا شديدا وتوجس فيه مستقبلا يتفوق فيه على أستاذه .
وحاول الرجل أن يلحقه بالمدرسة لكنه رفض بعناد ، اذ آثر ألا يكلف الرجل أكثر من طاقته وأن يسدد دينه معه بالعمل دون غيره فتكون اللقمة التي تدخل جوفه من عرق جبينه .
ما أمر هذا الصبي ؟ وفيم كان يفكر ؟ وهل تركت أمه في نفسه جرحا لا يندمل ؟
الا أنه كان طويل الصمت لا يشبه أقرانه في هذه السن .. السن التي هي ليست أكثر من لهو ولعب غير أنه كانت له رؤية أخرى .
وكبر الصبي فبات رجلا وطارت شهرته في أرجاء المدينة كنجار حاذق لمهنته بعد أن أوكل صاحب الدار له مقاليد العمل ، ثم أكرمه باحدى بناته لتشاطره حياته الزوجية ، فاستقل بيتا صغيرا متواضعا هو بمثابة عش دافيء لحياته القادمة .
ومع كل هذه السنين الفائتة لم ينس يوما الجرح الذي خلفته أمه في أعماقه ولم تغب عنه ذكراها ..
ذكرى أم آثرت نفسها على ولدها ولم تكن وفية لزوج كان كريما معها كما لم تنازعها نفسها يوما بالسؤال عنه فقابلها هو بدوره بالقطيعة .
......................... ......
ومرت السنون يلحق بعضها بعضا .. وكبر أبناؤه الأربعة الذين رزق بهم ، وكان لهم شأن في مدارسهم حتى دخل أكبرهم كلية الحقوق .
شعر الرجل بالارتياح لأول مرة في حياته ورأى في أبنائه الحلم الذي كان يراوده في رحلته الطويلة .
ذات ليلة ربيعية اجتمعت الأسرة كعادتها في الحجرة الكبيرة وراحوا يتحادثون ويتسامرون ، وفجأة تساءل الابن الأكبر الذي كان يستمتع باجازة عن دراسته :
- أراهن يا أبي أن وراءك قصة تخفيها عنا .. فما هي يا ترى هذه القصة ؟
تركت آثار الزمن بصمة واضحة على وجه الأب فقال مستفهما :
- أي قصة يا بني ؟
- أنت تعرف ما أعنيه .. أين هم أهلك ؟ لم تحدثنا يوما عنهم .
وجد الأب نفسه محرجا وسط أولاده فتمتم :
- دعنا من هذا الحديث الذي يثير المواجع .
- لا يا أبي ، لقد آن الأوان أن نفهم القصة التي تثير فيك هذه المواجع ، فأنت ليس كأي أب ، لقد كدحت طويلا وأثرتنا على نفسك ، فهل تبخل علينا أن نشاركك همومك ؟
- حسنا يا ولدي ، لقد تحملت أعباء الحياة وحدي منذ غادرت القرية وأنا صبي ، أيسرك أن أقول لك أنني عانيت اليتم في أقسى صوره بعد وفاة أبي ، أما أمي فلم أر لها وجها منذ أن استبدلت أبي برجل آخر .
- ما أبشع ذلك .. أي أم هذه التي تترك فلذة كبدها في مواجهة الحياة لوحده في سن كان يجب أن تأخذه الى صدرها !
نظر الابن الأصغر الى أمه نظرة ذات معنى متسائلا :
- أكنت تعرفين وقائع القصة يا أمي ؟
أومأت برأسها قائلة :
- لقد رواها لي في أول عهدنا بالزواج بعد الحاح طويل من جانبي .. ان أباكم هذا خير مثال للرجل في صبره وتجلده .
استرجع الابن الأكبر القول :
- حقا ليس مثل أبي نظير ، اني أحيي فيه هذه الروح الشجاعة .
فقال الأب بعد صمت وهو يرمق أبناءه بنظرات تحمل في طياتها الحب والحنان :
- لا يكون الرجل رجلا الا حين يضع قدمه على أول الطريق وألا يحني رأسه للعاصفة مهما كان وقعها وشدتها وبأسها ، ومع ذلك فاني لا أرى موقفي من أمي هو موقف العقوق بقدر ما كانت هي عاقة معي ، أجل لقد طردتني من حياتها مقابل رجل غريب آثرته علي بعد وفاة أبي بستة شهور ليس غير .
كان من الممكن أن أضيع وأن يأخذني الشارع اليه غير أن الله أعطاني عقلا رصينا رغم صغر سني آنذاك ، كما هيأ لي القدر أسرة أمكم التي تمت بصلة القربى مع أبي لألوذ في حماها في تلك المحنة المفزعة ، ولعل ما كان يزيدني غيظا كنت أكتمه طيلة الوقت أن ما تسمى أمي تركت في نفسي انطباعا سيئا لذا لم أحترمها ولم أوقرها لأنها تجاهلتني تماما ولم تلق النظرة علي يوما وكأنها تناست أنها حملتني في بطنها تسعة أشهر ، أرأيتم أي أم هي ؟
ومما يحز في نفسي وهو أخطر ما في الأمر أنني كنت أتساءل كل يوم ألف مرة : هل أنجبت هذه الأم أخوة لي من بطنها ومن صلب ذلك الرجل لتخبرهم أن لهم أخا طردته من حياتها في أول امتحان لقدسية الأمومة ؟
كان الحزن باديا على وجهه وهو يتحدث .. حزن عميق أكل من عمره دهرا .
قالت المرأة وهي تتعاطف مع زوجها :
- كفانا التحدث عن هذه السيرة التي تجرح المشاعر ، كفانا التذكر عن صفحات قاتمة ليس وراءها الا ما يوجع القلب .
فقال الرجل وهو يجاهد في طي تلك الصفحات :
- هذه أمكم هي من وقفت معي ، تشد أزري حتى قبل أن أقترن بها ، كانت هي النسمة العليلة في حياتي ، هي من أعطتني جرعة من التفاؤل كي أمضي في الطريق ، ولن أنس فضلها علي ما دمت حيا ، حقا شتان ما بين امرأة وامرأة وبين قلب وقلب .
فقالت المرأة وهي تواسي زوجها :
- أنت من كنت متحمسا على شق الطريق ، أنت وحدك الذي كنت تقوم بمهام رجل وأنت صبي ،
وفيما بعد كنت لي زوجا هو أهل للوفاء والاحترام كما كنت أبا وفر لأبنائه كل مقومات النجاح .
حيا الرجل امرأته بابتسامة قائلا :
- لقد تأخر بنا الوقت فلنأخذ قسطا من النوم حتى نصحو على يوم جميل لا منغصات فيه .
قد تكون صورة ‏شخص واحد‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة