Translate

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

جنون البقر قصة قصيرة بقلم / احمد علي صدقي - المغرب

 



قصة قصيرة بعنوان:

جنون البقر:
في حظيرة ما، فوق جبل ما، كثرت البهائم ولم تعد مساحة القمة تَسَع الجميع... عمت الزحمة و تفشى الاكتظاظ... اجتمع مسؤولو القرية يدرسون المشكلة... نادوا عرافهم وتدارسوا معه صعوبة أمرهم... كانت التساؤلات تدور كلها حول اكتظاظ الزريبة و كيفية النقص و انتقاء من سيبقى فيها بالقمة ومن يجب أن يستدرج للسفح.. حول من يتولى تسيير من بالقمة، ومن سيرعى من بالسفح... طمأنهم عرافهم أن الأمر لا يدعو للقلق وأن لكل مشكل حلا... أمرهم أولا بإحصاء كل البهائم الموجودة بالقرية ثم ترثيبها عددا حسب الأنواع... وجدوا في المرتبة الأولى الأغنام، و في الثانية الخيل والبغال والحمير وفي الثالثة الأبقار.. من هذه النتائج جاء اقتراح العراف بالأخذ بمبدئ خير الأمور أوسطها.. فكان حظ الخيل والبغال والحمير هم من سيبقون في الحظيرة بالقمة، لانهم أقوياء ويمكن استعمالهم في النقل وحمل الأثقال.. فهم من يستحقون البقاء بالقمة، وسيعلفون الشعير والقمح والحنطة بنسبة تقدر حسب المحصول السنوي، وما تبقَّى من الحيوانات الأخرى، أغناما وأبقارا، وغيرهم، فمصيرهم الإنزال للسفح، يرعون فيه خشاش الأرض ويشربون مياه السواقي العكرة ويستعْمَلون في انتاج الحليب و اللحم و الصوف...
بعد أيام من تفعيل هذا القرار، وقع مشكل في غاية الصعوبة، وهو تفرق البهائم في أرجاء الغابة، فصعب جمعها لحلبها و أخذ صوفها وأختيار السمين منها لولائم الأعياد والأفراح... لكن لكل مشكل عند العراف حل. لما أشاروا إليه أمدهم باقتراح سهل وناجع يجعلهم يراقبون هذه الأنعام ويتتبعونها خطوة خطوة وهي ترعى في الغابة... زرع رقاقات رقابة تحت جلودها. قبلت خطته بلا منازع.. لقد وجدوا فيها ضالتهم و وسيلة ناجعة لتتبع هذه الأنعام عن بعد. ولكي تبقى هذه الأنعام مجتمعة في أسراب و لا تتفرق، أوصاهم بشراء مكبرات الصوت من عند مستعمليها للإشهارات واغراض التسوق والمهرجون، وتنصيبها بأرجاء الغابة، تبث بالليل والنهار أصواتا مفزعة لحيوانات مفترسة، كالأسود والذئاب والضباع فتخيف هذه الأنعام وتجعلها تلتف حول بعضها البعض فلا تتفرق... فما تناطحا كبشان على هذا الحل الذي رأى فيها الكل نظاما جديدا يخدم القرية و يخدم سكانها...
لم تمطر السماء في هذه السنة، فقل الحشيش الأخضر بالغابة ولم يبق إلا الخشاش اليابس التي لم ترغب الأنعام في أكله.. الشيء الذي أثر على صحة هذه الأنعام المستهلكة، فبدأت تضعف ومات بعضها.. اقترح عليهم العراف، أن يلبسوا الحيوانات نظارات خضراء لكي لا تفرز بين الخشاش اليابس والحشيش الأخضر فتأكل كل ما تجده أمامها فتتلهى بهذا وتخفف من جوعها..
لما دبروا كل أمورهم تدبيرا محكما، و تمكنوا من السيطرة على كل من بالغابة و تيقنوا من السيطرة المطلقة على من بالغابة، قرروا النزول، مرة في الأسبوع، راكبين خيولهم وبغالهم وحميرهم يتفقدوا أنعامهم.. يحلبون الحلوب، ويذبحون السمين، ويأخذون صوف من نمت وكثرت صوفه...
لكن الأمر الذي لم يحسبوا له حسابا هو ظنهم أن تلك الأنعام لا فكر لها وأن لن يكون بينها تواصل ولن تقيم علاقات صداقة وطيدة في ما بينها وتبحث عن بعضها بعضا في وقت الحاجة.. لم ينتبهوا أن هذه الأنعام ليست بلهاء، وأنها على قدر مدهش من الذكاء، وتتمتع بذاكرة وقدرات إدراكية مذهلة، إذ يمكنها كلإنسان، أن تقيم صداقات، وأن تحزن عندما يؤخذ أقرانها للذبح، ناهيك كذلك أنها تقيم علاقات تدوم لفترات طويلة، وتدعم الضعيف بينها، وتساند بعضها بعضا في المعارك..
لبثت هذه الأنهام وقتا في الغابة، ومن الطبيعي أنها تزاوجت فأنجبت عجولا وخرفانا، ولما أنجبت، تآلفت فيما بينها لتحمي أبناءها.. التفت وكونت قطيعا متماسكا، فكانت الأغنام الضعيفة ترعى بوسط الغابة والأبقار القوية بالمحيط، تحرس نقط الضعف في الغابة. تكوَّن قطيع ذو قوة لا تقهر، سلاحه الركل والنطح لطرد كل من حاول، من أهل القرية، الاقتراب من القطيع لحلبه أو اقتحامه لأخذ صوفه أو أخذ السمين منه للذبح. جاء، بعد هذا التمرد، قرار مسؤولي القرية بالرفع من مستوى اصوات المكبرات، لبث الأصوات المفزعة للحيوانات المفترسة. الأمر الذي أحدث هلعا بالغابة، فاستولى الاكتئاب والخوف على كبار الأنعام و مست الكثير منهم أمراض نفسية و عضوية، فعمت الفوضى في الغابة و انتشرت أمراض في كثير من الكبار، وظهر فيهم مرض جنون البقر.. مرض نجى منه الصغار من العجول والخرفان التي لم ينلها تحكم أهل القرية الآلي، والتي لم تهتم بما يقع فلم ينلها الخوف كما استولى على الكبار.. إتسمت بالمرح و مارست حريتها غير آبهة بما خططه مسؤولو القرية. فهي تعيش حياتها بلا خوف وهذا نجاها من الأمراض النفسية التي هي سبب ضعف الكبار منها. كانت الصغار تلعب و تتحدى مكبرات الصوت فتركلها أثناء لعبها فكسرتها وهي تجري وتتناطح لعبا.. لكن الأغلبية من كبار الأنعام، لم تعد مرتاحة لما يقع و الكثير منها أصيب بهذا المرض الذي هو جنون البقر.. سئم كبار الانعام الحياة، فتركوا الغابة وهاجموا القرية، فانتشر الفزع بين سكانها، خصوصا لما بدأ البقر يعض ويركل و يدوس كل من اعترض طريقه فانظمت إليه في جنونه، الخيل والبغال والحمير التي، هي الأخرى، اتعبتها خدمة و ركوب وحمل مسؤولي القرية واثقالهم.. فما كان لسكان القرية إلا الهروب خارجها للنجاة..
فهل يا ترى بتضحية الكبار ستدفن الأحزان و تستعيد القرية حريتها وينعم جيلها الجديد بحياة أسعد لن يعكرها غل، فتخضر الغابة و تعود الفراشات بألوانها الزاهية تلقح الأزهار لتنتج الثمار؟
احمد علي صدقي المغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة