Translate

السبت، 8 يناير 2022

الغذ المجهول. بقلم : ذة. لطيفة ناجي المملكة المغربية.




 

الغذ المجهول.
" توقف القطار في محطة كئيبة تبدو عليها علامات الإهمال والقدم. صوت مبحوح تردد على المسامع ، من مكبر صوت :"محطة النعيمة! ". لم يكن على الرصيف القفر سوى عامل عجوز يكنس الأرض من الأتربة والأوراق الميتة التي تراكمت على جنبات السكة الحديدية والموظف المكلف بمراقبة تحركات الآلة الحديدية الضخمة . فُتحت باب المقطورة ، فظهرت امرأة تصفحت بعينيها الرصيف كأنما تبحث عن وجه مألوف، ثم نزلت الدرج الحديدي بتؤدة بالغة. ساعدها شاب على إنزال حقيبة كبيرة وبعض الأغراض الأخرى ثم عاد لتوه إلى القطار . كانت المرأة تحمل، بين ذراعيها، طفلا ملفوفا في غطاء أبيض... شرعت تجر حقيبتها الثقيلة بيدها اليسرى وتبحث عن كرسي قريب، على الرصيف . كانت سيدة في عقدها الثالث ترتدي ثوب الحداد . ففي بلدتها، تلبس الأرملة ملابس بيضاء طيلة أشهر العدة. فلباسها يميزها عن باقي النساء ويحميها من تسلط الرجال وطول لسان النساء. فالمجتمع لا يرحم ولا يقدر الظروف.
إسمها زهراء، شابة في عقدها الثالث، تبدو عليها ملامح الحزن والتعب بسبب السفر المضني :عشر ساعات من السفر والجو الخريفي ثقيل يصعب تحمله في قطار يشكو القدم وكثرة المسافرين: جو خانق، روائح الأكل والسجائر تزكم الأنفاس، وضجيج الشباب وبكاء الأطفال وصراخ الأمهات... سيمفونية الجحيم تسرق النوم من المآقي وتخلق الضجر والكآبة في القلوب.
مسحت دمعة حارقة فرت من مقلتها وهي تتأمل في طفلها الصغير، فرحة عمرها، غنيمة زواج سعيد انتهى بطريقة مريعة. قبل شهرين، توفي زوجها سليم على إثر إصابته بصدمة قلبية وهو يزاول مهامه كمهندس في إحدى الشركات الكبيرة بمدينة البيضاء. حين تلقت الزوجة الشابة الخبر، سقطت مغشيا عليها من أثر الفاجعة. لم يكن لديها عائلة في تلك المدينة المترامية الأطراف. تكبدت المصيبة لوحدها فقام صاحب الشركة بتكاليف المأثم والدفن. كانت جنازة مهيبة . وكتعويض للأرملة وطفلها الرضيع، صرف مدير الشركة لزهراء مبلغا ماليا لمساندتها في تلك الظروف المؤلمة. لكن أخبروها بأنهم مضطرون لاستعادة سيارة الشغل ومنحوها مهلة شهرين لإفراغ البيت الذي لم يعد من حقها بعد وفاة زوجها الذي لم يتمم المدة المتفق عليها في عقد الشغل، لذلك لن تحصل ارملة الفقيد على أي تعويض.
هكذا أصبحت زهراء أرملة بدون منزل. أحيانا ينهال القدر على الإنسان فيأخذ منه كل أسباب سعادته وفرحه. غادرت المدينة الكبيرة وعادت إلى بيت أهلها تجر حقيبتها التي صاحبتها في رحلتها وهي تزف إلى عريسها المهندس سعيد، قبل سنوات، بفستان عرسها الأبيض المزين بالوردي، عاشت معه في هناء وكانت ثمرة ذلك الزواج، سعد، ابنها البالغ من العمر ستة شهور. هاهي اليوم تعود بلباس أبيض، ثوب الحداد وفي قلبها وعينيها سواد يحجب عنها ما تخبئه لها الأقدار والمستقبل.
وهي تنتظر من سيأتي لاستقبالها في المحطة ، بدأت تستعرض شريط حياتها الوردي والذي انتهى بتلك الصدمة التي شرخت سعادتها ويتمت طفلها. هاهي الآن بين يدي المجهول لا تدري ما ستفعله حتى تضمن عيشا هنيا يخول لها إسعاد ابنها وإخراجها من محنتها..."

بقلم : ذة. لطيفة ناجي
المملكة المغربية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة