أُرجُوحَةُ المْشانقِ
صباح يوم بهيج، صحوت على صوت أهازيج فرح، وأناشيد حرية تنطلق في حيّنا، هرعت إلى الشارع، أحمل في صدري أنفاسا مكبوتة من سالف السنين، تكاد حنجرتي أن تنفجر من فرط الكلام الذي صدأ فوقها، وأصابعي ترتعش كجناح طائر لم يحلق طيلة حياته، وجبيني الذي تعود أن أنكسه من ذل الحياة وقساوتها، والإحساس بالدُّونيّة والهوان، اليوم رفعته إلى عنان السماء وأنا أتذكر كلمة لا أعرف مصدرها لكنها كانت شعار المستضعفين أمثالي (ارفع راسك أنت عراقي).
وجدت أصدقائي، يحملون أسلحة ويتجهون صوب مقرات الحكومة زودني أحدهم بسلاح وانطلقت معهم يحدوني أمل بانبلاج فجر جديد.
شباب بعمر الياسمين تحملنا تلك المسؤلية الكبيرة، انطلقنا لتحرير المدينة من دنس العبودية، حين وصلنا شحذت همتي ورفعت بندقيتي، وجدنا أزلام النظام متمترسين خلف السياج، ما إن شاهدونا حتى بدأوا بإطلاق النار علينا بكثافة، بقينا في محيط المكان ونحن نقاتلهم ببأس شديد، عرضنا عليهم الاستسلام لكنهم رفضوا...صرخت بمجموعتي:
-هيا بنا نهجم عليهم.
على بعد خطوات من مكاني حين شرعت بالهرولة، تلقيت رصاصة ثقبت جبهتي واستقرت برأسي، أحسست بحرارتها تذيب دماغي، سقطت مضرجا بدمائي، تجمع حولي أصدقائي، حاولوا إنقاذي، حملني أحدهم على كتفه وركض بي إلى مكان آمن، كانت روحي تتسرب من بين جوانبي.
صرخت بأعلى صوتي:
- يا إلهي لا أريد أن أموت.. يا إلهي لم أذق طعم الحريه بعد.. يا إلهي انقذني انقذني...
أضرب بيدي ورجلي لكن صراخي لم يصلهم وأنا أراهم يبكون بحرقة وحرارة فوق جسدي، زاد اضطرابي وتوتري وصراخي، فإذا بصوت أمي:
-ماذا بك يا ولدي؟ استيقظ، إنه كابوس استيقظ ياحبيبي، هيا يا ولدي.
ان استيقاظي اشد علي من موتي، فلا حرية إلا في حدود فراشي، كلها أوهام تلاشت مع أول نظرة لواقعي المزري، ما زال الظلم يفتك بنا، ما زالت تُحسب علينا أنفاسنا، ما زال الأخ يكتب على أخيه، والوالد يشي بولده.
تثاقلت أقدامي وأنا أتوجه إلى ملعب كره القدم إلى حيث أصدقائي الذين شاركوني حلمي، ذهبت وكلي لهفة للقائهم، وأقص عليهم رؤياي وما هو دوري وأدوارهم في تلك الرؤيا، أسرد لهم ما حصل وكنا مبتهجين وفرحين لم تغب نواجذنا عن الظهور حين تعلو ضحكاتنا.
أعمارنا صغيرة لكن آمالنا كبيرة، لم نرَ شيئا من هذه الحياة غير القهر والضيم، تلك النكات والضحكات نطلقها بعفوية لكي تنفس عنا القليل من همومنا والمستقبل الأسود الذي ينتظرنا فلا ضوء في نهاية نفق حياتنا.
لعبنا المباراة بروح وثقة عالية. كأننا في يوم من الأيام سوف نشق الكفن الذي يحتوينا، وننفض التراب عن وطننا الجريح.
وصلت تلك الليلة إلى البيت وأنا سعيد بلحظات الفرح التي شاركتها مع أصدقائي لكنها لم تدم طويلا، حين طُرق بابنا في منتصف الليل بقوة، وقد استشرفت ذلك، فالسر لايمكن أن تحتويه ثمانية عشر قفصا صدريا، لابد لأحدهم أن يفرغ ما في صدره، لكني قلت في نفسي ماذا سيفعلون بي إنه مجرد حلم.. خرج إليهم والدي فسأله أحدهم:
--هل ابنك طارق موجود؟
-نعم.
-اذهب واجلبه إلينا، ماذا فعل؟
-قلت لك اذهب، وإلا أسقطنا البيت على رؤوسكم، هيا بسرعة.
جاءني أبي تعلو وجهه علامات الخوف والشفقة والغضب بآن واحد:
-ماذا فعلت؟
- لم أفعل شيئا.
-هيا اذهب معهم. وسوف ألحقك.
سحبوني بقوة إلى السيارة بعد أن كتفوا يدي
ووضعوا قطعة قماش سوداء على عيوني.
لم يدر في خلدي أن يكون أحد أصدقائي سبب شقائي، فأنا أعرفهم جيداً، قد يكون أحد منهم كلم أبيه وبدوره نقلها لشخص آخر دون قصد، كل شيء جائز، لكنها ستبقى أضغاث أحلام..
في مركز أمن الدولة في المحافظة، رأيت الجميع فقد جمعوا كل رفاقي، ووضعونا في قاعة كبيرة وحققوا معنا واحدا تلو الآخر، وكأنهم لا يعرفون من هو صاحب القضية أو من هو المتهم، وقفت وسط الجميع وقلت لهم أنا صاحبكم، اتركوهم فهم لا ذنب لهم.
أخرجوا كل من في القاعة وأخذوا بتعذيبي وضربي بقوة وقال أحدهم:
-من الذي علمك بهذه الفكرة؟
-أين الفكرة بالموضوع كل إنسان تراوده الأحلام.
-أنت تخطط لانقلاب عسكري، وقد شرحت ذلك لأصدقائك وتحججت بالحلم، من يقول؟ ومن يعرف؟،ربما أردت طرح فكرك الأسود وتريد تطبيقه.
-نحن شباب صغار ليس لدينا أسلحة وليس لدينا ماضٍ إجرامي إنه مجرد وهم وسراب.
ضربوني بهستيريا إلى أن تعبت أيديهم والأسلاك التي يحملونها.
قلت لهم وأنا في تلك الحالة:
-إذا كنت أنا صاحب الفكرة، ما ذنب هؤلاء الشباب؟
لم يعجبهم كلامي وتركوني ملقى على أرضية القاعة يحيطني الألم وتأنيب الضمير.
في اليوم التالي اصطحبونا إلى محكمة الثورة
بدأ القاضي بالشروع في المحاكمة، كانت المحكمة كلها صورية حتى المحامي والذي من المفروض أن يدافع عنا، تكلفه المحكمة ليثبت التهمة علينا، بل إنه يزيد الطين بلة... أصعدوني إلى قفص الاتهام، قال لي القاضي:-
-ماذا تريد من فعلتك هذه؟
-لا شيء، وأردفت إنه مجرد حلم.
-أنا أعلم أنه حلم لكن عقلك الباطن يفكر في هذا العمل وبما أنك تفكر بهذا الموضوع فأنت خطر على الدولة، بل إن كل الشباب الذين تفاعلوا معك هم شعلة نار ستحرق الجميع، وإن لم تفعلوها اليوم فغدا ستكبرون أنت وأصدقاؤك وتفعلونها، إن الإجرام في عقولكم الصغيرة هذه وسيكبر معها، يجب أن يُعدم الجميع.
ثماني عشرة مشنقة تلاعبها الريح كالأراجيح تنتظر بلهفة رقابنا الصغيرة، كنت أول الصاعدين على تلك الدرجات الصغيرة.. أتذكر أيام فوزنا بالبطولات، وكيف نصعد إلى المنصة، لتعلق أطواق الياسمين والمداليات برقابنا، أحسست بنشوة الفوز تسري في عروقي، قبل أن تسقط آمالي واصلت مسيري وصعدت كي يوصلوني إلى مشنقتي لعلي حين أغفو تجف آلامي وأعاود حلمي.
هيثم العوادي /العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق