خواطر
جلس منفردا في مقهى كان قد عرف فيها أصحابا وأحبابا وما عاد الآن يراهم ولا يسمع عنهم. رابض بكرسيّه يتأمّل بقايا سجارته وما تبقّى من قهوته وسرح بذهنه في ماض كان بكلّ تفاصيله جميلا جدّا برغم ما اعتراه من ظلمات وكان سعيدا برغم ما تخلّله من هزّات كان سببها خارجا عن نطاق المجموعة. كان يتألّم من وحدته وبعده عمّن جمعته بهم الحياة وهي الّتي بعد ذلك فرّقتهم. كان يتذكّر يوم تعلّم التّدخين مع أصحابه وكانوا بذلك يتمثّلون المتحرّرين والمثقّفين وأناسا وقفوا على منابر السّياسة والعلم فيجلبون حولهم النّاس بفخامة صوتهم ورجاحة عقولهم أو هكذا تخيّلوا الأمر عندما مسكوا أوّل سجارة. كانوا شبابا يتشاركون سجارة وقهوة وتمتدّ يد أحدهم في كلّ مرّة ليدفع ثمن المشروب أو ثمن السّجارة الّتي دخّنوها ولا تفرّقهم الحسابات الضّيّقة بل عل العكس كانت توحّدهم فكلّ منهم كان يعرف أدقّ التّفاصيل عن الآخر. تقاسموا الألم والفرحة والبسمة وكنت تراهم ملتحمين في السّراء والضّراء ولا يمكن أن تخترقهم الدّخيلة ولا يمكن أن تفرّق جمعهم قوّة مهما تضاخمت. راح يتساءل أو قل يسأل قهوته وسجارته ما الّذي حدث فغيّر المشهد برمّته؟ أين ذهبت صحبة ذلك الزّمان في حين لم يتغيّر المكان؟ هل العيب في النّاس أم في الصّحبة؟ هل العيب في هذا الزّمان أم في ناس هذا الزّمان؟ ثمّ يستدرك ليسحب تساؤلاته كلّها فما عاد يوليها أحد قيمة ولم تعد في حسبانهم أبدا. المصلحة الخاصّة ودون ذلك هراء وصبّ الماء على الرّمال. ثمّ يعود ليسأل طاولته" ألم نلتفّ حولك في أحزاننا وأفراحنا ولا نفترق إلاّ والكلّ قد استعاد ثقته في المستقبل؟ ألم نتدارس أوضاعنا خفية وعلنا واحتفظت بذاكرتنا حتّى لا ننسى شيئا ممّا جمعنا؟ هل أصاب القوم فيروسا فقلب المفاهيم على عقبها ليستبدلوا ما تعاقدوا عليه بما دسّ لهم في أطعمتهم وشرابهم الجديد؟
أم أنّني كنت أحلم وها أنا أستفيق على واقع مرير كنت أتهرّب من العيش فيه لأنّه مؤلم ومحبط؟ " ثمّ يسحب سجارة أخرى ويشعلها فيدخّنها وكأنّه يستعيد وعيه أو كأنّه يريد أن ينتقل إلى موضوع آخر قد توحي به تلك السّجارة. يحرّك رأسه يمنة ويسرة مع ابتسامة مصطنعة يريد من خلالها رفض ما وصل إليه من أنّه كان يحلم. فقد عاش أوضاعا صعبة جدّا ولم يتخطّاها إلاّ بالتفاف أصحابه حوله ومناصرتهم له. وقد عاش الفرحة والسّعادة رغم قصرها لكنّه تشارك فيها مع أصحاب له فباتت أكثر وقعا على قلبه وشعوره. تذكّر أنّه أخطأ فوجد إلى جانبه صادقين فوجّهوه ليصحّح مساراته. تذكّر أنّه أصاب في العديد من المواقع فإذا بمن حوله يآزرونه ويثبّتونه على ذلك. هل كان ذلك محض حلم؟ هل كان ذلك فلما شاهده فأراد أن يعيشه في واقعه فصار يتوقّعه حقيقة؟ ها هو اليوم لا يجد ثمن قهوة ولا ثمن سجارة، من الّذي سيدفع ثمنها بدلا عنه وقد كان في الماضي لا يحتسب لذلك حسابا لأنّه وقتها سيجد من سيسدّد المبلغ عوضا عنه ودون أن يحتاج إلى كثير من السّؤال. غابت عنه الحلول وأقرّ في داخله أنّ حال الدّنيا انقلب إلى الضّدّ. واعترف أخيرا أنّ المثيرات الخارجيّة والواقع المعيش فرض على النّاس التّباعد والجري وراء المصالح الخاصّة دون الالتفات إلى غيرهم ممّن كانت تربطهم علاقات تعاون وتآزر وحبّ الحياة. اعترف أنّ المدراء الجدد وجّهوا النّاس وقد يكون هو منهم إلى نمط عيش جديد قد تصعب فيه إقامة علاقات صادقة كالّتي كانت في الماضي. ثمّ انتهى إلى أنّ تلك العلاقات القديمة تأسّست على حبّ التّقارب والتّعاون وهي أيضا منبثقة من حبّ البلد الّذي كان في حاجة للحمة النّاس فيه حتّى يتقدّم. هذه العلاقات لا بدّ ان تندثر ختّى يعيش المدراء وحدهم في رفاهيّة ويعيش بقيّة النّاس في خدمتهم حتّى أولئك الّذين اعتقدوا أنّهم أحسن من البقيّة فما هم إلاّ خدم عند من جنّدهم ضدّنا وأمرهم بتفريقنا. نعم هي" سياسة فرّ ق تسد" بدأت بتفتيت الوطن إلى حزيمات بشريّة لا يمكنها المقاومة والتّصدّي للظّلم وانتهت بتفريق المواطنين إلى فرادى عاجزين حتّى على الجلوس إلى صحبة صادقة. ومع ذلك يسأل صاحبنا " في من العيب ؟"
رشدي الخميري - جندوبة - تونس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق