Translate

الاثنين، 4 يوليو 2022

مَكِّيَّةُ وَاليَتِيمَةُ بقلم / ماجد حميد الغراوي

 


( قصة قصيرة)

مَكِّيَّةُ وَاليَتِيمَةُ

بقلم / ماجد حميد الغراوي

نَسَائِمُ آذَارَ النَّدِيَّةُ وَضِيَاءُ الصَّبَاحِ يَنثُرَانِ بَهَاءَهُمَا عَلَى مَنَازِلِ مَدِينَتِنَا العَرِيقَةِ الَتِي تَنْعَمُ بِهُدُوءِ الحَيَاةِ، الأَشجَارُ العَالِيَةُ أَمَامَ المَنَازِلِ وَدَاخِلَهَا تُعَانِقُ أَغْصَانُهَا سُطُوحَ البنَايَاتِ وَشُرُفَاتِهَا، وَاخْضِرَارُ الأَعشَابِ الصَّغِيرَةِ المُنتَشِرَةِ عَلَى امْتِدَادِ الأَرضِ المُنْبَسِطَةِ، وعَلَى حَافَّاتِ الشَّوَارعِ المُبَلَّطَةِ بِالإسْفِلْتِ، فِيمَا تُزَيِّنُ وَاجهَاتِ المَنَازِلِ وَالعمَارَاتِ زَخرَفَةٌ معْمَاريَّةٌ وَفَنِّيَّةٌ تُضِيفُ للمَدِينَةِ سِحْرًا يُميِّزُهَا عَنْ بَاقِي المُدُنِ.
تَعَالَى صَوتُ صُرَاخٍ وَعَوِيلٍ فِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحظَاتِ، انْبَعَثَ مِنْ أَحَدِ المَنَازِلِ الَتِي كَانَتْ تَقطُنُ فِيهَا امْرَأَةٌ عَجُوزٌ تُدعَى (مَكِّيَّة) مَعَ شَقِيقَتِهَا المَنْغُوليَّةِ البَلهَاءِ الَتِي تَبَيَّنَ فِيمَا بَعْدُ أَنَّهَا لَيسَتْ شَقِيقَتَهَا، بَلْ هِيَ فَتَاةٌ يَتِيمَةٌ مَاتَ أَبُوهَا فِي الحَربِ، وَتَخلَّتْ عَنهَا أُمُّهَا بَعْدَ اقْتِرَانِهَا بِزَوجٍ جَدِيدٍ، فَتَولَّتْ مَكِّيَّةُ هَذِهِ كَفَالَتَهَا وَرعَايَتَهَا؛ لِتَكُونَ شُغلَهَا الشَّاغِلَ فِي حَيَاتِهَا بَدَلَ الوَحدَةِ الَّتِي تَعِيشُهَا، كَانَتْ حَالَتُهَا مَيسُورَةً إِلَى حَدٍّ مَا، بَعْدَ أَنْ وَرِثَتْ عَنْ أَهْلِهَا مَنزِلًا صَغِيرًا ورَاتبًا تَقَاعُدِيًا يَكفِي لِمَعِيشَتِهَا، وَقَدْ ذَبُلَتْ زَهرَةُ شَبَابِهَا وَمرَّتْ سِنُونَ عُمرِهَا فِي دَوَّامَةِ الحَيَاةِ وَمَتَاعِبِهَا، فَحُرِمَتْ مِنَ الزَّوَاجِ الَّذِي لَمْ يَطرُقْ لَهَا بَابًا، فَكَانَتْ تَأْنَسُ بِوَحدَتِهَا حِينًا، وَتَتَأَلَّمُ بِهَا أَحْيَانًا.
هُرِعَ النَّاسُ صَوبَ الصَّوتِ إِلَى بَيْتِ المَرأَةِ العَجُوزِ، وَعِندَ بَابِ المَنزِلِ أَعْلَنَتْ بَعضُ النُّسْوَةِ مَوْتَ مَكِّيَّةَ المُفَاجِئ.
الرِّجَالُ الوَاقفُونَ أَمَامَ المَنزِلِ يُرَدِّدُونَ بِحُزْنٍ:
– كَيفَ حَصَلَ هَذَا؟! إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ، بِالأَمسِ كَانَتْ صِحَّتُهَا جَيِّدَةً!! وَيَقُولُ آخَرُ:
– أَشَدُّ مَا يُؤلِمُنِي حَقًّا هُوَ حَالُ البِنْتِ اليَتِيمَةِ؛ كَيفَ سَيَكُونُ حَالُهَا، وَمَنْ سيَرعَاهَا؟!
ثُمَّ فُسِّحَ الطَّرِيقُ أَمَامَ الخُطُواتِ السَّرِيعَةِ لِلطَّبِيبَةِ التِي جَاءَتْ طَوعًا دُونَ أَنْ يَستَدْعِيَهَا أَحَدٌ، تَحمِلُ حَقِيبَةً صَغِيرَةً وَسَمَّاعَةً طِبِّيَّةً؛ فَتَاةٌ في الخَامِسَةِ وَالعِشْرِينَ عَلَى الأَرجَحِ، تَسكُنُ فِي الزُّقَاقِ نَفسِهِ، فَاسْتَقْبَلَتْهَا النِّسَاءُ؛ بَينَ مُرَحِّبَةٍ بِهَا، وَمُتَبرِّمَةٍ لِمَجِيئِهَا لِمَوتِ المَرأَةِ وَفَواتِ الأَوَانِ، وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَات بَينَ ضَجِيجِ الحَاضِرِينَ وَعَوِيلِ النِّسَاءِ حَتَّى خَرَجَتِ الطَّبِيبَةُ وَهِيَ تَدفَعُ النُّسوَةَ وَتَدْعُوهُنَّ بِصَوتٍ عَالٍ للخُرُوجِ مِنْ غُرفَةِ المَرأَةِ العَجُوزِ، وَلتُفَاجِئ الجَمِيعَ وَهِي تَقُولُ:
– المَرأَةُ لَمْ تَمُتْ؛ إِنَّهَا فِي حَالَةِ إِغمَاءٍ.
وَهَكَذَا نُقِلَتْ مَكِّيَّةُ إِلَى المَشْفَى لِتَرقُدَ فِيهِ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، فَتَعُودُ بَعدَهَا إِلَى بَيتِهَا وَتَظهَرُ لِلنَّاسِ بِصِحَّتِهَا المُعتَادَةِ فِي السُّوقِ وَسطَ دَهشَةِ النَّاسِ وَهُمْ يَتَهَامَسُونَ عَنْهَا؛ كَيفَ مَاتَتْ وَعَادَتْ لَهَا الحَيَاةُ بَعْدَ سَاعَاتٍ، وَهِي الآنَ تَتجَوَّلُ أَمَامَ أَعيُنِهِم، حتَّى أَصبَحَتْ هَذِهِ الحِكَايَةُ نَادِرَةً يَتدَاوَلُهَا النَّاسُ، وَيُضِيفُ عَلَيهَا بَعضُهُم مَا يَشَاءُ مِنَ الإِضَافَاتِ وَالاسْتِنتَاجَاتِ.
فِي مَكَانٍ غَيرِ بَعِيدٍ عَنْهَا، وَقَفَتِ امْرَأةٌ تَرتَدِي حِجَابًا وَنِقَابًا عَلَى وَجهِهَا لَمْ يَتبَيَّنْ مِنهُ شَيءٌ سِوَى عَينَيهَا الصَّغِيرَتَينِ، وَهِيَ تَنظُرُ إِلَى مَكِّيَّةَ حِينًا، وَتُشِيحُ بِوَجهِهَا حِينًا آخَرَ
وَهِي تَقُولُ لِصَاحِبَتِهَا:
– الحَمْدُ للهِ، إنَّهَا لَمْ تَمُتْ، وَإِلَّا فَمَنْ لِابنَتِي البَلهَاءِ، وَكَيفَ سَيكُونُ حَالُهَا؟
– صَهٍ، مَكِّيَّةُ لَا تَمُوتُ؛ إِنَّهَا بِسَبعَةِ أَروَاحٍ، هَيَّا بِنَا قَبلَ أَنْ يَتعرَّفَ عَلَيكِ أَحَدٌ هَيَّا.
ماجد حميد الغراوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة