Translate

الأحد، 4 سبتمبر 2022

إطلالة في سطور (05) على الققج بعنوان "قناعة" للقاص اللبناني إبراهيم ياسين بقلم الناقد الفني الدكتور عبد الحميد سحبان "قناعة"

 إطلالة في سطور (05)

على الققج بعنوان "قناعة"
للقاص اللبناني إبراهيم ياسين
بقلم الناقد الفني الدكتور عبد الحميد سحبان
"قناعة"
بعدما حَدّقَ بواجهة المحل الزجاجية، شاهد راتبه بالكامل مطبوعاً على فردة حذاءٍ إيطالي. انفعلَ قليلاُ، اشْتَكى قليلاً، أشاح بصرهُ نحو الواجهة الأخرى حيث أبْصَرَ راتب جاره مُسعّراً على سروالٍ داخلي. انْفَرَجت أساريره، ثمّ انصرف راضياً بقسمته مواسياً نفسه بما حفظه عن أجداده "يلي بشوف مصيبة غيرو بتهون عليه مصيبتو".
ما أحوجنا للسخرية بأشكالها الراقية في أيامنا العصيبة هذه التي يعرف فيها العالم ارتفاعا بل تفاقما في نسب القلق بكل أشكاله وأنواعه. القلق من شظف العيش وضيق الأفق فضلا عن القلق الوجودي العام، فالبسمة التي يمكن للكاتب أن يقتلعها من الإنسان العربي المهموم والمغموم لا تقدر بثمن، قد تسهم في تلطيف الأجواء على ما فيها من توتر وتشنج، لأن المثل المغربي يقول" كِثْرَةْ اَلْهَمْ كَاتْضَحَّكْ".
السخرية في أعمق تعريفاتها تقوم أساسا على تغيير مسار الخطاب من خلال استطراد مُخلخِل للمعنى الحقيقي، مع الحرص على تشكيل معنى آخر يتماهى مع ما تمت خلخلته. فهي تتطلب تأنيا مزدوجا يبدأ بتأمل ما جاء به الكاتب من جهة والانخراط في تبني المحتوى الدلالي المقصود من جهة أخرى. فهي تؤسس لتعارض بين الأمر المقلق والمأساوي الذي يشغل بال الكاتب وطريقة معالجته له، تعارض يثير تساؤل القارئ ويدفعه إلى طرح العديد من الاستفهامات وإلى تنمية ملكة الانتقاد لديه.1
النص الذي بين أيدينا نص ساخر بامتياز، من نوع السخرية السوداء لأنه يؤكد بمرارة وأسى بؤس الواقع المعيش وعبثية الأقدار التي تجعل من قيمة حذاء قوم تساوي قيمة كد وجهد قوم آخر في مفارقة أكثر غلوا لأن هناك من لا يتجاوز أجرهم وكدهم ثمن سروال داخلي لا يظهر للعيان ولا يصلح إلا لستر العورة. إن الهدف من الخطاب الساخر يتمثل بالأساس في معالجة بعض القضايا الاجتماعية الشائكة، كما هو الأمر في هذا النص الذي سلط الضوء على تدني المستوى المعيشي كنتيجة حتمية للمشاكل الاقتصادية الكبيرة التي تتخبط فيها البلاد. والقص الذي بين أيدينا وَفِيٌّ للمنظور التقليدي للسخرية عبر قلب فني دقيق للمعنى باستعمال تقنية التعبير المعكوس، والمراد من ذلك إظهار تدني الأجر بطريقة معكوسة من خلال الحديث عن حذاء وسروال داخلي يساويان ثمن الأجر الشهري للبطل وجاره.
1- من حذاء الطنبوري المهذِّب إلى الحذاء الغربي المستفز
إذا تمكن حذاء الطنبوري الضارب في عمق المَشرق العربي المُشرق من تغيير حياة أبي القاسم رأسا على عقب من رجل بخيل أناني وماكر بأن جعل منه رجلا صالحا متصدقا وصادقا يحب الخير للناس، فإن الحذاء العربي كان له دور أخلاقي بَيِّنْ على صاحبه في ظل ازدهار اقتصادي وإشعاع ثقافي إبان فترة المجد والعزة. أما الحذاء الغربي فقد ظل حذاء مستفزا لمشاعر العربي قديما وحديثا. قديما بِدَوْسِه على أوطاننا بتقسيمها وتمزيقها وزرع بَذْرْ الفتن فيها. واليوم، وكما جاء في القص، باختزال وتبخيس عرق جبين المواطن العربي وكده وسعيه في كناية صريحة على أن الوضع ليس على ما يرام، وأنه لا يزال غارقا متخبطا بالرغم من خروج الحذاء الغربي تحت مسمى الاستقلال، لكن القبعة التي عوضته لم تعد قادرة على إخفاء فشلنا في اللحظة الراهنة.
2- سروال القس 2 بحثا عن التطهير وسروال الجار كنتاج للتفقير
إذا كان السروال الداخلي للقس "ولر" خط الدفاع الأول لمقاومة نزعات الشيطان. يسمح له بالابتهال إلى الله وهو مطمئن رابط الجأش لأنه يستر الجزء الأكبر من جسده ويمثل حصنه الحصين للفضيلة في خضم الفساد المرذول؛ فإن السروال الداخلي لجار البطل في القص معيب بكل المقاييس. إنه يمثل عرق الجبين كاملا غير منقوص لهذا المواطن المغلوب على أمره، في صورة مجازية تدل على قمة الهشاشة والتهميش. سروال لا يصلح إلا لستر العورة وَكَأَنَّ سعي جار البطل لا يتجاوز حد ستر عورة الجوع والعوز. مفارقة تظهر البون الشاسع ما بين السروالين: الأول ذو بعد أخلاقي تطهيري والثاني كنتيجة لواقع مؤلم وصل فيه التفقير إلى أسوإ ما يمكن تصوره، وبالأخص عندما أخبرنا الكاتب بحرقة ومرارة بأن بطل قصه شاهد على أن "راتب جاره [مُسعّرٌّ] على سروالٍ داخلي".
3لا زالت هناك بقية من الأنفة "قناعة"
يخرج الأمل من اليأس كما يخرج الرجاء من البؤس حينما انفرجت أسارير البطل عند إدراكه بأن سلم التدني لم يتوقف عنده. إنه ممتد إلى أسفل سافلين في قبو المحنة والضيق. ابتسم مرددا المثل الشعبي المشهور الذي يشبه القولة المغربية "آلٍّلي ضَرُّو حَالُو إِيشُوفْ حْوَالْ غِيرُو يِتْفَاجَا عْلِيهْ اَلْحَالْ فِي اَلْحِينْ". لازالت هناك بقية من الأنفة والعفة والرضا بالقَدَر مهما كان قاسيا ومؤلما. وهكذا أنهى القاص بتفوق سخريته السوداء بحصافة ووقار بيضاوين أكدت لنا أن العربي بالرغم من كل معاناته وابتلاءاته يتحدى في صمت وثبات، أَملُه قناعته وعتاده تقواه.
-----------------------------
1- انظر المقالة بعنوان "السخرية: "فنية الخطاب والقدرة الحجاجية" لـ "دانيال فورجي "عن موقع (URIDIT).
(IRONIE: STRATEGIE DU DISCOURS ET POUVOIR ARGUMENTATIF)
de (DANIEL FORGET) voir Site ERUDIT.
2- "سروال القس"، رواية للكاتب الأمريكي "ثورن سميث" ترجمة الدكتور "ثروت عكاشة". دار المعارف مصر، الطبعة الثانية، 1975.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة