Translate

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

شذرات من سيرة رجل لا يعرفكم بقلم الكاتب والأديب المبدع / عبدالكريم جماعي - تونس

 شذرات من سيرة رجل لا يعرفكم

بقلم: عبدالكريم جماعي.من تونس

تصدير:
( لم تكن امرأة بل كانت زلة قلب)
"الشاعر رحيم جماعي"
هل يستطيع الكائن البشري أن يعيش وحيدا؟ منطويا على نفسه مثل السلحفاة؟ حاملا همومه ومشاغله داخل قوقعته؟ راضيا بمصيره التعيس؟ مستغنيا عن علاقاته الاجتماعية؟ هاربا من مسؤوليته تجاه الآخرين؟
ليس بالخبز وحده يحيا الانسان..لكنّ بطلنا عاش به ولأجله..ربما واجهته أهوال في طريقه الى الحياة السوية..فاكتفى منها بما يشد عوده فقط..عرفته في اخر سنواته..كان حينها قد احيل على التقاعد من الوظيفة..بعد اعوام عديدة تنقل خلالها بين عدة جهات من الوطن..حتى استقر به الحال في مدينتنا..لم تكن له عائلة فهو لم يتزوج..مع تقدم العمر نسي الموضوع بتاتا..ليس لأنه غريب الاطوار..لكن بسبب علاقة حب قديمة لم تكتمل..جعلته يكره الجنس الآخر..عاش قصة حب رهيبة في بداية شبابه..علق عليها كل آماله..بنى عليها في خياله حياة مغايرة فيها دفء وسكن..راى فيها مستقبله باسما سعيدا.. ثم استيقظ على خبر اختفاء حبيبته فجاة..غادرته بلا رجعة..بحث عنها طويلا..دون جدوى..كأنها كانت محض خيال..هل من الممكن أن يختفي الانسان كالسراب؟
حاول استرجاع كل ما جرى بينهما..عله يعرف سبب هجرها له..لكنه للاسف لم يجد ما يشفي غليله..لم يحقد عليها رغم الجرح الغائر الذي بقي ينزف في داخله..!!
سألته مرة: (هل مازلت ترغب في رؤيتها بعد كل هذه السنين؟)
فاجابني بعد آهة طويلة:( لم اعد أريد منها شيئا..فانا نسيت جراحي القديمة..مع الوقت تعلمت أن أتجاوز..لقد سامحتها حقا ..الا أنه بقي سؤال واحد يقض مضجعي اتمنى ان تجيبني هي عليه...فلقد عشت فقط لأسمعه...وهذا السؤال هو...لماذا؟)
ثم استرسل كانه يهذي: (لقد كانت أيقونتي وأميرتي..رأيت من خلالها جمال الدنيا..ذقت بقربها حلاوة الايام..بنينا معا قصورا من الالفة والسعادة..كنت أخاف عليها حتى من النسمة ان تجرح خدها..دللتها كثيرا.. أهملت عائلتي واقاربي من اجلها..خططنا لزواجنا معا..وتعاهدنا على بناء العش بمودة ورحمة..)
سكت برهة ثم أضاف( كرهت بعدها النساء..لم تعد لي ثقة في البشر..قلت في نفسي مرارا..كيف بمقدور كائنة رقيقة كالفراشة..أن تصير خائنة للعهد..كنت أظن نفسي قد خبرت المجتمع فقد تعاملت مع شتى اصنافه..لم اجد صعوبة في اختيار الانقياء..لكن عندما التقيت محبوبتي أعطيتها الامان بلا تفكير فأخذت قلبي وهربت..داست على املي واختفت..سرقت مني سعادتي وتركتني للريح..!!
انعزلت عن الناس الا بمقدار ما يتيح لي ضمان العيش..قضيت اعوامي وحيدا..لا أنيس لي ولا رفيق..جربت بعدها علاقات عابرة لا تتجاوز حاجتي البيولوجية..أشبع رغباتي سريعا ثم اواصل حياتي بلا شغف او متعة..نسيت الزواج خاصة بعد تقدم العمر..تعودت على العزلة..حتى أصبحت جزءا مني..)
صمت فجأة..نظرت اليه.. كان مطرقا مهموما و يتنفس بصعوبة..كأنّ كلماته كانت تحبس مجرى الهواء..رفع عينيه فرأيته شاخصا في الفراغ.. محدقا في الفضاء بلا هدف..غادر مقعده بلا استئذان..كنا جالسين حينها في ركن داخلي من المقهى المعتاد.. خرج الى الشارع..مشى ببطء حذر كانه يتوقع حدوث شيء..كان فارع الطول مستقيم الظهر..دائم النظر الى الامام..مظهره يدل على شخص هادىء الطباع لكنه كان يغلي كالبركان..غاب في زحام الناس ولم يرجع الا بعد ايام..!!
لم يكن من عاداته أن يخبر احدا عن سر غيابه المفاجىء..يختفي متى شاء ويظهر متى اراد..لا يشارك الآخرين في مشاغلهم اليومية..يعيش كناسك.. مترفع عن لغوهم الساذج..مكتفي بحياته البسيطة البائسة..!!
اغتنمت في احدى المرات لحظات صفوه وسألته:( لم لا تعود الى ديارك وأهلك في العاصمة وترتاح من حياة الوحدة هذه؟)
فقال لي:( ليس لي أهل ألجأ اليهم..عشت يتيم الاب..شقيقي الاصغر هاجر منذ سنوات الى اوروبا ولم يعد..أختي الوحيدة متزوجة ولها عائلة كبيرة.. وتعتني أيضا بوالدتي..)
بلع ريقه وحدّق في عينيّ مباشرة..رأيت دمعة في أحداقه تأبى الخروج.. مسكني من ساعدي وهمس لي:( اسمع..لقد ماتت أمي منذ أشهر ولم أجد القوة والشجاعة لحضور جنازتها..بكيت عليها لوحدي..ناجيت طيفها في خيالي..طلبت منها ان تغفر لي وتسامحني..على هجراني لها..!
الآن فقط أصبحت أشعر بأنني يتيم رغم وفاة ابي منذ سنين طويلة..)
بقلم: عبدالكريم جماعي.من تونس
قد تكون صورة ‏شخص واحد‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة