Translate

السبت، 24 يونيو 2023

قراءة انطباعية ونقدية لقصة الأديب/ متولي بصل ( الحب في الزمن الضائع ) بقلم الأديبة والناقدة المصرية / مها الخواجة

 

قراءة انطباعية ونقدية لقصة الأديب/ متولي بصل (  الحب في الزمن الضائع )

بقلم الأديبة والناقدة المصرية / مها الخواجة



 الانتباه والندم بعد فوات الأوان، وجلد الذات وحسابها حسابا عسيرا على خطأ في الماضي، ومحاولة تدارك ذلك الخطأ لكن هذا التدارك يأتي في الوقت الضائع .. قصة بتيمة الحزن تضع نصبَ أعيننا تساؤلات تبحث عن حلولها .. • هل إنكار الحب ينفي وجوده؟ ‏هل القلب قادر على الوقوع في الحب مهما بلغ من العمر أرذله؟ ‏هل تعاقبنا نفوسنا؟، أم يعاقبنا الزمان بصفعاته؟ الشخصيات: في كل مؤلف سردي هناك شخصيات تتحرك وتؤدي أدوارها المنوطة بها، تختلف بين: شخصيات رئيسية، وأخرى ثانوية تنقسم إلى قسمين: (شخصيات ثانوية مساعدة وأخرى معرقلة) والشخصية الرئيسية في قصتنا (الحب في الوقت الضائع) هي شخصية الراوي، وهو الشخصية المحورية التي بدأت معها الأحداث والتفاعلات الزمانية والمكانية. والشخصية الرئيسية"الراوي" أخذنا معه منذ أول القصة مع تساؤلاته وإيضاحاته عن شخصه واعتقاده في الحب والمشاعر والعواطف، وسرد لنا عن نفسه ما يوضح أسلوبه المتبع في الحياة، والذي من وجهة نظره جعله ناجحا، ثم أبان لنا في وصف دقيق إقباله على الزواج بحثا عن السكن والذرية، ثم حيثيات تنقله من زوجة لأخرى وذكره لأسباب الطلاق من الزوجة الأولى ثم الثانية (سلوى، التي وضح أن سبب طلاقه منها عدم الإنجاب لأنها كما ذكر"عاقر") والتي تفاجأ بأنها أنجبت بنتا بعد زواجها من غيره، ثم ذكره لزوجته الثالثة والتي أنجبت له البنين والبنات. في مسار القصة ندرك أن الراوي يسرد محدثا نفسه في منولوج داخلي، وكأنه يراجع ما فات من عمره بعدما تخطى السبعين، يراجعها ويحاسبها وربما يعاتبها، فنتساءل معه لم فرت دموعه عندما تذكر الزوجة الثانية (سلوى)، لترتبط معنا ومعه هذه الذكرى بليلة عيد ميلاده وتجمع الأبناء والبنات والأحفاد والحفيدات للاحتفال به، وننتبه لخفقان قلبه حين رأى صديقة حفيدته وأثر رؤيتها عليه، ثم تعلق روحه بها لدرجة استجداء رؤيتها .. ثم يأتي دور الشخصية الثانوية المحورية في القصة، وهي زوجة الابن التي حين يتكلم الراوي عنها يصفها بالداهية، حيث يبدوا لنا عدم التوافق أو القبول بينه وبينها، إذ ذكر لنا عددا من مواقفها السيئة حيث أوضح لعبها على ابنه وإيقاعه للزواج منها، ثم كيدها لزوجته وموتها كمدا وحسرة بسببها. فقد أدرك أنها انتبهت لتعلقه بالفتاة الشابة، ومع ذلك وقع بإرادته في الفخ الذي نصبته له، حيث استغلت قربه ومحادثته للفتاة أسوأ استغلال، وافتعلت له صورا مسيئة جعلت أبنائه ينقلبون عليه ويسيئون معاملته .. أبنائه وبناته الذي كان قد وزع عليهم ثروته ونذر نفسه للعبادة وانتظار كلمة القدر، وجدهم ينهرونه مصدقين كلام تلك الحرباء التي سرقت دفتر مذكراته وفضحته أمامهم بما دون فيه، لينتفض صارخا فيهم: أعطيتكم أموالي فهل ستحجرون على قلبي ومشاعري؟! أتت النهاية حزينة ومؤثرة إذ أنه حين أفاق وجد نفسه في المشفى، بين أيادي الأطباء والممرضات ولا يشغل نفسه وعقله سوى ذكرى لوجه زوجته الثانية (سلوى) وحبها له، وتمسكها به ورفضها الطلاق حتى لو عاشت خادمة له ولمن سيتزوجها عليها، وانتباهه للشبه بينها وبين الفتاة (سلوى الصغيرة)، فيسأل نفسه: هل ما ناله من قسوة وجحود عقاب لذنبها؟ وهو بذلك قد نال جزاء إنكار الحب؟! جاءت الحبكة دائرية فانتهت القصة من حيث بدأ التساؤل، وجاء السرد القصصي والحوار الداخلي والخارجي بالعربية الفصحى البسيطة غير المتكلفة ولا المتقعرة .. تحياتي للكاتب القدير/ متولي محمد متولي وتمنياتي له بدوام التوفيق 

مها السيد الخواجه  دمياط في  ١٥ يونيو ٢٠٢٣م

القصة

 الحب في الوقت الضائع    

متولي بصل - مصر



       أكثر من سبعين سنة قضيتها وأنا مقتنع بأن الهوس الذي يسمونه حبا ً ليس سوى نقمة وبلاء! أليس هو الذي دفع قابيل لقتل أخيه؟! أليس هو الذي نزع من كليوباترا عرشها وحياتها؟! أليس هو الذي جلب الجنون لقيس ابن الملوح؟! .

       كنت من أشد المؤيدين للنظرية التي تقوم على أساس أن الحب هو سبب كل المصائب التي تعاني منها البشرية !

       لذلك كنت حريصا أشد الحرص على ألا أقع فريسة ً لذلك الوباء الذي لا يرحم كبيرا ولا صغيرا؛ ولا يترك عظيما و لا حقيرا !

       ولولا أن الزواج هو الوسيلة الوحيدة المباحة والمتاحة للاستقرار والإنجاب ما كنت تزوجت ! لقد تزوجت ثلاث مرات؛ الأولى طلقتها لأنها كانت متكبرة ومغرورة؛ دراستها للحقوق؛ وعملها كمحامية؛ كل ذلك جعلها تتعالى علي َّ؛ وأنا لا يمكن أن أقبل أبدا أن تتعالى علي َّ امرأة حتى ولو كانت قاضية في المحكمة!

       والثانية – لا أدري لم نزلت هذه الدمعة من عيني ! ربما دخل في عيني شيء ما – الثانية طلقتها لأنها كانت عاقرا؛ طلقتها رغم أنها كانت تحبني لدرجة الجنون! والعجيب أنني سمعت بعد سنوات من تطليقها أنها تزوجت؛ وأنجبت بنتا ً! ظللت أضرب كفا بكف عندما بلغني هذا الخبر؛ وقلت وقتها :

-       ما أعجب تصاريف القدر !

أما الثالثة؛ فقد ماتت منذ عشرين سنة؛ بعدما أنجبت لي أربعة أولاد؛ وثلاث بنات، ورغم هذه الزيجات فإنني لم أشعر بأي عاطفة نحو أية واحدة منهن! فقط كنت أتزوج من أجل الزواج الروتيني والإنجاب!

       إنني أحيانا كنت أتعجب من حالي؛ ومن قلبي الذي لم تُفتحْ أقفاله ُ يوما! حتى ران عليها الصدأ! ربما كنت بليد الحس؛ ربما كان قلبي من حجر؛ فالمشاعر والأحاسيس لغة لا أفهمها؛ ولا أستطيع فك طلاسمها !

       ومع ذلك كانت لهذا التبلد حسناته! فقد جعلني أركز في عملي؛ وأتفرَّغ له؛ حتى حققت كل ما أصبو إليه؛ وبعدما كنت مجرد صبي نجار؛ أصبحت واحدا من كبار مصدِّري الأثاث في دمياط !

       الليلة .. .. المعبد الذي قضيت ُ العمر أبنيه؛ انهد َّ فوق رأسي بنظرة ٍ واحدة! ففي هذه الليلة التي اجتمع فيها بعض أولادي  وأحفادي للاحتفال بعيد ميلادي الثالث والسبعين! وفي اللحظة التي كنت أستعد فيها لإطفاء شموع عمري؛ أصابني سهم ٌ لا يخطئ مرماه! كسر كل أقفال قلبي؛ وألقى بها تحت أقدام الصغار الذين كانوا يرقصون ويغنون فرحا ببلوغي أرذل العمر!

       نظرة واحدة منحتني سعادة تكفي لإسعاد العالم كله؛ هذه السعادة التي غمرت قلبي؛ جعلتني أدرك كم كنت ساذجا جدا؛ وغبياً جدا؛ لدرجة أنني حرمت نفسي طول هذه السنين من هذا الشعور الرائع الذي لا يمكن وصفه؛ والذي جعلني أشعر وكأنني أعيش ألف ليلة وليلة !

       وجه ٌ ملائكي الملامح؛ بابتسامة فاتنة؛ ونظرة ساحرة؛ بعث في قلبي الحياة؛ وجعله ينتفض من مثواه؛ ويزيح ركاما هائلا من الحرمان!

       إنه وجه إحدى صديقات حفيدتي؛ وزميلتها في الدراسة؛ في العشرين تقريبا؛ أي أنها تصغرني بنصف قرنٍ من الزمان! يا إلهي أين كنت طيلة هذه العقود ؟!

       لا أحد في هذا العالم – قبلها – أثرَ في َّ كل هذا التأثير! إن لوجهها جمال ٌ آسر ٌ؛ ولنظرة عينيها سحر ٌكاسرٌ لا فكاك منه! حتى إن الجميع كانوا يسترقون النظر إليها!

       انتهى الحفل ُ؛ وآوى كل ٌّ إلى مخدعه ِ؛ أما أنا فلم يغمض لي جفن! وكيف أنام ؛ وأحرم نفسي من رؤية ذلك الطيف الجميل الذي لم يعد يفارق مخيلتي!

       سبع ليال ٍ مرَّت؛ وأنا أحاول أن أجد طريقة تحمل حفيدتي على دعوة صديقتها – ذلك الملاك الذي أسر قلبي وعقلي – إلى البيت؛ تحت أي مسمى! ولاحظت امرأة ابني ما جرى لي؛ بل ويبدو أنها عرفت ما أحاول إخفاءه ! إنها داهية لا تفوتها صغيرة ولا كبيرة؛ استطاعت أن تلعب بقلب ابني؛ وتتزوجه رغم أنفي!

       هذه الداهية فوجئت بها تقنع ابنتها بدعوة صديقتها للمذاكرة معها؛ حتى أصبح وجودها شبه يومي! وأصبحت أنا شبه مقيم في شقة ابني! بل وبدأت هذه الشيطانة تتفنن في تهيئة الأمور لي ولصديقة حفيدتي حتى نكون على انفراد! فكانت تشغل ابنتها في أي أمر من أمور المطبخ؛ ثم تتسلل لمراقبتنا؛ كنت أشعر بوجودها وهي تتجسس علينا؛ إنها شيطانة؛ وأفكارها خبيثة مثلها!

       كنت أعرف أن هذه الملعونة تدبر لي ملعوبا من ألاعيبها القذرة؛ التي تسببت في موت زوجتي الراحلة كمدا وحسرة! ومع ذلك غضضت الطرف عما تدبره  لي؛ فكل ما كان يشغلني هو أن أحظى بأوقات أنظر فيها إلى ملاكي؛ وأتأمل وجهها المنير؛ وأسمع صوتها العذب؛ قلت لها مرة عندما تركتنا حفيدتي لأمر ٍما:

-       سمعت أنك متفوقة في دراستك .. .. ولذلك شجعت " نهى" على أن تطلب منك أن تذاكري معها!

-       كنت متفوقة يا جدو .. .. لكن هذا العام درجاتي متدنية جدا .. .. حتى إن بابا يريدني أن أترك الجامعة !

-       تتركي الجامعة .. .. معقول هذا الكلام؟!

-       لا .. .. أنا لا أريد أن أترك الجامعة .. .. بابا هو الذي يصر على أن أتركها .. .. وزوجته .. .. هي السبب !

-       زوجة والدك .. .. هي والدتك .. ..

-       ماما الله يرحمها .. .. ماتت من سنة .. .. الله يرحمها؛ كانت كل شيء بالنسبة لي !

-       الله يرحمها .. .. الله يرحمها .. .. ووالدك تزوج بعد موتها .. .. أرجو ألا يكون هذا الأمر قد قلل من حبك أو احترامك لوالدك .. .. لا أحد يعرف ظروفه !

-       لا يا جدو .. .. بابا تزوج .. .. وأمي على قيد الحياة؛ كانت مريضة؛ وراقدة في السرير؛ فوجئنا به يدخل علينا؛ وفي يده هذه المرأة؛ ويقول لنا أنها زوجته؛ وأمرني أنا وأمي المريضة بأن نخدمها! ماما لم تتحمَّل الصدمة؛ وماتت بحسرتها؛ ماتت من الذل والقهر؛ أما أنا فكل يوم أتمنى الموت حتى أستريح من العذاب الذي أعيش فيه!

نهران من الدموع سالا من عينيها؛ حاولت ْ أن تتماسك؛ لكنها لم تستطع؛ أخرجت ُ منديلا وبدأت أمسح دموعها؛ وددت لو أضمها إلى صدري؛ وأربت على كتفها؛ حتى أخفف عنها ما تجد؛  لولا وجه الأفعى الذي كان يظهر ثم يخنس في مرآة التسريحة!

       حاولت أن تبتسم؛ وهي تقول لي:

-       آسفة يا جدو .. .. أنا وجعت قلبك بحكايتي !

-       ماذا تقولين .. .. يا روحي .. .. أنا أعتبرك مثل " نهى " ؛ وأريدك أن تعتبريني مثلما تقولين جدك !

       قلت هذه الكلمة؛ وإذ بدمعة كبيرة تنساب فوق خدي؛ لا أعرف كيف أفلتت من قبضة جفوني؛ مسحتها سريعا بيدي؛ في نفس اللحظة التي عادت فيها حفيدتي؛ فاستأنفت الفتاتان مذاكرتهما؛ وابتعدت عنهما حتى لا أشتت انتباههما؛ وجلست على الكنبة متأثرا حزينا أفكر فيما سمعته! بعد قليل سمعت صوت الداهية تنادي :

-       يا " نهى " !

-       نعم يا ماما !

-       اذهبي يا حبيبة ماما .. .. وأحضري هذه الأشياء !

-       يا ماما أنا عندي مذاكرة .. .. ولا يصح أن أترك " سلوى " وحدها !

-       لا تقلقي .. .. جدو حبيبك سوف يجلس معها حتى تعودي؛ اذهبي وأحضري ما كتبته لك في هذه الورقة؛ حتى لا أتأخر في تجهيز الغداء !

-       حاضر يا ماما .. .. أمري لله !

-       نادي على جدك يدخل يونس صاحبتك .. .. لأني مشغولة في المطبخ ّ!

 وبالفعل عدت إليها؛ فإذا بها تبتسم ابتسامة حزينة؛ رغم شلال السعادة الذي كان يغمرني لمجرد جلوسي معها؛ ورؤيتها؛ وسماع صوتها؛ إلا أنني كنت حزينا جدا من أجلها؛ وكنت متشوقا أكثر لمعرفة المزيد عنها؛ فبادرتها قائلا :

-       كل شيء يولد صغيرا ثم يكبر، إلا المصائب فإنها تولد كبيرة ثم تصغر! وأنا بحكم سني وخبرتي في الحياة؛ أقول لك لا تتركي الدراسة مهما حدث؛ التعليم هو سلاحك في الحياة .. .. و لا تيأسي .. .. وإذا احتجت أي شيء.. .. أي شيء .. .. اطلبيه مني .. .. لا تترددي !

-       الحقيقة يا جدو الكلام معك جعلني أشعر براحة كبيرة .. .. من يوم موت ماما .. .. الله يرحمها .. .. كانت هي الوحيدة التي أستطيع أن أحكي لها كل شيء!

-       الله يرحمها .. .. اعتبريني ماما .. .. المهم فضفضي؛ حتى لا يستولي عليك الهم واليأس!

غمرتني السعادة؛ وأنا أرى وجهها يبتسم ابتسامة أنارت وجهها حتى بدا كوجه البدر ليلة التمام، ويبدو أن حفيدتي كانت قد عادت؛ فقد سمعنا أمها تقول بلهجة تملأها الدهشة :

-       هل أحضرت ِ كل المكتوب في الورقة !

-       المكتوب كله يا ماما .. .. أرجوك ِ .. .. أتوسل إليك ِ ممكن أذاكر ؟!

ثم وجدتها توجه الكلام لي ، وتقول :

-       ممكن يا جدو لو سمحت .. .. مرت ساعة .. .. ولم نذاكر أي شيء أنا و" سلوى" !

-       طبعا يا قلب جدو .. .. طبعا يا روحي !

   لم أكن في حاجة إلى من يذكرني بأنني هرمت، فأنا منذ عشرين سنة أعددت كفني؛ واحتفظت به في خزانة ملابسي! وقسَّمت تركتي بين أولادي وبناتي؛ حتى لا تضيع حقوق البنات كما هو سائد في هذه الأيام! ونذرت نفسي للذكر والعبادة!

    منذ عشرين سنة وأنا أتهيأ للرحيل غير طامع في يوم آخر أو حتى ساعة زيادة على العمر المقدَّر لي !

     لكن بعد رؤية " سلوى " ؛ أصبحت ُلا أتقبل فكرة الرحيل! انقلبت حياتي كلها رأسا على عقب! لا أدري ماذا حدث لي؛ أصبحت أقضي الليالي ساهرا متحيرا أتساءل :

-       أتكون امرأة ابني قد عملت لي سحراً؛ حتى أفتن بهذه الصبية؛ وأنا في ذلك العمر؟! ماذا سيقول عني أولادي وأحفادي ؟!

مرَّت أسابيع وشهور وأنا أتقلَّب بين الثلج والجمر؛ الدقائق التي أقضيها مع " سلوى " أشعر وكأني أتنعم في الجنة؛ والساعات الطوال التي تمر من عمري، وهي بعيدة عني أشعر وكأني أتعذب في الجحيم!

       حتى جاء اليوم الذي كنت أخشاه، لأول مرة منذ وفاة زوجتي، يجتمع أولادي وبناتي كلهم؛ أولادي الأربعة؛ وبناتي الثلاث! عرفت فيما بعد أن دواهي .. .. أقصد الملعونة امرأة ابني؛ هي التي جمعتهم في شقتها! كان من الطبيعي أن أفرح لا سيما عندما رأيت ابني الأكبر الذي عاد من السفر لا أعرف كيف! وأنا الذي كنت ألح عليه، وأتوسل إليه أن يأتي لأراه؛ وأرى أولاده قبل أن أموت؛ وكان كل مرة يتحجج بشغله في البلد العربي الذي يبعد آلاف الأميال! ورأيت ابنتي الطبيبة زوجة المهندس التي آثرت أن تعيش مع زوجها في الوادي الجديد! كيف حضرت بهذه السرعة؟! وأنا الذي كنت أترجاها أن تحضر لأراها هي والأولاد قبل أن أموت! وكانت تتحجج بأنها لا يمكن أن تترك زوجها وأولادها وحدهم في هذه المحافظة النائية!

       لم أصدق عيني َّ وأنا أرى أولادي وبناتي كلهم حولي؛ كدت أطير من الفرح، وكنت أريد أن أحتضنهم جميعا ؛ لكن نظرات دواهي الشامتة وأدت فرحتي قبل أن تكتمل! كانت تمرر عليهم هاتفها؛ تلك الملعونة ماذا تريهم ؟! مشاعر كثيرة متضاربة كانت تعتريني في هذا الموقف العجيب الذي لم أعد له عدته! أقبلتُ على ابني الأكبر- الذي عاد من بعد غياب – لأحتضنه؛ فما كان منه إلا أن قطب ما بين حاجبيه؛ وقال لي مستنكرا، وهو يريني صورا على الهاتف المحمول:

-       ما هذا .. .. من هذه .. .. ماذا يحدث ؟!

-       ماذا حدث يا بني .. .. وما الغريب في هذه الصور .. .. إنها صديقة " نهى " .. .. وأنا أعتبرها مثل " نهي " .. .. أعاملها كحفيدتي !

سمعت دواهي الملعونة تقول؛ وقد ثقبت كلماتها المسمومة طبلتا أذني َّ الضعيفتين :

-       صحيح .. .. الشيبة عيبة !

انتظرت أن يرد عليها أحد أبنائي أو إحدى بناتي! ولكن يبدو أنها كانت قد جندتهم جميعا في صفها، ثم فوجئت بابنتي الطبيبة تظهر لي دفتر مذكراتي؛ وتفتحه وتقرأ بعض السطور! ثم تقول لي مستنكرة :

-       معقول يا بابا .. .. تقول هذا الكلام .. .. إنني لا أصدق .. .. تحب بنتا من سن أحفادك ! أكيد أنت .. .. لا أستطيع أن أقولها !

كنت أريد أن أصرخ؛ وأسألها:

-       من أذن لك بأن تأخذي هذا الدفتر .. .. كيف تسرقينه من تحت وسادتي ؟!

لكن قبل أن أفتح فمي؛ فاجأني أصغر أولادي؛ آخر العنقود؛ الذي دللته، لدرجة أنه كان يركب على ظهري، وكأنني حمار؛ سن َّ لسانه ، وذبح به كرامتي وكبريائي، وهو يقول :

-       لماذا لا تستطيعين قولها .. .. قوليها لعله يعود إلى رشده قبل أن يفضحنا.. .. قولي له إنه فقد عقله .. .. إنه جن .. .. أصابه الخرف .. .. والله العظيم المفروض نحجر عليه.. .. أفعاله الصبيانية هذه ممكن تدمرنا وتقضي علينا!

انفجرت فيهم بكل ما تبقى فيَّ من قوة، وصحت فيهم بأعلى صوتي :

-       تحجروا علي َّ .. ..  لقد وزعت عليكم ثروتي كلها .. .. على أي شيء ستحجرون ؟!

على قلبي .. .. لا .. .. لن أسمح لكم أن تحجروا على قلبي؛ أنا ضحيت من أجلكم بكل شيء .. .. ضيَّعت عمري كله عليكم .. .. مالي ؛ بيوتي؛ محلاتي .. .. كل شيء .. .. لم يبق لي إلا .. .. إلا .. ..

       فجأة أظلمت الدنيا في عيني َّ، وعندما عاد الضوء، تغيَّرت الوجوه، لم أعد أرى وجوه أولادي أو بناتي! فقط وجوه فتيات صغيرات مثل " سلوى "! كلهن يرتدين ثيابا بيضاء!

       إحداهن اقتربت من وجهي؛ حتى شعرت بأنفاسها الدافئة تداعب أنفاسي المتقطعة! ثم مرَّرَت أناملها الناعمة كالديباج على عنقي؛ سمعتها تقول لزميلتها :

-       ليس أمامي إلا أن أركبها في رقبته !

-       إلى هذه الدرجة عروقه ناشفة .. .. ليس فيها دماء .. .. أكيد من قلة الأكل؛ يبدو أن لا أحد يهتم به !

بعد أن ركبت ( الكانولا ) في رقبتي، انصرفت هي وزميلتها، لم أسأل أين أنا، ولم أهتم بمعرفة ما حدث لي، فما رأيته في منامي كان كفيلا بأن ينسيني كل شيء! لم يكن وجه سلوى، بل كان وجه زوجتي الثانية؛ العاقر؛ أو التي كنت أظنها – بجهلي – عاقرا ! يا للعجب كيف لم أنتبه لهذا الشبه الكبير بينها وبين سلوى! لكأنها هي ! ليتني لم أطلقها! كانت تحبني لدرجة أنها قالت ، وهي تتوسل لي حتى لا أطلقها :

-       تزوج كما تحب .. .. لكن أرجوك لا تطلقني .. .. وسوف أعيش خادمة لك ولمن ستتزوجها !

كانت تحبني؛ وكان ردي على حبها أنني طلقتها؛ وكسرت قلبها، إنني أستحق أكثر مما أنا فيه الآن! 

 

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة