Translate

السبت، 23 سبتمبر 2023

خبز جاف إحدى قصص المجموعة القصصية ( ربعُ أنفٍ ونصفُ أذن ) للكاتبة المصرية دعاء زيان

 




خبزٌ جاف

اليوم ذكرى ميلاد «محسن جاويش العترة »، أتم سبعة وأربعين عامًا،

أعدتْ له زوجتُه «زينات » كيكة إسفنجية بالبرتقال، وزينتْها ببعض

حبات الكرز التي أعطتها لها أختها «كريمة » عند زيارتها لها، وبدلً من

أن تستمتع مع زوجها وابنتهما «فريدة » بطعم الكعك اللذيذ، انهال عليها

زوجُها بوابل من الانتقادات والمواعظ عن ضرورة الاقتصاد؛ فالغلاءُ دقَّ

أعناقَ العباد، والسكر والزيت الذي وُضع في الكعك كافيان لاستخدام

أسبوع، وما بالك بالبيض والبرتقال الأغلى ثمنًا من البضائع السابقة.

كان «محسن » رجلً سمينًا عريض المنكبين، اسمه «محسن » وهو من غير

المحسنين تمامًا، يلتهم كل شيء يقع نظره عليه، ولكنه يعشق الخبز الجاف

ويجعل كل من حوله -وخاصة ابنته «فريدة »- يتناوله عَنوة، مغمسًا بزيت

الزيتون الذي يأتيه هدية من أخيه «عبد المصلح »، المقيم بليبيا منذ سنوات

عديدة.

انطلق صوتُ «عتمان البرنس » وهو يقول: «بيكيا.. حاجة قديمة

للبيع »، تجمدت وجوه جميع مَن رآه أو سمع صوتَه من بعيد؛ فبالرغم

من أنه حسن الخِلقة ذا شعر أشقر اللون وبشرة بيضاء، تشع من وجنتيه

الحمرةُ، إلا أنه كان مكروهًا مِن جميع أبناء الحي؛ فقد كان جشعًا مستغلًّ،

والكل يعلم مدى حقارته، ومع ذلك كانوا يضطرون للتعامل معه عند

الحاجة؛ فقد كان الوحيد في المنطقة وجميع الأحياء المجاورة، مَن يعمل في

الخردة منذ سنوات بعيدة.

قبل عشرة أعوام، ظهر شابٌّ يافع من الصعيد أسمر البشرة يُدعي

«ناصف »، وبدأ بالعمل في الخردة، وكان شابًّا خلوقًا أحبه الجميع.

كان يعطي كل ذي حق حقه، سمعنا يومًا شجارًا قويًّا دار بينه وبين

«عتمان »، انهال على الشاب بالضرب، والشاب لم يدافع عن نفسه في بداية

الأمر، ترك «عتمان » يضربه لفارق السن بينهما، ولكنه تمادى وزاد في ضربه

وسبه؛ فاحمر وجه الشاب، وتغيرت ملامحه، ولطمه على وجهه؛ فسقط

مغشيًّا عليه؛ وضحك الجميع على «عتمان »، واستهزأ به أطفالُ الحيِّ،

وزفُّوه في الطرقات، قائلين:

«مِن دا بكرة بقرشين .»

بعد يومين، استيقظ أهل الحي على صراخ السيدة «أم هاشم » -صاحبة

المنزل الذي يقطن به «ناصف »- حيث إنه لم يذهب لرؤيتها كعادته في

المساء؛ فذهبت إليه فوجدته معلقًا في سقف الغرفة، الغريب أنَّ الحادث

قُيد ضد مجهول، مع أن الجميع يعلم مَن الجاني.

وقفت «زينات » تنظر للأوعية الفارغة، وفتحت باب الثلاجة

والأدراج، تفحصت الأرفف والفريزر؛ فلم تجد به ما يسد جوع «فريدة ،»

فقط الخبز اليابس، وزيت الزيتون، فتوسلت إلى «محسن » أن يأتيها

بالطعام، ولكنه قال جملته الشهيرة: «منين؟ » وأضاف: «العين بصيرة

والأيد قصيرة .»

جلست تبكي لساعات، وبعدها غسلت وجهها، وقررت النزولَ

لأختها «كريمة »، ولكنها تذكرت أنها في الطائرة؛ فقد ذهبت لأداء العمرة،

فقررت البحثَ عمن يُقرضها بضع جنيهات لتشتري طعامًا، ولكن

هيهات! الكل بائسٌ وحالته يُرثى لها، فالفقر أصبح حالَ الجميع، ومَن

معه قوتُ يومه يعد من الأثرياء.. وبعد بحث مُضنٍ، وجدت «عتمان »

أمامها يشتري جهاز تلفاز قديم من سيدة، ويعطيها خمسين جنيهًا، وبيده

رزمةُ من النقود فئة المائة جنيه، تكفي لإطعام الحي بأكمله؛ فهرولت

للمنزل، وبدأت تبحث عن أي شيء يمكن بيعه، فوجدتْ كل ما حولها

باليًا، المنزل بأكمله خردة، فزوجها العزيز لا يشتري إلا كل ما رخص

ثمنه، ولا يُصلح أي شيء كُسِ، فدخلت المطبخ وأحضرت صينية من

الألمنيوم، وطنجرة جدتها النحاسية الكبيرة، التي أهدتها إياها يوم زفافها،

واستجمعت شجاعتها، ونادت من النافذة على «عتمان »، وفي لحظات

صعد لأعلى، وأخذ يتفحصُ ما أعطته إياه بتمعنٍ، ثم أعطاها ورقة من

فئة الخمسين جنيهًا.

ثارت «زينات » وأخبرته بأن الأشياء تساوي ثلاثة أضعافِ هذا المبلغ،

ولكنه ضحك ساخرًا، وقال:

« - هو دا اللي عندي، هتاخدي الفلوس ولا أمشي ؟»

نظرتْ إليه بانكسار، وفتحت فاها لتقبل العرض.

وفى نفس اللحظة إذا بصوت رجل آخر يقتحمُ الصمت، قائلً:

 - بكيا..بكيا.. حاجة قديمة للبيع

دعاء زيان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة