Translate

الجمعة، 30 ديسمبر 2022

كرامة أحمق ... قصة بقلم الأديب المبدع / مصطفى الحاج حسين - سورية

 *** كرامة أحمق ...

قصة : مصطفى الحاج حسين
حين نلت جائزة الإبداع الأدبي والفكري من دولة الكويت ، ذهبت إلى دمشق لأصرف الشيك ، لأن البنك في حلب لم يسلمني المبلغ ، ذهبت بمفردي ليلا ، وكنت في تمام الثامنة صباحا أقف أمام البنك .. صرفوا لي المبلغ ، وعلى الفور عدت راجعاً إلى حلب .. الوقت صباحا والركاب قلة والبولمانات كثيرة ، قطعت تذكرة وصعدت ، وقدمت التذكرة للمعاون، فقال لي لا ركاب كثر ، إجلس حيث ترغب .. اخترت مقعدا ، خلعت معطفي ووضعته مع حقيبتي الصغيرة على الرف فوق رأسي وجلست .. وحين تحركت الحافلة لتمشي ، صعد رجل يشكو من شلل في رجله، ومعه امرأة .. والمقاعد كثيرة وفارغة ، نحن بضعة ركاب ، لا يتجاوز عددنا العشرة ، لكن هذه المرأة نظرت في تذكرتها ، وتقدمت نحوي ، قالت :
- هذا المقعد لنا.
ابتسمت لها ، وقلت :
- أختي المقاعد كلها فارغة .. أقعدي أينما أردت .
قالت وبحدة:
- هنا مكاننا .. وسنقعد هنا .
نظرت إليها .. تأملتها جيداً ، تبدو هذه المرأة رزيلة ووقحة ووسخة.. وزوجها عاجز ، وتبدو عليه علامات الطيبة ، فحاولت إقناعها بلطف :
- أختي ما الفرق ؟! .. أنا سألت المعاون وقال لي أجلس في المكان الذي تريده .. وجلست هنا بعد أن خلعت معطفي ووضعت حقيبتي كما ترين، فلماذا تريدين عذابي ؟! .. المهم أن نصل بالسلامة . صاحت غاضبة ، بطريقة بشعة :
- أنهض من مكاننا يا عديم الذوق .
وقبل أن أرد عليها ، فأنا شعرت برغبة بالتحدي .. قال لها زوجها:
- تعالي إلى هذا الكرسي .. يعني ما الفرق ؟! زعقت بوجهه بانفعال وعدم اكتراث واحترام :
- اسكت أنت لا علاقة لك بالأمر .
قررت أن لا أعطيها المقعد مهما كلف الأمر ، مع أنه لا فرق عندي بين مقعد وآخر .. بل لست جاهزا لمثل هذه المشكلة التافهة .. فأنا سعيد بحصولي على هذه الجائزة العربية ، والتي كانت حلم جميع أصدقائي ، وأنا لا أحمل الابتدائية ، في حين كان عدد من شارك في هذه المسابقة يتجاوز الثلاثة آلاف ، نسيت الرقم ، وكلهم من حملة الشهادات العليا .. ثم أن سعادتي عظيمة بهذا المبلغ الذي حصلت عليه ، أكبر مبلغ ألمسه وأحوذ عليه في حياتي ويكون لي .. منذ اليوم لن تحتج زوجتي على متابعتي للكتابة والنشر ، وسيتوقف أبي عن قوله :
- الأدب لا يطعم خبزاً ..
لكن هذه المخلوقة التافهة والساقطة من أين برزت لي ، لتقتل عليّ فرحتي ، وتشتّت لي خيالاتي وأحلامي ؟!..
وتقدم مني المعاون يسألني بلطف :
- أستاذ من فضلك تعال إلى المقعد المجاور .
وتوقف السائق عن المسير ، وكان قد خرج من المحطة ، واجتاز مسافة ليست بالقليلة .. وتدخل بعض الركاب ، والكل يرجو أن ننهي هذه المهزلة .. فقلت مخاطباً المعاون :
- حين أعطيتك تذكرتي، قلت لي أن أجلس على المقعد الذي أختاره .. وأنا اخترت هذا الكرسي ، فلماذا لا تطلب منها أن تجلس ومن معها على كرسي آخر ؟! .
قال المعاون وعلامات الحرج والارتباك باديتن عليه :
_ يا أخي .. هي مصممة أن تأخذ الكرسي المخصص لها .
وتحرك السائق من خلف مقعده ، وتحرك نحونا ، قائلاً في استياء :
- سوف ألغي الرحلة بسببكم .. ما رأيكم ؟ .
صاحت المرأة الفاجرة ، والتي شكلها وهنداهما تدلان على مستواها الوضيع :
- ناس لا تحترم النظام والقوانين .
صرخت بازدراء :
- وأنت ما شاء الله ، تبدين في قمة التحضر والذوق .
وهنا نهض رجل كان مقعده يقع خلف كرسي السائق ، أي في الصف الأول .. واتجه إلينا ، كان ضخم الجثة، غزير الشنب ، مكفهر الوجه .. تقدم نحونا مسرعا ، في عينيه غضب واضح .. وحين وصل إليّ .. صرخ :
- أنت رجل لا يفهم .. ولا تأتي بالذوق .. هيا انهض من هنا قبل أن أحطم وجهك .
تفاقم الوضع .. وجدت نفسي في ورطة لا نهاية لها .. والمرأة استبشرت خيراً بهذا الحيوان .. وأنا في قرارة نفسي ألعن نفسي على هذا المأزق الذي وضعت نفسي فيه .. ليتني منذ البداية نهضت وتخليت لهما عن هذا الكرسي اللعين .. ولكن الآن وفي هذه الطريقة المهينة ، صعب عليّ جداً التنازل والقبول ، والرضوخ للأمر الواقع .. كرامتي لا تسمح لي أن أهان .. كبريائي تمنعني من القيام بكل هذا التنازل .. يا ربي لم أرسلت لي هذه الداعرة ؟! .. ما عساني أن أفعل ؟! .. الوضع تأزم .. الرجل البغل يقف فوق رأسي ويلتقط أنفاسه بصعوبة ، يبدو أنه مجنون، عصبي إلى أبعد الحدود ، جسده الضخم بحجم جسدي بمرتين .. أردت أن أمهد لتنازلي، لخيبتي ، لمرارتي ، لانهزامي، لاستسلامي، فقلت :
- كلكم وقفتم معها لأنها امرأه.. لكنكم لم تكونوا مع الحق والمنطق .
لكن هذا المتوحش الذي يقف فوق رأسي ، لم يمهلني .. بل امتدت يده الضخمة وصفعتني على وجهي .. وهو يصرخ في هياج :
- قلت لك انهض يا عديم الذوق .. وإلّا قضيت عليك .. أنت لا تعرف مع من أنت تتحدث .. ليكن في علمك .. أنا رئيس مرافقة سيادة العميد الركن ( مصطفى التاجر ) رئيس فرع الأمن السياسي .
هالني ما أنا فيه من موقف فظيع.. أنا الآن أضرب .. أتعرض للضرب من قبل هذا الخنزير .. بسبب تلك الحقيرة الفاجرة .. يا الله !!! .. اليوم هو يوم فرحتي ، يوم سعادتي .. أنا حصلت على أهم جائزة عربية في الأدب ، عن مجموعتي القصصية الأولى .. الكل اليوم يحسدني ، وكان يتمنى أن ينال الجائزة بدلا عني ، فأنا بنظرهم لا أستحقها، لأني لا أحمل حتى وثيقة الإبتدائي ، في حين هم يحملون الشهادات الجامعية .. ولكن ما العمل الآن .. أردت التراجع .. لكن هذا السفيه لم يمنحني الفرصة .. وأنا بهذه الطريقة لا ألبي وأتنازل ،حتى لو قتلت .
أحتاج إلى معجزة من عندك يا ربي .. معجزة سريعة ، خاطفة .. لأنجو من هذا الموقف .. زعقت وأنا أهم بالنهوض :
- أتضربني ؟! .. أنت تضربني !!! .. ومن أجل هذه التافهة .. أنا سأريك.
قلت هذا، بينما كنت في داخلي أهزء من نفسي :
- وماذا ستفعل يا بطل؟! .. هذا يأكلك من دون ملح .
لكن هذا الضبع ، لم يتراجع ، ولم تهتز له شعرة من شنبه الغزير الشعر والأشقر اللون ، بسبب تهديدي له .. بل امتدت يده إلى خاصرته وأستل مسدساً ، أشهره بوجهي ، وهو يصرخ :
- وحق الله سأقتلك .. سأفرغ طلقات المسدس في صلعتك .
دب الذعر بين جميع الركاب ، والسائق ، والمعاون ، وزوج المرأة العاجز ، بل وحتى المرأة خافت وندّت عنها صرخة ذعر .. وهي تصيح :
- لا .. لا تقتله .. خلاص .. ما عدت أريد كرسيه ، دعه له .
وأنا بدوري كانت أوصالي ترتعد، رغم محاولتي كبح ارتعاشي.. وبذلت جهداً عظيماً لكي أتظاهر بالتماسك والشجاعة .
هتف السائق ، بعد أن كان يطلب منا أن نصلي على النبي ، ونهدأ:
- الحمد لله .. ها هي الأخت .. تنازلت له عن الكرسي .. وانتهت المشكلة .
وانبعث الأمل في داخلي من جديد .. انتهت المشكلة ، وسأعود لخيالاتي وأحلامي .
لكن صاحب الشنب الكثيف ، عنصر المخابرات ، زعق كالحيوان:
- بل سينهض غصب عنه .. وإلّا أفرغت المسدس في صلعته .
عاودتني موجة التحدي .. شعرت بالاهانة.. مع أني أتمنى من كل قلبي أن أغادر هذه الحافلة ، دون أن يعيدوا إليّ نقودي ، وسأخذ تكسي وأعود للكراج لأصعد على حافلة أخرى ..قلت في يأس وأنا أتظاهر بالشجاعة :
- هيا اقتلني .. ماذا تنتظر ؟!.. لن أترك الكرسي .
وصاح الجميع بصوت مليء بالضيق :
- يا جماعة صلوا على النبي .
وما كان من البغل الذي يشهر مسدسه .. إلّا أن ضربني بأخمص المسدس على رأسي ، وهو يزئر كوحش :
- وحق الله سأقتلك .
وصرخت جوارحي بجنون وقنوط:
- يارب أعطينا حلاً يرضي الجميع .. يا رب لا أريد أن أموت .. أريد أن أبقى وأعيش، وأكتب .. سأكون كاتباً عظيماً ، مثل نجيب محفوظ .. ونزار قباني .. ومحمود درويش.. وزكريا تامر ..
وفجأة .. ومثل انبعاث البرق .. خطر لي أن أقول :
- إن كنت تظن نفسك رئيس مرافقة سيادة العميد ( مصطفى التاجر ) ... فأنا ابن عمة الرائد ( طلال الأسعد ) .....
وما إن أنهيت كلامي هذا ، وأنا في غاية السوء والقلق .. حتى رفع مسدسه عني .. وتطلع بي بتمعن .. وهتف :
- قول وحق الله إنك ابن عمة سيادة الرائد طلال الأسعد .
وكان الرائد ( طلال الأسعد ) هذا ، هو بالفعل قريب لصديق عزيز على قلبي .. ولا أعرف كيف تذكرته .. في هذا الوقت الغصيب .. قلت :
- نعم أنا قريبه .. واليوم ستلقاني عنده .
تراجع ذو الشنب الضخم .. نظر إليّ باسماً .. وهتف بفرحة :
- لك أبوس اللي خلق الرائد ( طلال) .. سيادته حبيب قلبي .. واقترب مني ليحضنني، وتنهمر على رأسي ووجهي قبلاته الحارة والصادقة .
وهكذا انتهت المشكلة .
مصطفى الحاج حسين
إسطنبول
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏نظارة‏‏

أدلّة بقلم الأديب المبدع / فتحي بوصيدة - تونس

قصة قصيرة جدا

***أدلّة***
داخل عُلبِ كَرتونٍ أرادوا أن يحفظوا سنوات الوفرة... تراكمت أيّام الخوف، غشّت خطوات أحلامهم... تسلّلت إليها جواسيس العروبة، فيما أرادوا سحب ما ينفع الناس، علا غبار الخيانة؛ على الحدود حجزوها شحنة الابتسامات.
فتحي بوصيدة / تونس

فإذا هي فكرة تسعى بقلم الأديب المبدع / أبوالقاسم محمود

 

--------------فإذا هي فكرة تسعى -------------
مندفعة أوراقي هذه الليلة، قلمي جامح، تتراقص عيناي ما بينهما كعسس الليل .. كلما أغمضت جفنا أيقظتني وشوشات تدب فوق مسامعي لتشعرني بالبرد والوحدة ، أتحسس كنانتي لأطلق السهم المتبقي على المتربصين بغفوتي ،
وحتى لا ترتكب أقلامي الخطيئة على الأرصفة، أمنع اللقيا مستعينا بعصارة قهوة دون سكر ، أخشى أن تتشرد نصوصي في دور النشر بلا عنوان أو أن يتلقفها كاتب أبتر فينسبها لصلبه العقيم..
أقف سدا منيعا بين كل محاولات التزاوج بين قلمي والمسودة قبل أن تلبس فستانها الأبيض كعروس ، ويصير رحمها مشاعا بحكم الشرع والقانون لمدادي،
أنقش على البرواز المعلق عقد نكاح مشروط، وكلما علا سقف المطالب بين الزوجين أتدخل لإشعال الفتنة كي لا يسعدا على أنقاض تعاستي ..
ولأن المعركة واحدة أحرض الأقلام على مطلب التعدد كشرط ذكوري لحل إشكالية العنوسة الأنثوية ومشاعر اليتم، وكلما ٱستشعرت الأوراق تحايلي صغت مداخلة في (العدل والمساكنة ) درءا للشبهات!!
أقود مفاوضات شاقة، وحين ينفرط عقد الود يرتبك لساني، أسعى لرتق تمزقاتهم فأفشل في الحياد ..
ألوذ ببطانيتي مستترا بالدفء ، أؤدبهم عبر إبداء جفاء مستقطع ، وكلما زملت وجهي أبتسم للمنجزات ..
أستدعي بنات أفكاري تحت تأثير المنبهات، أدعوها على نفقتي الشخصية لرشفة من الكافيين المحلى ، يمتنع جزء منها بدعوى العتمة ، يحضر بعضها محملا بالحنين والبعض الآخر يحل بأجنحة منكسرة تحتاج الجبر فيغوص وجعها بين جوانحي !!
تتخاصم الشخصيات في اللاوعي مخلفة جروحا دامية تنزف في محبرتي ، تخبو أحداث وتتصارع أخرى فتصير مخيلتي ركحا لمسرحية تفتقد عنصر التشويق !!
وحتى تختمر الأفكار بين دفتي أضلعي أبتلع أقراصي المهدئة ، وحين أشعر بالبرد أتكوم بين سطري ومضة ساطعة ، ألتحف أشطر قصيدة هايكو وأنام طويلا في حضن الغياب لتقضى المساعي بتركها.
-28 دجنبر 2022
أبوالقاسم محمود

يوميات سائق طاكسي الجزء...8 بقلم المبدع / محمد الدحان

 #_يوميات_سائق_طاكسي الجزء...8

اشتد بي البرد أكثر في الساعات الأخيرة من تلك الليلة ، وأصبح مع مرور الوقت أكثر ضراوة ، وبدأ يلفح جسدي المتعب من كل جانب . كنت لا أزال مستيقظا ومستلقيا على ظهري فوق المقعد الخلفي لسيارتي ، عيناي متبثتان إلى السقف ، وتفكيري شارد . لم أعد أستطيع تحمل هذا البرد القارص ، أدرت محرك السيارة ، وشغلت المدفأ ، فبدأ هواء ساخن يتسلل إلى أطرافي التي كانت شبه متجمدة .
عادت حلقات تلك القصة ، وعاد شريطها يمر أمام عيني ، وتعجبت كيف أنني لم أستوعب الدرس منذ اليوم الأول .....؟ وكيف استسلمت لألاعيب ذاك النصاب ، وأنا المهني المحترف . لقد دفعت ضريبة غبائي وكان الثمن غاليا . فها أنا أقبع داخل سيارتي متجمدا من البرد ، جائعا وبعيدا عن أسرتي . منهزما مدحورا ، ومكسور الخاطر ، بينما هو ربما يحتفل الآن مفتخرا بنصره مزهوا به . وصرت أتخيل ما قد أفعله به إذا تمكنت منه ، أو وقع بين يدي ، سوف أنهش لحمه بأسناني انتقاما منه ........
لقد بدأت الأمطار تنهمر بغزارة الآن ، وصوت قطراتها فوق سقف السيارة يشعرني وكأني داخل سفينة شراعية وسط بحر هائج ، فيزيد من اضطرابي وتوتري ........
بدأت أحس ببعض الدفء يدب إلى أوصالي أخيرا ، فأوقفت المحرك والمدفأ ، ولم أشعر بعدها بنفسي كيف ومتى أغمضت عيني .
صحوت باكرا على هدير صوت محرك شاحنة كانت متوقفة بجانبي تستعد للانطلاق . كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا .فركت عيني ، ورتبت نفسي قليلا ، وعدلت من حالتي ، ثم قفزت إلى الكرسي الأمامي ، وأدرت المحرك ، وتوجهت مباشرة إلى محطة طاكسيات باب تازة ، وهناك أوقفت السيارة ونزلت منها . لاحظت أن جميع السائقين كانوا ينظرون إلي ، استغربت.... !!!! ...اقترب مني بعضهم ، سلموا علي ، ثم بدؤوا في طرح الأسئلة علي حول ما حدث بالأمس ، وأيقنت حينها أن سائق الأمس المفضل قد أخبرهم بالواقعة . ثم ما لبث أن لحق بهم باقي السائقين ، فأخبروني أن بينهم ضحايا لذلك النصاب أيضا ، وأنه فعل بهم مثل ما فعل معي بالضبط ، وأن التهمة التي دخل بسببها السجن لمدة ثلاث سنوات ، كانت النصب والاحتيال ....... قلت : هو محترف إذن......!!!!! أبدى الجميع تعاطفهم معي ، وتأسفوا لما حدث لي .......
كنت متجمدا من البرد ، وبطني فارغة إلا من دخان السجائر الذي كان يملأ صدري ، فاعتذرت منهم وقلت لهم : سأذهب إلى المقهى لأتناول شيئا أدفئ به معدتي ، فهي فارغة منذ الأمس وقد أتعبتني كثرة التدخين دون طعام .
قصدت مقهى قريبا من المحطة ، يقع قبالتها مباشرة ، ويقصده السائقون دائما . تناولت فطوري على عجل ، بدون رغبة حقيقية في الأكل ، بل كنت أدفع اللقمة دفعا إلى حلقي . فكيف لي أن أستمتع بالطعام ، وأنا في تلك الحالة من اليأس والغضب . ثم عدت مسرعا من المقهى بعد أن تركت نصف وجبتي ، وكوب قهوتي مملوءا فوق الطاولة . شغلت محرك السيارة وهممت بالمغادرة حين وفي حركة غير متوقعة ، وتصرف مهني نبيل ، استوقفني السائقون هناك وطلبوا مني التريث قليلا ، ثم حملوني بستة ركاب إلى تطوان مساعدة منهم لي ، وتعبيرا على تضامنهم وأسفهم لما وقع لي . كان حقا عملا شهما منهم ، شكرتهم كثيرا وأثنيت على موقفهم النبيل هذا وروحهم المهنية العالية ، وتحركت بسيارتي عائدا إلى تطوان.......
كنت ساعتها أقود سيارتي وأنا شارد الذهن ، منهكا ، ومصدوما . لم أكن أحس بأي شيء ، ولا أشعر بالمسافات ، وأكاد لا أرى الطريق ، ولا أركز فيها ، وكأن السيارة كانت تمشي وحدها . وصلت إلى تطوان ، وأنزلت الركاب ثم توجهت إلى بييتي مباشرة . دخلت وأنا مطأطأ الرأس ، غير قادر على الكلام . استقبلتني زوجتى باستغراب شديد ، فنظرت إلي في حيرة وسألتني : أين كنت ......؟... وماذا حدث معك.....؟ تبدو شاحبا ومشوشا....!!!!....كان الصمت جوابي ، وأفضل تعبير مني عن كل شيء ، لكن ، وبعد إلحاح كبير منها أجبتها : لقد نصب علي ذلك الزبون .......أجل.......لقد تركني مرميا بباب تازة وولى هاربا . ردت بأسف : لقد توقعت هذا حقا ، فقد كان قلبي منقبضا طوال الوقت ، وشعرت بحسرة فيه ليلة البارحة ، فأيقنت أن شيئا ما قد حدث لك. قلت : أجل ، إنها مصيبة حقا ، وعلي الآن أن أدفع لصاحب السيارة حسابه ، وأملأ خزان السيارة بالوقود من جيبي الخاص ، ذاك هو همي الآن ، لقد فعلها الجبان ، ولم يكفه قتلي مرة واحدة ، بل تلذذ في قتلي مرتين ، وأمعن في تعذيبي وإذلالي . آه لو أعثر عليه وأمسك به......!!!!........لقد تألمت كثيرا بالأمس.......فقالت : لا عليك الآن ، خذ حماما ساخنا ، واخلد إلى النوم ، وفكر في بناتك وبيتك وصحتك ، والأهم الآن ، هو أنك بخير بيننا ولم يصبك أي مكروه .أخذت حمامي ، ثم نمت نومة طويلة لم أصح منها إلا في المساء . أخذت مبلغا من المال من مدخراتي كنت أحتفظ به لنوائب الأيام مع قلته ، وتوجهت إلى محطة البنزين ،ومنها عند صاحب السيارة ، دفعت له حسابه ، وعدت إلى البيت مباشرة .
لم أشا أن ألتقي أحدا في ذلك اليوم ، وحاولت أن أنسى كل شيء الآن ، وأن أبدأ غدا يوما جديدا ، وأطوي هذه الصفحة حاليا . فما حصل قد حصل ، وماهي إلا ضريبة أخرى من الضرائب الكثيرة التي يدفعها المهنيون في كل مكان ، وعلي أن أتابع عملي ، ولا أجعل هذه الحادثة تؤثر على حياتي ومعنوياتي .
يتبع ...
محمد الدحان ..........

خربشات صباحية ........ بقلم المبدع / محمد الدحان

 




أنا ... وفنجان صامت بيني يدي كصمت الدهر ...
راحل أنا حبيبتي لا محالة .....
راحل أنا ولن أعدك بشيء .......
راحل وقد مزقت كل وعودي لك ....
ورميتها خلف ظهري ........
واعتنقت حزني ........
راحل أنا من ظلمة تهت فيها ......
ومن عاصفة حملتني بعيدا رياحها ........
ومن أمواج قذفتي إلى النسيان .....
ومن ذكريات ......
تلاحقني كظلي .....
ولا ترحمني ......
سأرحل وحدي .....
أجوب قفار خيبتي .......
وأدوس أشواكا زرعتها بيدي .......
بقدمي الحافيتين .......
لا ألم أشعر به .......
ولا إحساس ....
ولا وجع ......
كصحراء قاحلة صارت حياتي .......
لاخضرة فيها .......
لا زرع .......
لا ماء .......
ولا واحة خضراء تأويني .....
أرتمي في حضنها .......
أو تظللني .......
سوف أختفي .....
وسيختفي معي ظللي .......
وسأتوارى ........
كما تتوارى شمس المساء ......
وسأصمت حين ينتهي مني الكلام .......
وسأتوقف عن الكتابة حين يتعب قلمي ......
وحين يجف حبر أشواقي إليك ..........
محمد الدحان ......
خربشات صباحية ........


بشاعة بقلم الأديب المبدع / عبد الحميد سحبان - المغرب

 قصة قصيرة جدا

بشاعة
لم يسأل نفسه يوما عن نهاية المهزلة، بل ظل يعتقد أنها مجرد مسرحية هزلية، لكن أطوارها الأخيرة لم تكن ساخرة بل خاسرة بكل الأوصاف والنعوت، تحولت على إثرها إلى حرب داحس والغبراء من كثرة الضراوة، ماتت فيها سمات النخوة وكل مقومات المروءة، حتى ضيوف الشرف لم تشملهم ظروف التخفيف.

حبل الوصال 20 بقلم الأديب المبدع / رشدي الخميري جندوبة/ تونس

 حبل الوصال 20

هدأت الأجواء قليلا في المقهى .وهدأت وتيرة الكلام بين الأخوين وصديقهما وأصبحوا يتحدّثون عن موعد القضيّة والشّهود...يدخل المحامي إلى المقهى بعد أن ترك أخته في حيرة من أمرها.، لم ينتبه إلى أحمد ومرافقيه فجلس في ناحية منزوية نسبيّا حتّى يفكّر برويّة ويبتعد عن ازعاج النّاس لتفكيره. اثناء ذلك يدخل أصحاب احمد الآخرون ويتّجهون رأسا حيث أحمد والبقيّة وبعد التّحيّة طلبوا من النّادل مشروبات فذهب ليجلبها لهم عند ذلك قال لهم صديقهم الّذي دخل قبلهم " اراكم لم تستغربوا من جلوس النّادل معنا ومشاركتنا الحديث " فأجاب أحدهم " انا لا أستغرب أبدا فهو صديقنا منذ زمن طويل ثمّ إنّه كان دائما مقرّبا من احمد فلا استغرب أن يكون من أحد أقربائه الذّين نبحث عنهم ههههه" فضحك الأصدقاء كلّهم لكن لكلّ واحد منهم سببا. فأحمد وصديقه الأوّل يضحكان لتخمينات صديقهم الصّائبة أو ربّما لفطنته أمّا البقيّة فضحكوا لانّهم اعتبروا كلام صديقهم- وهو معهم - نكتة. يعود النّادل ومعه المشروبات وبعد إعطائهم إيّاها جلس في مقعده . فقال له أحد الأصدقاء: " كنّا نضحك لأنّ صديقنا اعتبرك أحد أقرباء أحمد ونحن نبحث عنهم من خلال الهاتف ومن خلال أناس يسكنون في مناطقهم في حين أنّك قريب " وعاودوا الضّحك وأحمد معهم فضحك النّادل وأحمد وصديقهم الأول فرحا واحساسا ببداية عودة السّعادة في صفّ الأصدقاء في حين ضحك البقيّة لأنّهم مازالوا ينكّتون.. و تعود الجدّية إلى الجلسة بتدخّل أحد الأصدقاء قائلا أنّه اتّصل بثلاث أشخاص بعد أن تحصّل على أرقام هواتفهم من حلاّق لا تفوته معلومة في المدينة أوّلا لأنّه يمتهن الحلاقة منذ صغره وفي نفس قاعة الحلاقة وثانيا كلّ حرفائه الذين يأتون من الرّيف أو من المدينة هم كهول أو كبار في السنّ وبالتّالي يتحدّث معهم في كلّ شيء. وأضاف أنّ واحدا من هؤلاء الأشخاص يسكن في حيٍ قريب من المقهى . في حين قال أنّ الشّخصين الآخرين يسكنان في أحواز المدينة ، ولكنّ ثلاثتهم من روّاد نفس المقهى الّتي يرتادها الأصدقاء. هذا الخبر فتح شهيّة الأصدقاء الأخرين كي يتحدّثوا عمّا وصلوا إليه من أخبار أو من اتصالات. فتبيّن بعد ذلك أنّهم قاموا بأكثر ممّا هو مطلوب منهم بحيث يمكنهم منذ الآن رفع القضيّة واعتبار الحكم لصالحهم مبدئيّا وهذا من جهة لأنّهم توصّلوا إلى جلّ الأشخاص المطلوبين كشاهدين وحتّى الّذين لم يتحصّلوا عليهم فقد تركوا لهم إعلاما لدى أناس يعرفونهم أو في دكاكين أو مقاهي يتعاملون يرتادونها. وعلى حين غرّة انتبه أحد الاصدقاء لوجود المحامي في المقهى فأشاروا لأحمد بأن يطلعه على كلّ ما وصلوا إليه. وفعلا هذا ما فعله حتّى أنّ المحامي استغرب لسرعة تحرّك أحمد وأصدقائه ، لكنّ أحمد لم يترك استغراب المحامي يمرّ دون ان يعلّق بأنّ طلب الحقّ والإحساس بضرورة ذلك هو المحرّك " فما ضاع حقّ وراءه طالب" كانت هذه الجملة صادمة للمحامي لأنّه اعتبرها ردّة فعل من أحمد على ما يكون قد عرفه على اخوته وقد يعتمدها لمساومته أو ورقة ضغط ضدّه خاصّة في موضوعه مع زينب. فردّ قائلا : " لم تكن هذه انتظاراتي من شخص توسّمت فيه الطّيبة والرّسانة والعقلانيّة" اضطرب أحمد من كلام المحامي فهو إن فهمه فإنّه لم يفهم غايته. فقال " اعذرني استاذي الكريم ، هل معنى كلامك أنّني يجب أن أتنازل عن حقوقي ومطالبي؟ " فيجيبه المحامي: " لا يا سيّد احمد ولكن لا يجب أن تبتزّ النّاس لتتحصّل على حقوقك أو ما تطلبه منهم" كان أحد أصدقاء أحمد قد استرق السّمع في جلّ ما دار بين المحامي وأحمد فتدخّل قائلا :" استاذ هل تسمح لي بكلمة على انفراد" انتفض أحمد آنذاك فالمحامي لم يفسّر له جملته الأخيرة الّتي أثارت غضبه وأراد أن يواصل حديثه مع المحامي. إلاّ أنّ صديقه أصرّ على طلبه من المحامي فهو يريد أن يتدخّل ليحول دون وقوع مشكلة بين المحامي وأحمد. رضخ أحمد على مضض،فاستفرد الصّديق بالمحامي ليقول له أنّ أحمد ليس له أدنى فكرة حول عائلة زينب وما فعله أبوها وأخويها الأخرين. عندها رجع المحامي لأحمد واعتذر على سوء تواصله معه متعلّلا بصعوبة ما يمرّ به هو وعائلته من جهة وبصعوبة القضيّة الّتي سيرفعها لصالح المدينة كلّها تقريبا ضدّ مجموعة أغلبهم غير معروفين. ولأنّ احمد طيّب فقد فبل اعتذار المحامي بل وقبّله ليبيّن له حسن نواياه . وعاد الاستقرار إلى المجموعة وعبّر لهم المحامي على حسن استعداده للمرافعة لصالحهم في قضيّتهم وأعلمهم أنّه استدعى معه أشهر المحامين ليكونوا عونا له وسندا فقد يخفق في خطوة ما وما لم يبح بها للأصدقاء أنّه قد يأخذه الحنين ففي القضيّة أخويه ومهما يكن من أمر فهما يعنيان له الكثير. وعندما أبلغوه الأصدقاء بما توصّلوا إليه فرح ولم يفرح..فرح لأنّ الشّهود سيسهّلون عليه بعض الأمر أو ربّما جلّه ولم يفرح من جهة أخرى فأخويه سهل أمر إدانتهم.. ورغم ذلك سيقوم المحامي بما يمليه عليه ضميره المهنيّ فهكذا تعوّد أن يتناول قضاياه.
زينب ربّة البيت الصّبورة المتعقّلة، بعد كلام أخيها المحامي معها، مسحت دموعها وأحضرت طعام الغداء ثمّ بدأت تستعدّ نفسيّا لما قد يأتي من أحمد..أخويها..أخوها المحامي..تبادر إلى ذهنها أنّ أحمد بعد أن يعرف ما فعله أخواها وأبوها فقد يقطع علاقته بها رغم حبّه العظيم لها ورغم أنّها كما قال تمثّل حياته وسبب عيشه. لكنّها في داخلها كانت مطمئنة لأنّها عايشته عن قرب وخبرت معدنه وفي نفس الوقت كانت تخاف من تأثير النّاس وخاصّة الّذين تضرّروا من افعال عائلتها بدون اعتبار المحامي الّذي لم تكن له أيّة صلة بأخويه خاصّة فيما تعلّق بأعمالهم خارج البيت. تبادر إلى ذهنها أيضا أنّ أخويها قد يردّان الفعل على تحرّك أحمد فيضرّانه بشكل أو بآخر وهي لا تحتمل النّسيم يحرّك شعرة من أحمد ..وهذا بعث فيها حيرة و خوفا لا يوصفان فالغريق يتعلّق بأيّ شيء وهذا حال أخويها..ثمّ ذهب تفكيرها إلى أخيها المحامي المسكين الّذي وضع بين نيران لم يكن له فيها يد ولا ساق سوى أنّه انتمى إلى مدينة ملغّمة بالأحداث وإلى عائلة " ربّها يضرب الدّفّ فكيف نلوم الصّبية على الرّقص.. " فعلا كان اللّه في عون زينب والمحامي..عاد المحامي بعد مغادرة المقهى وذهنه لم يقف عن التّفكير والبحث عن حلّ يخرجه من ورطة الأخوّة من جهة ودوره كمحام أقسم على أداء واجبه وملازمة الحياد والانحياز إلى المظلوم من جهة ثانية. يدخل المحامي فيجد أخته في المطبخ تقريبا حيث تركها فتقف لتستقبله وكأنّها لم تره منذ سويعة أو أكثر بقليل مرّت. فيقبّل جبينها ويدعو لها بطول العمر. فقالت له " أرى أنّ خروجك قد هدّأ من روعك أو ربّما وصلت إلى حلّ أراح ضميرك" فيجيبها" ليست المشكلة مع ضميري بل مع قلبي وإحساس الاخوّة أكثر من أيّ شيء آخر" فأظهرت زينب رجاحة عقل ورسانة جعلت المحامي يهدأ بعض الشّيء. زينب طرحت على أخيها ان يحاور اخويه في شأن تلك القضايا ويعرف إلى أيّ حدّ هما متورّطان وعلى أثرها يحدّد كيفيّة التّعامل مع تلك القضايا وقد يجد مخرجا قانونيّا يحسم الأمر أو على الأقلّ يجد موقفا يساعدهما على التّخفيف من ضلوعهما في تلك القضايا. ابتسم المحامي وقال لأخته" قد أحتاجك في مرافعاتي المقبلة إذا انتهت قضيّتنا هذه بسلام أو بأخفّ الأضرار"انتظر المحامي عودة احد اخويه من المسجد فهو اصبح لا يضيّع وقت صلاة خارج المسجد بل وأصبح من الزّاهدين وترك " الدّنيا بكلّ ملذّاتها " وهاهو يعود. قبّل اخته من جبينها ودعا لها بطول العمر وطلب منها ان تضع الغداء على الطاولة ولتدعو اخاهما المحامي .جهّزت زينب بما لذّ وطاب من طبيخها الّذي ورثته عن أمّها قبل أن تفارقها وهي شابّة يانعة. بعد تناول الغداء ومع كأس الشّاي طرح موضوع القضايا المنوطة بالأخوين وأبيهما فما كان من الأخ الاكبر إلاّ ان اعترف بكلّ الّذي حضر عليه ،فاتّضح من خلال كلامه أنّ أبيهم هو الفاعل في عدّة قضايا لكنّه كان عبدا مأمورا وهناك عصابات كانت ترغمه على فرض سيطرته على المدينة وقال أنّه يملك أدلّة على ذلك . كان هذا الكلام " بردا وسلاما " على قلبي المحامي وزينب حتّى أنّهما ارتميا في حضن اخيهما وقبّلاه من الفرح. لم ينتظر المحامي عودة أخيه الآخر فهو خارج البلد في سفرة عمل.
رشدي الخميري/جندوبة/ تونس

قصة قصيرة سارق أم مسروق ؟ بقلم الأديب المبدع / د. سعد جبر عميد كلية الإعلام بجامعة باشن

 قصة قصيرة

سارق أم مسروق ؟
أخذ شهيقاً كبيرا وهو يرتدي قفازات حديثة لا يمكن معها تتبع البصمات ، شد الرحال لبيت جاره الوحيد الذي لم يسرقه، كان يراه كل يوم يجر قدميه القصيرتين مقلدا السلحفاة البرمائية حين تزحف على الشاطئ وتدعي أنها تسير، كان يعرف أن وجهته واحدة من اثنتين إما المسجد أو المقهى، إنه رجل لا يحتاج لمراقبة فمخطط حياته وحركاته مرسوم بهدوء يتحرك فيه بعناية وحذر لا يكاد يخطئه كأنما هو لعبة القطار السريع الذي فرغت بطارياته الجافة فكاد أن يتوقف لكنه لم يفعل،
حمل حقيبة فارغة ولف رأسه بلفافتين سميكتين أغلقتا نوافذه السبعة فلا نعرف كيف يسمع ولا كيف يرى ، فالجو بارد جدا والليلة حالكة السواد محق سوادها قمر الليالي وتنتظر الدنيا هلالا جديدا بأقرب وقت،
انسل بلا صوت ولا صورة، كان يحفظ مداخل بيت جاره ومخارجه ولا يحتاج لدليل ولا لوقت للتفكير في أي شيء، لكنه استطاع الدخول من المدخل الكبير بكل سهولة فالباب عتيق يمكن فتح قفله بمعظم مفاتيح الدنيا
هدوء رهيب لا يخشى منه، وظلام دامس يضطره للبحث عن مفتاح الضوء، تجرأ ففتحه، وليته ما فتحه ..تفاجأ بجاره العزيز يقف أمامه لا يكاد يظهر منه شيء سوى جبهة عريضة بها بصمة مميزة معروفة وتجاعيد ترسم خريطة العالم كله بطريقة مختلفة ، لم يكن يفصله عنه إلا بوصة أو بوصتين، ولبرهة فكر في إغلاق مفتاح الضوء مرة أخرى لكنه ضرب الأخماس في الأسداس فوجدها متساوية، ماذا عساه أن يفعل هذا المسكين ؟ لكن تفكيره طال لأكثر من برهة، كيف ومتى وصل هذا الرجل عندي؟ كاد أن يصرخ من شدة الدهشة فجاره الهرم كانه لم يره تحرك ببطء عائدا لفراشة في غرفة النوم الصغيرة مفتوحة الباب، قتل الفضول صاحبنا ليتابعه خطوة بخطوة في مشهد درامي ساخر نسي معه هدفه ومقصده، وصبر دهرا حتى دخل الرجل غرفته والتحف بطانيته ونام، لقد سمع غطيطه بعد أن اختفى داخل البطانية بثانيتين اثنتين، جال السارق ببصره مقتحما كل شبر يمكن رؤيته بالغرفة الضيقة فلم يجد شيئا رجع خطوتين للخلف أخذ يقلب كل ما يراه أحدث جلبة وقعت الأطباق وأدوات الصيد القديمة ومنضدة لا شيء فوقها ولا شيء تحتها، رفع رجله ليتعدى بعض الكراكيب ثم لم ينزلها تسمر مكانه واقفا على ساق واحدة ما هذا؟ سجادة الصلاة ؟ رباه ماذا أفعل؟ ترى هل يدوس بحذائه المتسخ على السجادة ؟ لا وألف لا ؟ إلا الصلاة لقد تربى على أن لا يمر من أمام أبيه عندما كان يصلي وكان يقبل المصحف والسجادة ويرفعهما بأعلى رف في البيت، كان أبي يصلي كل يوم، نعم كل يوم .. رحمك الله يا أبي، حاول أن يقفز بخطوة واسعة كان متدربا على القفز العالي وتخطي الحواجز، وبكل قوة فعلها أحس بفرحة غامرة أنه استطاع احترام السجادة وأنه لاتزال به قوة للقفز حتى ولو على ساق واحدة، ولكنه لسوء أو حسن حظه ركل بقدمه مطهرة الوضوء أحس ببرودة الماء تصل إلى مخ عظامه حين تبللت قدمه من مائها ، ارتعش قلبه وهو يقول كيف يكون هذا ماءً للوضوء؟، استطاع أن يدركها قبل أن تغرق بمائها المسكوب كل شيء، فكر في التأكد بنفسه من برودة الماء التي صدمته ، خلع القفاز الأيمن، توقف الزمن وتجمدت أصابعه حين لامست أنامله الماء البارد، في صفحة الماء ظهرت صورته متخفيا عن نفسه، الضوء لا يكفي لرؤية التفاصيل لم يخرج يده من الإناء الفضي اللامع النظيف أسرته زخارفه القديمة لكنه استطاع أن يقرأ كلمتين على الغطاء الذي تنحى جانبا ليظهر له جمال الماء وبرودته، أعاد قراءة الكلمتين مرتين أو ثلاثاً، قال في نفسه ربما لا يملك هذا العجوز أغلى من هذا الإناء إنه غنيمتي الليلة، لا تزال يده هناك نسيها وتذكر أمه حين كانت تتوضأ لصلاة الفجر كل يوم، نعم.. كل يوم، ترددت عينه بين المطهرة والسجادة المخملية السميكة ، فكر في ضمها للغنيمة، أخرج يده من الماء نسي شدة البرودة بمجرد ملامسة أهداب السجادة المحكمة النسيج، مر بيده عليها مرة أو مرتين ثم غاب عن الوعي لم يدر أين هو إلا بعد دقائق، فتح عينيه ليجد قفازاته ملقاة عن يمينه ولفافات رأسه عن يساره ومعظم جسده يتقاطر ثلجا لا ماءً، كانت قدماه مصفوفتين في أدب جم على السجادة المخملية الخضراء، وهو متجه للقبلة، يحاول أن يقول كلمتين خفيفتين كانتا على ذلك الغطاء المزخرف القابع فوق المطهرة، كان ينظر لكفيه المرفوعتين للسماء ينتظر شيئا جميلاً لكنه لا يدري ما هو.
بقلم د. سعد جبر عميد كلية الإعلام بجامعة باشن
ديسمبر 2022م

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة