Translate

الجمعة، 30 ديسمبر 2022

يوميات سائق طاكسي الجزء...8 بقلم المبدع / محمد الدحان

 #_يوميات_سائق_طاكسي الجزء...8

اشتد بي البرد أكثر في الساعات الأخيرة من تلك الليلة ، وأصبح مع مرور الوقت أكثر ضراوة ، وبدأ يلفح جسدي المتعب من كل جانب . كنت لا أزال مستيقظا ومستلقيا على ظهري فوق المقعد الخلفي لسيارتي ، عيناي متبثتان إلى السقف ، وتفكيري شارد . لم أعد أستطيع تحمل هذا البرد القارص ، أدرت محرك السيارة ، وشغلت المدفأ ، فبدأ هواء ساخن يتسلل إلى أطرافي التي كانت شبه متجمدة .
عادت حلقات تلك القصة ، وعاد شريطها يمر أمام عيني ، وتعجبت كيف أنني لم أستوعب الدرس منذ اليوم الأول .....؟ وكيف استسلمت لألاعيب ذاك النصاب ، وأنا المهني المحترف . لقد دفعت ضريبة غبائي وكان الثمن غاليا . فها أنا أقبع داخل سيارتي متجمدا من البرد ، جائعا وبعيدا عن أسرتي . منهزما مدحورا ، ومكسور الخاطر ، بينما هو ربما يحتفل الآن مفتخرا بنصره مزهوا به . وصرت أتخيل ما قد أفعله به إذا تمكنت منه ، أو وقع بين يدي ، سوف أنهش لحمه بأسناني انتقاما منه ........
لقد بدأت الأمطار تنهمر بغزارة الآن ، وصوت قطراتها فوق سقف السيارة يشعرني وكأني داخل سفينة شراعية وسط بحر هائج ، فيزيد من اضطرابي وتوتري ........
بدأت أحس ببعض الدفء يدب إلى أوصالي أخيرا ، فأوقفت المحرك والمدفأ ، ولم أشعر بعدها بنفسي كيف ومتى أغمضت عيني .
صحوت باكرا على هدير صوت محرك شاحنة كانت متوقفة بجانبي تستعد للانطلاق . كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا .فركت عيني ، ورتبت نفسي قليلا ، وعدلت من حالتي ، ثم قفزت إلى الكرسي الأمامي ، وأدرت المحرك ، وتوجهت مباشرة إلى محطة طاكسيات باب تازة ، وهناك أوقفت السيارة ونزلت منها . لاحظت أن جميع السائقين كانوا ينظرون إلي ، استغربت.... !!!! ...اقترب مني بعضهم ، سلموا علي ، ثم بدؤوا في طرح الأسئلة علي حول ما حدث بالأمس ، وأيقنت حينها أن سائق الأمس المفضل قد أخبرهم بالواقعة . ثم ما لبث أن لحق بهم باقي السائقين ، فأخبروني أن بينهم ضحايا لذلك النصاب أيضا ، وأنه فعل بهم مثل ما فعل معي بالضبط ، وأن التهمة التي دخل بسببها السجن لمدة ثلاث سنوات ، كانت النصب والاحتيال ....... قلت : هو محترف إذن......!!!!! أبدى الجميع تعاطفهم معي ، وتأسفوا لما حدث لي .......
كنت متجمدا من البرد ، وبطني فارغة إلا من دخان السجائر الذي كان يملأ صدري ، فاعتذرت منهم وقلت لهم : سأذهب إلى المقهى لأتناول شيئا أدفئ به معدتي ، فهي فارغة منذ الأمس وقد أتعبتني كثرة التدخين دون طعام .
قصدت مقهى قريبا من المحطة ، يقع قبالتها مباشرة ، ويقصده السائقون دائما . تناولت فطوري على عجل ، بدون رغبة حقيقية في الأكل ، بل كنت أدفع اللقمة دفعا إلى حلقي . فكيف لي أن أستمتع بالطعام ، وأنا في تلك الحالة من اليأس والغضب . ثم عدت مسرعا من المقهى بعد أن تركت نصف وجبتي ، وكوب قهوتي مملوءا فوق الطاولة . شغلت محرك السيارة وهممت بالمغادرة حين وفي حركة غير متوقعة ، وتصرف مهني نبيل ، استوقفني السائقون هناك وطلبوا مني التريث قليلا ، ثم حملوني بستة ركاب إلى تطوان مساعدة منهم لي ، وتعبيرا على تضامنهم وأسفهم لما وقع لي . كان حقا عملا شهما منهم ، شكرتهم كثيرا وأثنيت على موقفهم النبيل هذا وروحهم المهنية العالية ، وتحركت بسيارتي عائدا إلى تطوان.......
كنت ساعتها أقود سيارتي وأنا شارد الذهن ، منهكا ، ومصدوما . لم أكن أحس بأي شيء ، ولا أشعر بالمسافات ، وأكاد لا أرى الطريق ، ولا أركز فيها ، وكأن السيارة كانت تمشي وحدها . وصلت إلى تطوان ، وأنزلت الركاب ثم توجهت إلى بييتي مباشرة . دخلت وأنا مطأطأ الرأس ، غير قادر على الكلام . استقبلتني زوجتى باستغراب شديد ، فنظرت إلي في حيرة وسألتني : أين كنت ......؟... وماذا حدث معك.....؟ تبدو شاحبا ومشوشا....!!!!....كان الصمت جوابي ، وأفضل تعبير مني عن كل شيء ، لكن ، وبعد إلحاح كبير منها أجبتها : لقد نصب علي ذلك الزبون .......أجل.......لقد تركني مرميا بباب تازة وولى هاربا . ردت بأسف : لقد توقعت هذا حقا ، فقد كان قلبي منقبضا طوال الوقت ، وشعرت بحسرة فيه ليلة البارحة ، فأيقنت أن شيئا ما قد حدث لك. قلت : أجل ، إنها مصيبة حقا ، وعلي الآن أن أدفع لصاحب السيارة حسابه ، وأملأ خزان السيارة بالوقود من جيبي الخاص ، ذاك هو همي الآن ، لقد فعلها الجبان ، ولم يكفه قتلي مرة واحدة ، بل تلذذ في قتلي مرتين ، وأمعن في تعذيبي وإذلالي . آه لو أعثر عليه وأمسك به......!!!!........لقد تألمت كثيرا بالأمس.......فقالت : لا عليك الآن ، خذ حماما ساخنا ، واخلد إلى النوم ، وفكر في بناتك وبيتك وصحتك ، والأهم الآن ، هو أنك بخير بيننا ولم يصبك أي مكروه .أخذت حمامي ، ثم نمت نومة طويلة لم أصح منها إلا في المساء . أخذت مبلغا من المال من مدخراتي كنت أحتفظ به لنوائب الأيام مع قلته ، وتوجهت إلى محطة البنزين ،ومنها عند صاحب السيارة ، دفعت له حسابه ، وعدت إلى البيت مباشرة .
لم أشا أن ألتقي أحدا في ذلك اليوم ، وحاولت أن أنسى كل شيء الآن ، وأن أبدأ غدا يوما جديدا ، وأطوي هذه الصفحة حاليا . فما حصل قد حصل ، وماهي إلا ضريبة أخرى من الضرائب الكثيرة التي يدفعها المهنيون في كل مكان ، وعلي أن أتابع عملي ، ولا أجعل هذه الحادثة تؤثر على حياتي ومعنوياتي .
يتبع ...
محمد الدحان ..........

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة