وَجْبَةٌ شَهِيَّةٌ وكأسُ نبيذٍ-
قصّة قصيرة
للكاتب المبدع / عامر عودة
فلسطين
أَقف محتارًا في أيِّ وجبة أَبدأ. فأنا في المُدَّةِ الأخيرة شَرِهٌ، ألْتَهِمُ الوجبات واحدة وراء الأخرى بِنَزْوَةٍ دون شعور بالشّبع. بَلْ على العكس، فَكُلَّما انتهيت منِ الْتِهام وجبة تزداد شهيّتي لوجبة أخرى!
أحيانًا أبدأ باجترار ما أَكلْتُ! بعض الحيوانات تَجْتَرُّ ما أَكَلَتْهُ من طعام، أمّا أنا فاجترُّ ما قَرَأْتُهُ من قصص وحكايات. هُم يَجْتَرّون من مِعَدِهم وجهازهم الهضمي، أمّا أنا فأجترُّ من وعاء ذاكرتي. هذا هو الفرق بيننا كبشر وبين تلك الحيوانات. هم يأكلون ليعيشوا فقط، ويجترّون ما أكلوا لأنَّ كلَّ همهم هو الأكل ثمّ الأكل. أمّا نحنُ البشر، فنأكل لا لنعيش فقط، بل لنستطيع أنْ نُفَكِّر ونَعمل ونُبدع ونَخترع. ألَمْ يقولون أنَّ الحاجة أُمُّ الاختراع؟ القوّة الجسمانية تراجعت أهمّيتها كثيرًا أمام العقل الّذي استطعنا بواسطته أنْ نسيطر على العالم. لذا أصبحتِ العلوم والثقافة من مميّزاتنا. وكما قالَ الفيلسوفُ الفرنسي ديكارت "أنا أفكِّر إذًا أنا موجود".
أتركُ ديكارت وفلسفته وأعودُ إلى وجباتي. فما زلتُ محتارًا بأيّ وجبة أبدأ. الأدبُ الفرنسي له طعمُ النّبيذِ المعتّق منذُ الثّورة الفرنسيّة وكومونتها الشّجاعة. أمّا الرّوسيّ فهو مُعَطَّر بِعَرَقِ الفلّاحين الكولخوزيّين الثّائرين على قيصرهم ونظامه الإقطاعي، مُغَيّرينَ وجهَ العالم بإرادة وتصميم لا مثيل لهما. وهذا الأمريكيّ الجنوبيّ له رائحةُ السّيجارِ الكوبيّ، الّذي انتصر على أقوى دولة في العالم. قصصهم لها طعمُ الانتصارات في جميعِ المجالات. أمّا الأدبُ العربيّ فكان وما زال ذا نكهة مُحَبَّبة خاصّة، رغم أنّه عالق منذ فترة طويلة بين مطرقةِ الحُكّام وسَدّان الظّلاميّين. لكن أولئكَ الّذين يَتَحَدّونَ الظَّلام ويضيئونه بشموع فكرهمِ النًّيِّر، هُم هُم مَنِ استطاعوا الحفاظ على أصالته ونكهتهِ القديمةِ الطّيّبة.
بما أَبدأ إذًا؟ كلّ كِتاب منَ الكتبِ الّتي اقتنيتُها له طعمهُ الخاص. زِد على ذلك أنّها من تأليف كبارِ الكُتّاب والرّوائيّين المشهورين الّذين يُغَذّونَ الرّوح بأجملِ الكلمات، ويرفعونَ الوعي لأعلى الدّرجات.
تجوس عيناي بين تلكَ الكتب مَرّة أُخرى، لعلَّ إحداها يكون مرفأ لقراري، لكنّهما تدوران كغريق وسط حوامة بَحْرِيّة...
تُخرجني من حَوّامتي نقراتٌ لحبّاتِ مطرٍ على شبّاكي... أقوم من مكاني متّجهًا إلى النّافذة لِاسْتَقْبِلها بترحاب وحُبور. إنّها تدعوني لِأستمع إلى "كونسِرت" موسيقاها الّتي تؤلّفها وقع قطراتها على النّافذة. وأجد نفسي لا شعوريًّا أُغنّي معها أُغنية فيروز الّتي أَلَّفها الأخوان رحباني على لحن إحدى سيمفونياتِ الموسيقارِ موتسارت:
"يا أنا يا أنا أَنا ويّاك
صرنا القصص الغريبة
يا أنا يا أنا أنا ويّاك
وانسرقت مكاتيبي
وعرفوا إنّك حبيبي
وعرفوا إنّك حبيبي..."
أعود لِحَوّامتي وأَنا أُدندن تلكَ الأغنيةَ الجميلة، وإذا بديكارد يُطلُّ عليَّ ِمن بينَ الكتب، وبيده كأس نبيذ فرنسيٍّ مُعَتَّق، يدعوني بأَنْ أَشرب وإياه كأَسًا مع أَبطال إحدى الرّوايات الفرنسيّة...
(عامر عودة- فلسطين)