مقال :
« تأثيرات الأغنية في الوعي المجتمعي »
دائماً ما ترتبطُ الأغنيةُ في المجتمعِ البشري بالوجدانِ الجمعي فكانت حالُ لسانِه تعبرُ عنه تشاركُه مناسباتِه وحالاتِه التي يعيشُها فكان للأغنيةِ أكبرُ الأثرِ في تشكيلِ الوجدانِ والفكرِ والثقافةِ وهنا نعرضُ لمباحثٍ متعددةٍ في قراءةٍ للأغنيةِ ومدى تأثيرِها في المجتمعاتِ البشريةِ
أولاً : الاغنية الطربية بين الماضي والحاضر :
تتنوعُ الأغنيةُ في أشكالِها ، وهذا التمايزُ الشكلي جعل لكلِ شكلٍ سيميائيتِه ؛ فغلب على الغناءِ والموسيقى العربيةِ سمةُ التطريبِ ، وهي سمةٌ تتواجدُ في معظمِ أشكالِ الأغنيةِ والموسيقى .
وفي عصرنا الحاضرِ بدأت سمةُ التطريبِ تأخذُ مداها بشكلٍ أكثرَ اتساعاً حتى صارت لها خصوصيةٌ ؛ فأُطلِق عليها أغنيةٌ طربيةٌ .
ومن سماتِها المميزةِ :
- الناحيةُ البنائيةُ وتتمثلُ في الكلمةِ واللحنِ والايقاعِ والأداءِ
- ناحيةُ الإدراكِ الحسي والجمالي لدى المستمعِ المتذوقِ .
إنَّ الأغنيةَ اليوم في نظرِ الكثيرِ منَّا تختلفُ عمَّا كانت عليه الحالُ زمنَ عمالقةِ الغناءِ ، تلك الحقبةُ الذهبيةُ التي مازالت آثارُها عالقةً في ذاكرةِ من عايشها أو من خلالِ الأجيالِ التي رأت في الماضي شيئاً من النوستالچيا والحنينِ للزمنِ الجميلِ .
إنَّ الأغنيةَ الطربيةَ قد تكونُ متواريةً الآن من الساحةِ الفنيةِ لأسبابٍ كثيرةٍ نذكرُ منها :
ما يُسمَعُ اليوم بعيداً عن الموسيقى والشعرِ اللذين يخاطبان الروحَ والعقلَ .
وربَّما أنَّ الأغنيةَ تشوهت بفعلِ من اعتدوا على موسيقاها بإعادةِ توزيعِها فخرجت نشازاً . هنا نتساءلُ ..
- هل الأغنيةُ الطربيةُ مازالت موجودةً ؟
- وهل مازال المتذوقُ لها يحرصُ على البحثِ عنها والاستماعِ إليها ؟
- هل نحن نعيشُ عصراً اختلف فيه جمالُ الموسيقى وسحرُ الكلامِ وعذوبةُ الصوتِ ؟
جاءت غالبيةُ الإجاباتِ على النحوِ التالي :
- إنَّ العصرَ أصبح متغيراً وغابت الأغنيةُ الطربيةُ وتراجعت مع غيابِها نسبةُ المستمعين لها فصارت قليلةً ، أما عن أسبابِ التدني في مستوى الذائقةِ الفنيةِ فلربما يرجعُ لعدمِ إدراكِ الكثيرِ من الفنانين والمستمعين لذلك التراجعِ لأنَّ الغالبيةَ باتت تستمعُ لأغاني غيرِ طربيةٍ .
- كذلك ساهمت الإذاعة والفضائيات بطريقٍ غيرِ مباشرةٍ حيت فتحت المجالَ لبثِ تسجيلاتٍ هابطةِ المستوى لمجردِ تغطيةِ ساعاتِ البثِ دونَ التمييزِ بين الغثِ والسمينِ ، ولو أنَّها أفردت بضعَ ساعاتٍ قليلةٍ للأغنيةِ الطربيةِ والمطربِ الجيدِ لاختلف الأمرُ كُلياً .. جديرٌ بالذكرِ هنا أن نلقيَ الضوءَ ؛ لنوضحَ أن ثَمَّةَ فنانينَ ما زالوا حريصين على رسالتِهم الفنيةِ ويرفضون تماماً الانزلاقَ نحوَ ما يُسمَى بأغنيةٍ عصريةٍ لا نعرفُ هويتَها أو موقعَها من الموسيقى .
- هناك بعضُ الملحنين يصرون على المزجِ في اللحنِ بين الجملةِ الموسيقيةِ الطربيةِ والجملةِ الموسيقيةِ العصريةِ وربَّما الأجنبيةُ ؛ حتى تعطيَ لأغنياتِهم تفردَها الفنيَ الموسيقيَ وبالتالي يتحملُ مسئوليةَ ما يحدثُ للأغنيةِ الطربيةِ الموسيقيون الذين عملوا على مزجِ مقاماتِنا الموسيقيةِ الأصيلةِ في تكنولوچيا غربيةٍ في محاولةٍ منهم لتغييرِ النمطِ الإيقاعيِ والموسيقي للأغنيةِ تحتَ مُسمَى الحداثةِ والتغييرِ متجاهلين أنَّ تاريخَ وتراثَ الأغنيةِ والموسيقى يرتبطُ بإحساسٍ غاية في الصدقِ كذلك لا نستطيعُ التغافلَ أنَّ ثَمَّةً زحفٍ جارفٍ نحوَ أغنيتِنا الطربيةِ لهدمِ قواعدِها ومقاماتِها الموسيقيةِ .
لكنَّ في الوقتِ ذاتِه دعونا نتفاءلُ بأنَّ ما يحدثُ ما هو غيرُ سحابةِ صيفٍ سرعانَ ما تنقشعُ ، وأنَّ الأغنيةَ الطربيةَ سوف تعودُ وبقوةٍ وإن كان ذلك في قالبٍ يناسبُ عصرَنا الحالي .
أخيراً نجملُ مقالَنا في الآتي : إنَّ الغناءَ والموسيقىَ عاملان رئيسان في إشكاليةِ التذوقِ الفني وليس هناك زمانٌ أو مكانٌ تُسمَعُ فيه الموسيقى ، بل كلَّما أُتيح للمستمعِ فرصةُ الاستماعِ فإنَّه ينسجمُ لا شكَ مع الموسيقى ويتعايشُ معها بقطعِ النظرِ عن أصالةِ أو حداثةِ الأغنيةِ ، كثيرٌ من الأغاني الطربيةِ ما إن تُذاعَ في الأماكنِ الترفيهيةِ حتى نجدُها تجذبُ الشبابَ سواءً مع الكبارِ، وكذا الأمرُ للأغنيةِ الحديثةِ فإن كانت جميلةَ المعنى والموسيقى وتُؤدَى بصوتٍ عذبٍ فلم لا نسمعُها ؟
عامةً توجدُ في الساحةِ الفنيةِ أصواتٌ جميلةٌ وإن ظهر عليها التحديثُ بحكمِ العصرِ، فقد مرَّ على زمنِ عمالقةِ الأغنيةِ العربيةِ حوالي النصفُ قرنٍ وربَّما أكثرُ .
في اعتقادي أنَّ الأغنيةَ الحاليةَ انعكاسٌ لواقعٍ يعيشُه المجتمعُ ، ولذلك غابت الأغنيةُ الطربيةُ عن الساحةِ الفنيةِ وعندما نتحدثُ عن الأغنيةِ الطربيةِ فنحن نتحدثُ عن ماضٍ جميلٍ وتاريخٍ ذهبي ، والأمرُ لم يكنْ محصوراً فقط في الأغنيةِ التي كانت تؤديها " أم كلثوم أو محمد عبدالوهاب " أو غيرُهم من المطربين بل كان في الكلمةِ واللحنِ والأداءِ ولذلك كنَّا نعيشُ أوقاتاً ممتعةً مع الاغنيةِ .
إذا أردنا عودةَ الأغنيةِ الطربيةِ علينا أن نهتمَّ بجودةِ الكلمةِ واللحنِ وعذوبةِ الأداءِ .
ثانياً : الأغنية والشعر الغنائي مع موسم الحج :
كم أثار موسمُ الحجِ وجدانَ الشاعرِ منذ القدمِ وحتى وقتِنا الراهنِ ؛ ففاضت قرائحُهم تعبرُ عن شوقِها لأداءِ الفريضةِ .
وبأفضلِ النفحاتِ الشعريةِ تَمضي مشاعرُ الشعراءِ تحملُ شوقَها في رحلةِ الحَجِ المباركةِ ومروراً بكلِ المشاعرِ والشعائرِ .
وفي ذلك تجيبُ قلوبُ الشعراءِ التي تتوقُ لزيارةِ بيتِ اللهِ الحرامِ ، فينطلقَ الشعرُ معبَّراً عن هذا الشوقِ المضطرمِ .
وفي وصفِ المشاعرِ والحنينِ للحرمين المكي والنبوي قال مضاض الجُرْهمي يَذْكرها :
وَسَحَّتْ دُمُوعُ العَيْنِ تَبْكِي لِبَلْدَةٍ
بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا المَشَاعِرُ
ويقول أبو طالب:
أَرْضٌ بِهَا البَيْتُ المُحَرَّمُ قِبْلَةٌ
لِلعَالَمِينَ لَهُ المَسَاجِدُ تُعْدَلُ
والمتتبعُ لشعرِنا المعاصرِ والذي انطلقت به أعذبُ الألحانِ عبرَ أصواتِ نُخبةٍ من مطربينا أمثال " أم كلثوم " في أغنية ( القلب يعشق كل جميل ) للشاعر " بيرم التونسي " عن تجربتِه الذاتيةِ لأداءِ الفريضةِ حينَ قال في أبياتٍ له :
- مكة وفيها جبالُ النور
** طلة على البيت المعمور
- دخلنا بابَ السلامِ غمر قلوبنا
** السلام بعفوِ ربٍ غفور
- فوقنا حمام الحِما عدد نجوم
** السما طاير علينا يطوف
- ألوف تتابع ألوف طاير
** يهني الضيوف بالعفو والمرحمة .
ويغنينا " محمد فوزي " ( قف بالخشوع ) من كلمات كتبها " الإمام البرعي "
ويغنينا فيها "فوزي " محلقاً في روحانياتٍ تسمو بالروحِ
- فهو الكريم يجيب من ناداه
** يا ذا الجلال وذا الجمال وذا الهدى
- يا منعم عما الوجود نداه
** مالي إذا ضاقت وجوه مذاهبي
- أحداً ألوذ بوجهه الله.
** قف بالخشوع وناد ربك ياهو
فهو الكريم يجيب من ناداه .
وتتعددُ الأمثلةُ ، فنجدَ " ليلى مراد " تغنينا ( يا رايحين للنبي الغالي هانيا لكم وعقبالي ) كلمات " أبو السعود الأبياري "
و" محمد الكحلاوي " وغيرهم كثير فقد تفاعل الشعرُ الغنائي مع فريضةٍ تهوى إليها الأفئدةُ .
ثالثاً : إفادة الأغنية من الشعر وإفادة الشعر من الأغنية :
في طريقِ البحثِ عن إجابةٍ لهذا العنوانِ اخترنا مثالاً حياً قد يعينُنا على الإجابةِ الشافيةِ عن سؤالِنا
• مرسى جميل عزيز شاعرُ الألفِ أغنيةٍ
وُلِد يومَ 9 يونيه 1921 ورحل عن عالمِنا في 9 فبراير 1980 عن عمرٍ يُناهزُ 58 عاماً
مرسى جميل عزيز ظاهرةٌ إبداعيةٌ في الشعرِ قلَّما تتكررُ . نشأ في مدينةِ الزقازيقِ بالشرقيةِ ولم يغادرْها مما كان يدفعُ المطربون والموسيقيون أن يذهبوا إليه للحصولِ على كلماتِ أغنيةٍ منه...
العواملُ التي أثرت في تكوينِه الإبداعي :
• حفظُ الكثيرِ من آياتِ القرآنِ الكريمِ
• حفظً المعلقاتِ السبعِ في الشعرِ الجاهلي
• القراءةُ للكثيرِ من الشعراءِ
• الاهتمامُ كثيراً بأشعارِ بيرم التونسي
ظهرت ميولُه للشعرِ مبكراً في سنِ الثانية عشرة من عمرِه تخرَّج في كليةِ الحقوقِ .
ذاعت شهرتُه عندما كتب أغنيةَ :
يا مزوق يا ورد في عود والعود استوى
يا مزوق ولا النوَّار
يا مكحل عينيك أسرار
يا جار الهنا يا جار
جلَّاب الهوى
التي غناها ولحنها عبد العزيز محمود .
وبعدها بدأ رحلتَه الثريةَ في كتابةِ الأغنيةِ فكتب ألفَ أغنيةٍ
• العاطفية منها بأحاسيسٍ فطريةٍ مبهرةٍ
• وكتب الأغنيةَ الوطنيةَ ببساطةٍ وصدقٍ
ولحَّن كلماتِه كبارُ الملحنين وتغنَّى بها كبارُ المطربين ، وكان لعبد الحليم حافظ النصيبُ الأكبرُ حيث غنَّى من كلماتِه ما يصلُ إلى 35 أغنيةً .. بالإضافةِ إلى ثلاثيتِه الشهيرةِ لأم كلثوم ألحان بليغ حمدي : (سيرة الحب - فات الميعاد - ألف ليلة وليلة ) كرمته الدولةُ بوسامِ الجمهوريةِ للآدابِ والفنونِ عام 1965 ، مرسي جميل عزيز فارسُ الشعرِ الغنائي تربع على عرشِ شعراءِ الأغنيةِ عن جدارةٍ واستحقاقٍ .
وهنا نسألُ هل استفاد الشعرُ من الأغنيةِ أم استفادت الأغنيةُ من الشعرِ ؟
بقلم #سمير_لوبه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق