مقال :
« المحاكاة في الأدب »
بدايةً عندما نتطرقُ إلى الإبداعِ المكتوبِ أو المصورِ، قد نجدُ بعضَ من يلقون بعضَهم بالسرقاتِ الأدبيةِ والفنيةِ ، لذا وجب توضيحُ الفرقِ بينَ التناصِ والتلاصِ في الإبداعِ وعدمِ الزجِ بالمحاكاةِ في هذا الأتونِ .
إنَّ لفظةَ " المحاكاة " كانت في بداياتٌها فكرةٌ صدرت عن فلسفةِ " أفلاطون " وآراءٍ لـ " أرسطو " وما لبثت أن اتصلت بالأدبِ ونتاجِه .
المحاكاة في معناها اللغوي : هي مصدرٌ للفعلِ ( حكي ) ويُقالُ : (حاكيت فلانًا ) أي فعلت فعلَه ذاتَه أو قلت مثل قولِه فالمحاكاةُ تعني المماثلةً والمشابهةَ في الفعلِ والقولِ إن مفهومَ المحاكاةِ أخذه العربُ عن اليونان وكان المصطلحُ المستخدمُ هو الحكايةُ إلى أن جاء عصرُ المترجمين فاستخدموا المصدرَ "المحاكاة"
وقد ورد في بعضِ المعاجمِ الأجنبيةِ أن لفظةَ المحاكاةِ في اللغةِ هي مرادفةٌ لكلمةِ التقليدِ أي إعادةِ الشيءِ تمامًا كما هو .
المعنى الاصطلاحي للمحاكاة : أن يَنقلَ العملُ الفني الواقعَ نقلًا دقيقًا يتسمُ بالحيويةِ والإبداعِ ، ويبتعدُ عن النسخِ ، وبذلك تكونُ المحاكاةُ خلَّاقةً ومتميزةً .
أما المحاكاةُ عند الفلاسفةِ العربِ : خلصت المحاكاةُ في الفلسفةِ العربيةِ إلى تخليصِها من أسطوريتِها وقربوها إلى العقلِ والمنطقِ ، وبذلك لم يَعُد النصُ الشعريُّ مُحاكاةً لواقعٍ هو نفسُه محاكاةٌ لعالمٍ غيرِ مرئي إنما صارت تعبرُ بالبيانِ والإفصاحِ ، وهذا البيانُ الصادرُ عن اللسانِ هو محاكاةٌ لما في الأذهانِ من أفكارٍ وصورٍ أو محاكاةٍ لما تراه العينُ ، وبذلك صارت المحاكاةُ بعيدةً عن الخرافاتِ والأساطيرِ .
نستعرضُ مثالاً حديثاً نوعاً ما لتبسيطِ الفكرةِ عندما وصف " أحمد شوقي " تمثالَ أبي الهولِ والذي صنعه نحَّاتٌ مصري قديمٌ ، فالنحاتُ قام بمحاكاةٍ من الدرجةِ الثانيةِ بأدواتِ النحتِ الخاصةِ ومن ثَمَّ جاء " أحمد شوقي " وقام بمحاكاةِ المحاكاةِ ووصفِ تمثالِ أبي الهولِ بأدواتِ الشعرِ وهي اللغةُ والصورُ
يقول "أحمد شوقي " في تلك القصيدة واصفاً تمثال أبي الهول :
• أَبا الهَولِ ما أَنتَ في المُعضِلاتِ
** لَقَد ضَلَّتِ السُبلَ فيكَ الفِكَر
• تَحَيَّرَتِ البَدوُ ماذا تَكونُ
** وَضَلَّت بِوادي الظُنونِ الحَضَر
• فَكُنتَ لَهُم صورَةَ العُنفُوانُ
** وَكُنتَ مِثالَ الحِجى وَالبَصَر
• وَسِرُّكَ في حُجبِهِ كُلَّما.
** أَطَلَّت عَلَيهِ الظُنونُ اِستَتَر
• وَما راعَهُم غَيرُ رَأسِ الرِجالِ
** عَلى هَيكَلٍ مِن ذَواتِ الظُفُر
أما عن التناصِ مبسطاً فقد قال الأستاذ "أحمد إبراهيم أحمد " : جاء في (نهج البلاغة) " لولا تكرارُ الكلامِ لنفذ " ويقولُ الجاحظ : " إن المعاني مطروحةٌ في الطريقِ يعرفُها العجمي والعربي البدوي والقروي وإنما الشأنُ في إقامةِ الوزنِ وتخيُّر اللفظِ ".
ثم صاغت "جوليا كريستيفا " مصطلحَ التناصِ لتفسيرِ تشابهِ نصٍ أو عدةِ نصوصٍ . وبيانِ العلاقاتِ المتبادلةِ بينَ نصٍ وآخرِ أو نصوصٍ أخرى وهي لا تعني تأثيرَ نصٍ في آخرٍ أو تتبعِ المصادرِ التي استقى منها نصاً ما جاء به من نصوصٍ سابقةٍ بل تعني تفاعلَ الأنظمةِ الأسلوبيةِ .
ويخلطُ بعضُ النقادِ بينَ (التلاص والتناص)
التلاص : أن يأخذَ كاتبٌ عملاً لغيرِه ، ويُجري عليه تعديلاتٍ هامشيةٍ ، ثم يدَّعي أنَّه عملُه، دونَ بذلِ أي جهدٍ إبداعي .
أما التناص : أو ما يُعرف بالتعالقِ النصي فهو استحضارُ بنيةٍ سرديةٍ أو جنسٍ أدبي والبناءُ على نسقِه أو الاستشهادِ بنصوصٍ من المحكياتِ الكبرى أو الأعمالِ الإبداعيةِ العظيمةِ حيث يأخذُ التناصُ شكلين رئيسيين :
1. تناصُ البنيةِ والموضوعِ : والمثالُ الأبرزُ لذلك روايةُ نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) التي تناص فيها مع المحكياتِ الكبرى التي أعاد بناءها في زمانٍ ومكانٍ مختلفين وبأسلوبٍ مغايرٍ متفاعلٍ مع أساليبِ المحكياتِ الكبرى كذلك استخدامُ " أمل دنقل " بنيةِ حكايةِ ( زرقاء اليمامة ) التراثيةِ في صياغةِ قصيدتِه الرائعةِ (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) حيث يعيدُ أسلبةَ الحكايةِ الأصلِ ليستخدمَها نصاً موازياً يشرحُ به هزيمةَ 67.
2. التناص النصي : وهو استخدامُ مقطعِ من نصٍ مقدسٍ أو عملٍ إبداعي ودمجِه في سياقِ السردِ الإبداعي كما فعل " صلاح عبد الصبور " باستخدامِ مقاطعِ قرآنيةِ في مسرحيتِه (مأساة الحلاج) حيث يقولُ الشبلي مخاطباً الحلاج المصلوب " أولم ننهك عن العالمين" سورة الحجر -الآية 70 وحوار الحلاج مع الشرطي حين يحاجه بقوله " أو قفل على قلبك " معيداً صياغة الآية " أم على قلوب أقفالها" سورة محمد -الآية 24-
ومما سبق نخلصُ إلى أنَّ المحاكاةَ أمرٌ مشروعٌ أدبياً وإبداعياً كذا التناصُ بما يخدمُ النصَ ويضيفُ إليه أما التلاصُ فهو مرفوضٌ شكلاً و موضوعاً ويتنافى مع الأدبِ والإبداعِ .
بقلم #سمير_لوبه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق