حارس الحكمة
ككل صباح يقبل عبد الكريم نحو المقهى في عجلة من أمره، يطلب من النادل تحضير فنجان قهوة بسرعة، ليس لديه متسع من الوقت ليجلس على الكرسي، يستجيب النادل لطلبه فقد ألِف زبونه والحال الذي يأتي عليه بداية كل يوم، يضع محفظته على طاولة المقهى وينتظر مترجلا إحضار النادل فنجان قهوته، عجلة الزمن تطارده وعقارب الساعة يتسارع عدها، ضجيج وقلق يعلو ملامحه وقد تحرر من آثار نوم عميق، يدعوه النادل للجلوس فيرفض وهو يردد:
ـ لا يا صديقي فقط أحضر لي فنجان قهوتي المعتاد...
يجيبه النادل:
لمَ أنت في عجلة من أمرك كل يوم...
يضحك متهكما فهو يعرف من يكون زبونه الفذ هذا ويضيف:
دقيقة من فضلك ويكون فنجان قهوتك المفضل جاهزا
يسأله:
ـ هل أضع قطع السكر؟
يجيب الزبون وعلامات القلق تفوح من صوته الرخو:
لا! أنت تعرف أنني أشرب القهوة بدون سكر، يبتسم وشعر شاربه الكث يبتلع الابتسامة من شفتيه.. وهو يمشي على طول مدخل المقهى جيئة وذهابا منظره يثير بعض زبائن المقهى في الصباح الباكر. فقد اعتادوا على سلوكه ذاك. يُقبل النادل نحو الطاولة وهو يصيح:
هيا يا حضرة أستاذ الفلسفة فنجان قهوتك المفضل جاهز، نعتذر عن التأخير اليوم. نتمنى أن تكون حكيما وأنت تشرب فنجان قهوتنا فنحن نقدم دوما الأفضل للزبائن... يمد الأستاذ نظره نحو النادل ولا ينبس ببنت شفة، يده تمتد لفنجان القهوة وشفتيه تتلهف لتقتنص لحظة عذبة وهي تلامس رشفة من القهوة وتتذوق طعمها المر.. يذهب النادل وهو يعاكس الأستاذ لقد سمعت أحدهم يقول:
الحكيم هو الذي يعرف كيف يشرب فنجان قهوة سوداء... أهذا الكلام صحيح حضرة الأستاذ الكريم..
نظر نحوه وهو يتهافت في شرب قهوته "نيتشه" قائلها لكنك حرفت كلامه.. يضع قطع الدراهم على الطاولة ويغادر مسرعا... يرَوِّي في تهكم النادل عليه كل صباح بأسئلة تعيث في داخله طنينا فكريا.. ونظرات رواد المقهى تلاحقه كأنه كائن سقط من جهة غريبة..
يتجه الأستاذ نحو المدرسة وهو يخال نفسه حارسا لمعبد أرستقراطي يوناني قديم مدجج برزمة من المفاهيم يرخي ثقل حمولتها على محفظته التي حولها لمكتبة صغيرة متنقلة لا تكاد تفارقه أينما حل وارتحل، تصاحبه دوما حتى أضحى متيما بحبها لا بحب الكتب التي تحويها بين رفوفها، ناذرا ما يقوم بزيارة لكتاب يؤنس به خلوته وهو يحتسي فنجان قهوة في المقهى الشعبي وسط الحارة الذي يعج بالمدخنين بعضهم يلهو بفوزه من لعبة الورق والآخر محبط يعربد بعدما ارتوى من النبيذ حد الغثيان.. ألِف هذا الأخير ثقل المحفظة وكأنها محملة بالجندل تكاد الجاذبية أن توقعه أرضا فيعتقد أن طنين المفاهيم أفقده توازنه حتى كاد يسقط أرضا، يخال نفسه طائر الفنيق الذي سيطل على العالم ليخلصه من أفول الشر المحيط بالبشر.. يمشي وئيدا من ثقل المحفظة، يتحدث لشخصه، لأناه الأسطورية التي يحملها في داخله، يتوقف تارة يسأل نفسه وأصابع يده تعبث بخصلات شعره الذي تدلى من فرط الإهمال وغدا مأوى للقمل.. وشعر لحيته الكثيف يغطي وجهه الأفطح الغليظ تمتد أنامله بين الفينة والأخرى لوجهه لتعبث بشعر لحيته الرث، وتارة أخرى يشبك أصابعه في فروة رأسه يقضم بأظافره طنين القمل الذي يقض سكينته ويعكر صفوة تأملاته.. حال شعره الرث كحال ثيابه، معطف أسود طويل يرتديه دائما متى دخل فصل الخريف ولا يودعه إلا حين يشرف الربيع على نهايته فيستبدل المعطف بقميص وسروال "جين" يقضيان معه فصل الصيف ويتجولان في كل المقاهي والحدائق العمومية، لا يتخلص من القميص إلا حين يقض مضجعه من طول تصبب العرق فتغدو رائحته مقرفة، ينتظر معهما دورة الحياة من جديد ليعانق معطفه مع سقوط أولى يرقات الأشجار تنبئ بقدوم فصل الخريف.. يتجه للمدرسة وقد حضر متأخرا بخمس دقائق، زمرة من الطلبة تنتظر، يلقي التحية على حارس البوابة ويشير بيده إلى الطلبة بدخول الحجرة الدراسية، يتبع حفيف خطواتهم نحو المكتب يضع محفظته ويبدأ الحديث عن شخصية أسطورية تزور كل يوم المعبد الأرستقراطي لتشرب من يدي الكاهن قبسا من الحكمة... يقف يسأل الطلبة لا أحدا يجيب، الصمت الرهيب المنبعث من عيونهم يثير دهشته، يدون في مذكرته نجاح حصته الدراسية ويرفق ذلك بملاحظة "عقول طلبتي وعاءات فارغة".. يرن الجرس معلنا نهاية الحصة، يتنفس الطلبة شهيق الحرية وقد تخلصوا من ارستقراطية كاهن المعبد ذلك الكائن الغريب الذي حملهم القدر على مصاحبته طيلة ساعتين من الزمن دون زملائهم الآخرين، الذين يتهافتون للقاء أستاذهم محب الحكمة الأنيق.
ملحوظة: كل تشابه فهو من قبيل الصدفة
السهلي ابراهيم المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق