Translate

الاثنين، 16 مايو 2022

موعد مع رفات بقلم / ندى خليفة الجزائر


 موعد مع رفات

على حواف الخريطة بين جنبات تلة مطلة على البحر تقطن ام انيس و وحيدها صاحب الأربع والعشرين ربيعا ..
انيس لم يكمل دراسته الإبتدائية كان الأمر اشْبه بعذاب يومي وهو يشق الكَدِيد وصولا للمدرسة بالقرية المجاورة ..لم يكن البعد همه بقدر ماكان معطفه الوحيد المزركش ذو القبة الصفراء يكسر نفسه كلما اجْبرته امه على ارتدائه اذا ما اكتست السماء حلتها الرمادية ..كانت مشاكسة اقرانه و عبارة ( اليتيم بو قشبية ) تُجَلْجِل بِأجْراسها في رأسه إلى ان توَّلى و عزف عن مداولة تعليمه ..
تجمع الأم بيض دجاجاتها لتستبدلهم بحاجيات غذائية من دُكانة( الشيخ علي) الذي كان يثقل كفة ميزان صحائفه بملء قفتها ..كان ثمن بيضاتها لا يكفي لإبتياع ثلث ما كانت تجود به يداه..
انيس يسترزق من عمله كأجير عند مساعد البنّاء ..رزقه يتوقف احيانا بالأشهر ..هو كأمثاله الغِلمان في هذه السن يرسم أحلاما طال إنْبِلاج فجرها و يتعلق بخيوط أمل يعبر بها أطلال الأسى و يحلِّي مرارة و علقم عيشته بزُخرفِ أُمنيات يَسنِد عليها طموحه..
تلك الليلة التشرينية الحالكة الملامح عاد الفتى للبيت قبل أوانه يحمل زادا من اللُبانات ..وضع الأكياس جانبا و اخرج جوارب صوفية سميكة ..جلس على ركبتيه و قال ( انظري انها مقطنة من الداخل ستقيك رتابة البوط البلاستيكي ) تنهدت ..تبسمت ثم قالت( منذ ان رحل عنا والدك لم ألبس جوارب صوفية كان اخر جورب ذاك الذي اكل فردته جَرْوْ جارنا مختار ) و انفجرت ضحكات زَيَّنت ليلهم الحزين ..ثم هَمَّ ليحضر العشاء مداعبا امه "قائلا(سأنوب عنك بتحريك قارورة الغاز الفارغة هذه الليلة و أحضر لك حساء خضار مع مكعب مرق الدجاج اشتريت كل ما يلزم )..لم يخرج للسهر مع اصحابه في القرية كعادته كان كلما أوشك بإخبارها عمّا يجول في خاطره يَسْرح في ابعادٍ فسيحة و تخذِله عُيونها الباسمة التي كانت تتبع حركاته ..لم تفهم تأويل ارتباكه و سرعة خطواته المبعثرة في كل اتجاه ..
كان جاهِمًا امام الموقد يحدق بتلك الشعل المضطرمة كلما حرك قارورة الغاز برجله.. ثم يهرول نحو النافذة ذات الدفة الواحدة المطلة على البحر ثم يستدير بظهره و ينعزل عن مَرأى امه مواريا وجهه في خزانة الملابس ليخفف قلقه و يَزفُر ضيق انفاسه .. استجمع ما تبقى من شحيح الهواء في صدره ليلفظه بتلعثم ( امي اانا .. اناا يجب ان أنام سأستيقظ باكرا ..حصصصلت على عمل )..
اضاءت البسمة ثغرها وحمدت الله على كرمه لأنه استجاب لدعواتها ..(اين؟ ومع من؟ هل زوج ابنة خالتك طلبك ثانية للعمل عنده ؟) كانت تساؤلاتها تسبح بينهما
وهو واجِمٌ وَهِن الملامح.. ثم قال بتأوه ( العمل بعيد في اقصى الصحراء سأغيب لمدة شهر او اكثر )..ذبلت تلك الفرحة في عينيها و اديم الدهشة لبس وجهها.. ..طوَّق عنقها بكلتا يديه و ترجاها ان لا تعترض رزقه آملا في رضاها و ساعيا لراحتها متأملا تخفيف هذا الشقاء والعناء الذي كابد عيشهما لسنين طويلة ..
الساعة الثانية بعد.منتصف الليل يمتطي أطراف السواد دون ان يودع امه .. كان قد إكتفى ألما و عيونها تمسح وجهه ليلة البارحة ..
ألقت اشعة النور الشاحبة سهاما على شقوق النافذة ...تستفيق ام انيس .. تلتفت ناحية مضجع وحيدها لتجده فارغا ..
لقد عقد العزم ..لم تكن الصحراء وِجهته المصمَّدة... لقد انتحى مع من اوهمهم قارب الأحلام بالعبور لبلاد الأماني و العيش الرغيد ..
ام انيس تقضي يومها تسعى بين الشاطئ و بيتها الهرِم المُعمَّد ترتدي سروال ولدها تحت جبتها الذي تآكلت حوافه من زحفه مع آلام خيبتها.. تهيم على وجهها بين الغابات لتصل الشاطئ واهنة مُطْرَقة تلتقط كل العوالق التي يلفضها الموج لتكتنزها أكواما أكواما حتى يُخَيَّلُ لناظِرها كالأشباح الجاثِمة ..
تعلق صورته على صدرها كتميمة تحفظها من عاديات الشوق و غوائل الحنين ..
اليوم و قد فرش بساط العمر تجاعيده على وجهها و بلغ الوجع مداه و حزنها تجاوز سن اليأس وراح الغيم يلملم سقمه ..جاءت تخطو على اللِّوَى بطريق لاحِب قُبالَة بحر عُجَاج يَعِّبُ عُبابه و تصطخب امواجه تتقَلَّب نفسها مع امواجه.. شعور غريب ارسله البرق مع شرارته الحمراء الذي اجَّج السعير في صدرها
.. تفرد قامتها المنحنية تمد يديها صوب الثَبَج ليحتضن الموج جِيدها و تُسَبل النوارس اجفانها لتمضي لمرافئ السلام ..
ندى خليفة
الجزائر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة