لعنة دلال… / من حكايات الطفولة
ليلى المرّاني
لم أتجاوز الشهر لا زلت حين توفّي والدي، شابّاً في منتصف الأربعينات من عمره. وبدل أن يعتبروني شؤماً، كعادة العوائل البسيطة آنذاك، أحاطني أخوتي وأخواتي الأكبر سنّاً بكلِّ الحبّ والرعاية، وغرقت أُمِّي بأحزانها منزويةً في غرفتها، رافضةً النظر في وجهي. رضعت الحنان الذي افتقدته من كفّي أختي الكبرى، تعلّقتُ بها واتّخذتها أمّاً، حتى جاء يومٌ مشؤوم آخر في حياتي. التحقت أختي بالجامعة في بغداد، وكنّا في العمارة، والتي تسمّى حالياً ميسان. أذكر يومها أني بكيت بحرقة وتعلّقتُ بثوبها، عانقتني ودموعها أغرقت وجهي الذي يتوسّلها ألاّ تتركني كما فعل والدي قبلها. سأعود بعد يومين، صوتها مختنقاً وهي تركض حاملةً حقيبتها، يصحبها أخي. يومها مرضتُ، وفقدت شهيّتي للطعام. شهرُ مرّ، وجاءت، تحمل لي الحبّ والحنان، ودميةً من المطّاط، صغيرةً عارية، تغمضُ عينيها الزرقاوين وتفتحهما حين تنام وتستيقظ. شيءٌ جديد ومذهل في عالمنا الصغير والفقير أن تمتلك إحدى الفتيات لعبةً جميلة، تفتح وتغمض عينيها، ويمكن تحريك يديها وساقيها!
ثياباً جميلةً خيّطت أختي لها بكشاكش وتطاريز ملوّنة، جعلتني أتباهى بلعبتي التي أسميتها - دلال - أمام صديقاتي وقريباتي. أشعر بالفرح والتميّز وأنا أراقب نظرات إعجابٍ كبيرلا تخلو من حسدٍ وغيرة، أنا المتفرّدة التي تتمتّع بترف اقتناءِ لعبةٍ عيناها زرقاوان. فجأةً اختفت دلال، لم يبقَ شبرٌ في البيت لم نبحث فيه، حتى غرفة والدتي المعتمة. تركتني هي الأخرى ورحلتْ كما فعلت أختي، ومن قبلها والدي. يومٌ أخر من الحزن والبكاء، وأعلنت الحداد ثلاثة أيّامٍ لم أذهب إلى المدرسة. شكوكي تحوم حول كلّ واحدةٍ من صديقاتي وقريباتي الحسودات.
وكما اختفت، ظهرت دلال فجأةً. وأنا أفتح الباب في طريقي إلى المدرسة، رأيتها مرميّةً على عتبة الباب، خفق قلبي وكاد يطير من بين أضلعي، عاريةً كانت، رفعتها، صُعقت، عيناها مفقوءتان، دلال الجميلة، عارية ومفقوءة العينين. بيدٍ ترتجف حملتها، ولأوّل مرّة أركض إلى حضنِ أُمِّي، باكيةً أرتمي على صدرها. بذهولٍ وحزن تنظرُ إليّ، وبتردّدٍ تضع يدها على رأسي، تعلّقتُ بيدها أقبّلها وأغرقها دموعاً ساخنة، ونسيت دلال وعينيها المفقوءتين وأنا أستشعر دفء حنان أمي تضمّني إلى صدرها.
لم أعد أطيق النظر إلى دلال، أصبحت تخيفني، أردت التخلّص منها… لبنت خالي الصغيرة ذات العينين الخضراوين الواسعتين والشعر الأشقر، اقترحت أمي أن أعطيها.
بخوفٍ هُرعنا إلى الباب يوماً، وطرقٌ عنيف يكاد يخلعه، عاصفةٌ هوجاء انطلقت زوجة خالي ما أن فتحنا لها، يسبقها سبابٌ وشتائم، وشررٌ يتطاير من عينيها. قذفت دلال بوجهي، تصحبها بصقةٌ كبيرة! لم أفهم ما حدث حينها… بحزنٍ بعد حين .. " وداد، بنت خالكِ فقدت بصرها "، ولولت أمّي. ذهولٌ أصابنا، كيف، ولماذا، وعيناها الخضراوان أين ذهبتا و.. و .. أسئلةٌ كثيرةٌ، حائرة اختصرتها أمي، " يقولون أنّكِ أعطيتها لعبتك العمياء، كي تحلّ عليها اللعنة، غيرةً من عينيها الخضراوين ".
وانقطعت علاقتنا ببيت خالي فترةً طويلة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق