اللحظات الأخيرة...
طافت كل أركان غرفتها، لم تجد مفرًا من الهرب، لقد ضاقت عليها الجدران، ولم يعد هناك مهرب، تساءلت لماذا؟ لماذا بقيت هكذا عاجزة ووحيدة، فاقدة ومفقودة، فاقدة لكل اللحظات السعيدة ومفقودة من جدول إحصاء الأحياء، نظرت للباب، ظنت أنه سيدق ويدخل منه ولد لها أو ابنة، لكن هيهات لا أحد يطرق مقابر الموتى.
غطت في سبات عميق وعلى خديها الدموع تنساب، وفي الصباح الباكر انتظرها الجميع أن تصحو كعادتها لكنها لم تصحُ، كأن لم يكن هناك حياة، دخلت عليها مشرفة الدار عندما تغيبت ولاحظت غيابها، هزتها لكنها لم تقم، تفحصت النبض فوجدته ضعيفًا للغاية، نادت الطبيبة التي أكدت أنها في حالة من اللا وعي _ غيبوبة مفاجئة_.
صرفت لها الطبيبة دواء ومحاليل، وبقيت المشرفة جوارها يومين متتاليين، استعادت خلالهما صحتها تدريجيًا وبدأت تستفيق، ما إن استفاقت هتفت باسم أولادها، رق قلب المشرفة لحالها، ونادت أبناءها الذين لم يلبوا الطلب، لكنها كانت كمن يشعر أنهم لن يأتوا إليها فكتبت هي لهم بمعاونة المشرفة التي كتبت كل ما أملته عليها كلمة كلمة وحرف حرف.
"إليكم أبنائي... لطالما قلت أبنائي رغم نفوركم مني، لطالما أحببتكم وفضلتكم على نفسي، وها هي نتيجة أفعالي لقد استحققت ذلك حقـا، لأنني وأنا أعلمكم الآداب العامة نسيت أن أعلمكم بر الوالدين، لطالما زرعت فيكم بذرة الأنانية دون أن أشعر، لم أعتقد يومًا أنني بتفضيلكم على نفسي ستأخذون ذلك حقًا مشروعًا لكم، وها أنا اليوم في دار المسنين وحدي، ترافقني غريبة تشفق عليّ وتعطف عليّ بينما أبنائي ينبذونني، أحببت أن أكتب إليكم وأقول أن الحياة قصيرة... قصيرة للغاية، هذا الجاه الذي تتنعمون به اليوم غدًا سيغدو سرابًا ويكون مآلكم لما آلت إليه نفسي، فقط تذكروا أن تعلموا أبناءكم بر الوالدين ربما يكون نصيبكم من البر أكبر من نصيبي فيأتون إليكم يومًا في الأسبوع، بالمناسبة لقد انتظرتكم طوال الأسبوع كل يوم أقول ستأتون هذا اليوم لكن لا أحد يأتي".
تسلم ابنها الجواب وسالت دموعه على خديه وهو يقرأ، ورحلت العجوز لتبقى اللحظات الأخيرة في حياتها مجرد تأملات بين الباب والنافذة وجدران دار المسنين.
زينب محمد علي
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق