Translate

السبت، 4 يونيو 2022

شقاوة العيال بقلم / عصام الدين محمد أحمد


 شقاوة العيال

‏‏ ماكدت أجلس حتي هاجمتني الوخزات :
(الأرض متجمرة؛ فالشمس تخبط وترزع الأرض‏.
‏أسفل شجرة الجميز العتيقة قعدنا نستظل، جلبابي مُتنسل ولكنه لايسلبني الشعور بتفردي‏.
القرية مختبئة في البيوت وأسفل الأشجار الوارفة الظلال‏،‏ حتي الأوز والبط يحفرون القاع بحثًا عن أتربة رطبة،‏ الدور مُسنكرة وحوائطها الكالحة ملتهبة‏،‏ الجاموس والأبقار تركن في زوايا الزرائب ملتمسة بعض الظل.
مع هذه الحرارة نتخانق علي اختيار لعبة نتسلى بها،‏ أنلعب سيجة؟
يرفض بقية الأولاد‏..‏
فلنجرب الاستغماية‏،بعضهم يقترح‏:‏
فلنلعب عسكر وحَرامِيَّةّ.
لكل فرد منا رأي‏، وكعادتنا نختلف أكثر مما نتفق وفي النهاية نحتكم إلي القرعة أو"كلوا بامية‏"، كل مقترح يمثل لعبته ومن يفوز بالقرعة يفرض لعبته،أخيرًا تكسب مسابقة الجري.
أدفس ذيل الجلباب في السروال‏،‏ ننخلع من الأرض قبل انتهاء العد.
أطير،أبتلع الأرض دون مضغ‏،يكويني صهد الأرض،لاشيء يلهيني عن السبق،أركب الجسر الترابي‏، الأحجار المسنونة مولعة نار، تماما كالسكين الموضوعة علي المسن،تعبرني الحمير العائدة المتجمرة ،أبرق كالدبور‏،‏ أحتضن شجرة الجميز،‏ ألهث‏، عرقي غزير ولساني جاف‏، نبضاتي لها صوت مسموع‏،‏ ألتقط الأنفاس.
لا أحد يأتي بعد‏،‏ أدعك ثمار الجميز‏،تدبقني ألبانها‏، أفك أسر جلبابي،بقبقت بطنا قدمي،‏ ريالتي الجافة لاتبردهما، أعوز جردل مياه،عندما يعود الأولاد،‏ ويقرون فوزي سأغطس قدمي في حوض البهائم‏،هكذا صبًرت نفسي.
هل بقية الأولاد تباعًا‏،‏ الصدور تعلووتهبط كبالون تتصل فتحته بمكبس هواء خربان‏، ابن العمدة يقضم الجمار،‏أقول‏:‏‏‏أناالفائز
‏‏يضحكون‏،يتغامزون‏،تنهال عليّ العصي وفين يوجعك‏، أنهار‏،يمضغ الأولاد رقائق الجمار‏، تغيب الدنيا‏، تشرق كومضة‏، تأفل وفي حوزتها عينايّ.
الخفراء يحملونني إلي المستشفي‏،‏ أمي تولول‏، تشهق الكمد وتزفر الحزن،‏ وكأنه مكتوب عليها الغم،‏ والدي يتوه في دهاليز التحقيقات،‏ مخبر وضابط ووكيل نيابة وأوراق تروح وتعود‏،وأناعنهم لاه‏،تائه في سراديب البلاهة، قالوا لي‏:‏
إنني ظللت طريح الفراش أكثر من ثلاثة أسابيع،أذناي تلتقطان الغمغات‏، تشم أنفي روائح البرتقال والموز والكحول والضمادات، أفتح عيني‏، مازال الظلام يسيطر‏،انتفت الهيئات‏،‏ صداع قاتل يكبلني،‏ أحرك ذراعي في الفراغ باحثًا عن الوجوه ،كل الوجوه انسحبت مبتعدة إلا نحيب أمي و‏(‏ عديدها‏)‏، أبي يعجز عن الحركة‏،‏ فاليد قصيرة والعين بصيرة‏.‏
العمدة يربت كتفه،‏ يلعن شقاوة العيال‏، يعاتب القدر،‏ يدس في جيبه رزمة بنكنوت‏.‏)
‏‏الباب يُدَق‏،يتذمر البكري ذو الأعوام الثمانية بعنف ‏‏‏وهو في طريقه لفتح الباب،‏ أزعق،‏ لعلهم يسكتون‏، أحذرهم بقطع المصروف‏، لا يأبهون، أنده أم العيال،أيضا لا تجيب، ترتعش أناملي ، يتعالي صراخهم‏،ألتمس الطريق إليهم‏،أحفظ الشقة، كرسي علي اليمين وكنبة علي اليسار‏،‏ أنكفئ علي وجهي‏،‏ كومة خشب تعترضني ،ما بال الخشب ينبت فجأة !
أزيحها‏،‏ أهتدي بالحائط الي مدخل الغرفة‏.
‏عم السكون‏،‏ ولكن حركات أقدامهم لم تهدأ بعد‏،أتوعدهم‏،‏ تتشتت كلمات الوعيد‏،لا أسمع إلا توتر الأنفس،أعود الي الكنبة بخطوات وئيدة،أستند علي الجدران.
يدخل أحمد السائق‏، يسبقه التبرم، أمرته بالنزول ثانية‏، قمت صلبًا وكأن قوي العالم جميعها انصهرت في جوفي‏،‏ حاول أن يسندني ولكنني رفضت،‏ فكلما انهطلت من درجة سلم أختبرت الأخرى، ارتكنت فوق المقعد الخلفي‏ دار محرك السيارة،تطارحني التوجعات‏:‏
‏‏(ما أقسي الصقيع في دروب الوحدة‏،‏ ربما يزيح السفر الهموم‏، فما أجمل استنشاق هواء الحقول الآن‏!
ولكن تنقلي أعالني بالكُرَب فالمرشدة منشغلة بوهم اسمه الوقت‏، أستأجرها بنصف قروش البعثة لتغادرني في الجامعة كصندوق البضاعة المستوردة من الشرق،ثم ؛آه من ثم هذه!
تعود لتجرني الي المكتبة‏،ما بال الطقس اليوم رطبا‏!!‏
تعبث يداي بالحروف البارزة‏،‏ تهدأ المكتبة تماما ،يهمس أمين المكتبة في أذني معلنًا أن وقت الرحيل قد أزف‏،‏ تأتي مهرولة لتقودني الي الغرفة الثلجية‏،‏ صوتها حاد ينم عن تكوينها الآلي‏، وكثيرا ما أغفلت تشغيل جهاز التدفئة، في بداية الأمر لم أفكر في البحث عن‏(‏ زر‏)‏ التشغيل واكتفيت بالبطاطين ومحاكاة الوضع الجنيني أسفلها،‏ الي أن عهدت قدماي الطريق الي مفتاح التشغيل‏.
كمحاولة أخيرة أخضع ليد جراح عيون،مكابدات يؤطرها الأمل،أسفل الضمادات غبشة،ومع الفجر تشرق العين،أكتم خبري مع أسرتي‏)
أتقلقل فوق المقعد‏،‏ أهتز كالبندول‏،غبار الضجيج يطير في الهواء‏,يصدم أذنيّ في توال‏،لا أغمض جفنيّ‏، فما فائدة الإغماض؟
‏‏‏ من الضروري الإجادة ؛حتي لا يُفتضَح أمرك.
الصبر .
ليس سخفاً إدعاء العمى،حتى عم أحمد يشاركني التمثيل!
صوت انفتاح الباب يدفعني الي الحركة،‏ أمسك يده ‏،وبيدي الثانية العصا المتذبذبة‏،‏ أصف له البيت‏:‏
‏‏أكبربيت علي يميني‏.‏
‏‏تنبح الكلاب‏،‏ أحس بحركة السائق المترددة‏،‏ لا حس ولانفس‏،‏ ابتلعت الكلاب صلصلة نباحها، رياح الشتاء تصفعني‏، تباعدت خطواته، غاب طويلًا، سطح المصطبة يزداد برودة‏،‏ لا أستطيع رؤية البيوت حتي بيتي الذي ورثته عن أبي تاه منذ زمن بعيد عن ذاكرتي،مع ذلك اشتريت عشرأفدنة وبنيت علي رأسها منزلا قالوا لي‏ حينها:‏
هندسته جميلة وراقية.
أنفقت فيه المال الوفيرحتي لاتطير جذوري مع من طاروا‏.
أحاديث هامسة تتضح نبراتها‏، العمدة يشدني الي أحضانه،أتماسك فصدره منتفش،‏ لسانه يتهدج‏:
‏‏أهلا بالدكتور‏.‏
‏‏بصوت حاولت أن يبدو هادئًا أسأل‏:‏
‏‏كيف حالك يا عمدة؟؟
‏‏زين‏.‏
‏‏كلمات يمين وكلمات شمال والحوار لاينضب‏،هكذا جعلته يبدو،خلص كلام فقلت له‏:‏
‏‏بص ياعمدة‏:‏ أنا رجل كبر وشاخ وأنت عارف إن الأولاد لم يروا الأرض، يعني لا رابط يشدهم لها وأقترح عليك أن أتنازل عنها لك‏.‏
‏‏يحك ذقنه‏،‏ يتعجل القول‏:‏
‏‏والله يا أستاذنا طلبات الناس تخلخل أعتًي تل‏.‏
‏‏أجهزت عليه قائلًا‏:‏
‏‏عاذرك‏..‏ ولكن لإقناع زوجتي أعرض عليك التسابق وللفائز أرض غريمه‏،‏ وطبعا لن أسبقك لظروفي‏، وبذلك تكسب الأرض وأم العيال لاتعترض‏.‏
‏‏يسخر، يصرح بعجزي‏،‏ يدير الأمر في ذهنه‏، يكتشف غبائي‏.
أصر علي خط الأتفاق في وثيقة.
‏ أهالي القرية يتجمهرون‏،‏ يسر لي السائق بوصول أجولة الدقيق إلي عتبات الدور، يقفون‏، حفيف تزاحمهم لايقلقني، يصفرون معلنين البدء‏.
يطير بانتهاء العد‏،تتراشق التعليقات‏،يشق أسيجة الهواء بسرعة مطردة.
تخطئه أنظار السابلة‏،‏ ألف خلف الجدر،‏ لا حاجة للف‏،‏ ولكن للعيون المشرئبة حاجة الي الغشاوة‏،‏ أعود ثانية‏،‏ ذهب الصباح وخلفه المساء ولم يعد،أو هكذا أتخيل‏!‏
تمت بحمد الله
بقلم / عصام الدين محمد أحمد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة