Translate

الخميس، 23 يونيو 2022

أضغاث أحلام بقلم / كمال المبرك تونس


أضغاث أحلام

 بقلم / كمال المبرك

تونس
بينما كان ( محمد المستنصر بالله ) جالسا على الجابية التي يشتمل عليها بستان قصر "أبي فهر " إذ دخل عليه الشيخ إبن عصفور الإمام النحوي، و انضمّ إلى مجلسه. و إثر ذلك تحدث الأمير وهو معجب بنفسه و قال للشيخ: لقد أصبح ملكنا عظيما، فأجابه قائلا: بنا و بأمثالنا.
*********
" الجدران تتشقق، و الغرفة تضيق بي . تخرج من الجدران ديدان. تقضم الديدان الأثاث. تضيق الغرفة. يتحول بابها إلى باب زنزانة. أصرخ و أنت خارج السجن تذرف دمعك. تتحول إلى صنم، أدفع الباب بكل قواي لكن لا جدوى. لا أقدر
علی زحزته قيد انملة. الصوت يختنق داخلي. الجدران تتصدع، تتهاوى ... الكابوس نفسه يتكرر كل ليلة. أفيق
أجدني في غرفة نومي غارقة في عرقي، أسحب
زجاجة الماء أسكبها في جوفي . أشعل النور. و عندها يشعر والدك بالضوضاء وقد أضاء الغرفة. ويُعيد عليّ نفس
السؤال : " خير يا إمرأة " أجيب: " أضغاث أحلام ". لم يسألني يوما عن التفاصيل، لا يروم تعكيري حتى بمجرد الحديث. يكتفي ب" إقرئي نصيبا من القرآن " ثم يطفئ النور. في النهار لا يهتمّ بما دار أمس شؤون النهار غير شؤون الليل"
.
الليلة حدّثتني أمّي بشأن الكابوس. كان صوتها مضطربا، و نبراتها حزينة على غير العادة .
*************
لم أنتبه لرنين الهاتف الذي مزّق بدويِّه الصمت المُخيّم في هذا الغسق، إلا عندما تواصل رنينه و أصبح مزعجا. حينها
إنقطعت عن القراءة،لتخرس هذه الآلة و يكفّ دويّها. تركت حجرتي التي مُلئت کتبا و عزلت عن بقية الغرف في
آخر الحديقة حيث كان جدي يقيم آخر أيامه ، مع ذكرياته و ألحانه التي لم يكتب لها الخلود... أسرعت الخطى
و أدركت جدّية الموقف فلا أحد يعرف ماذا تُخفي لنا الأقدار ؟
************
غاب في حديثها الشوق و اللّهفة التي عرفتها. أحرجتني بأسئلتها. أعادتني إلى صلب الحياة ، حياتي التي كدت أهملها
قل مأساتي أنا الغارق في الوهم أرصد الكلمات و أعيد ترتيبها في قصصي.
" هل أنت سعيد ؟" قالت الأم.
أجبتها إني سعيد لكن إسمي " آدم" . آدم الذي طُرد من الجنة ليَشقي، هل سيجد آدم الجنة المفقودة في هذه الأرض ؟
أسبوع لم يغادر آدم منزله. معتكف في غرفته يعدّ رواية تدور أحداثها في عهد الدولة الحفصية، و قد أرسل زوجته
وأبناءه إلى منزل والده.
رنّ الهاتف. مزّق بدويّه الصّمت المُخيم في هذا الغسق ... إنقطعت عن القراءة بعد أن تركت حجرتي و حملت معی
کتاب "الدولة الحفصية" لأحمد بن عامر ..
**********
_"دعك من الكتب و الكتابة و اهتمّ بحالك. هل أفادك ما كتبته فحتى المجموعة الشعرية التي أنجزتها أهديت أغلبها. ثم تلك المجموعة القصصية ماذا كان مصيرها، إنها مُكوّمة على الطاولة في غرفة الحديقة. لقد ضقت ذرعا بك و من
آمالك لقد كرهت تلك الغرفة و رائحة الكتب"
_"هوّني عليك أمّاه ليس الأمر بيدي"
- " أعلم ذلك. لكن كأنك لست ابن عصرك. إن الأمور تسير بطريقة مختلفة. هل يسعدك وضعك هذا ليس لديك
الوقت الكافي حتى لزيارتنا، تبعث بزوجتك و أطفالك لزيارة جدهم بينما أنت تختلي بنفسك و بأوهامك"
أربكني حديثها عني. قد تكون على صواب. قد يكون حديثها عن الغرفة وهي تتشقق، و الديدان، و باب الغرفة الحديدي وتحوّلي إلى صنم ناجم عن عاطفة الأمومة التي تهوّل الأمور .
_" لماذا لم تتحدثي قبل الآن عن هذا الكابوس. إذا كانت هذه الغرفة شُؤما يقضّ مضجعك بهذا الشكل سآمر بهدمها غدا"
_" ليتك تفعل، فقد أفقت من نومي على هذا الكابوس لأكلمّك بشأن الغرفة. لقد رأيتها الليلة تقع رکاما و أنت بداخلها يا ولدي، تشاهد سقوطها ولا تستطيع الفرار. أنت بداخلها و لست أنا. و إلحاحي على اقتناء منزل جديد كان سببه ذلك الكابوس و ها أنا أفيق من نومي بسببه بعد أن وقع ذلك السجن و تحوّل كل ما فيه إلى ركام: أنت وكتبك و عود جدك و الأثاث التي به"
-" لن أعود إلى الغرفة، سأهدمها بنفسي صباحا بعد أن أنقل كل ما فيها إلى غرفة أخرى. ثم أزوركم غدا لنتغدی
سويًّا مع الأطفال، فهل هذا يُرضيك "
_" لقد أثلجت صدري بوعدك هذا و أستطيع أن أنام ملئ جفوني، أنا بانتظارك غدا"
_"تصبح على خير"
_" تصبحين على خير وعافية "
فتحت إثر المكالمة الكتاب لأطّلع عمّا حدث للإمام النحوي "ابن عصفور" قبل أن أنجز ما وعدت به والدتي.
أسرّ الأمير في نفسه تلك العبارة الدّالة على إعجاب الشيخ بنفسه، و بإشارة منه: ألقى أحد خاصته الشيخ في الجابية
من غير إظهار تعمّد. و تثاقل الحاضرون عن إخراجه. ثم أُخرج. فرجع إلى محلّه بثيابه المبتلة، فأصابته حمى مات بسببها بعد ثالث يوم.
أغلقت الكتاب أسفا على "ابن عصفور " و توجهت إلى الغرفة لأشرع في نقل کتبي و الأثاث الذي تحتويه قبل أن أتراجع عن قرار اتخذته و أوفي بوعدي بهدم الغرفة. لكن أي محتویات سأنقل ؟ و قد تملّكني الذّهول و لم أصدّق ما شاهدت، أيكون كابوسا هذا الذي أشاهده، لقد وقعت الغرفة و تكدست حطاما: حجارة
و کتبا و عودا تناثرت أجزاؤه...
كمال المبروك
كتاب" أحلام و رؤى " ص27. تونس 2022. مطبعة فنون تونسية المنار 1 تونس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة