Translate

السبت، 23 يوليو 2022

جنرال ........... مروان زلط - مصر

 جنرال

مروان زلط 
 مصر
في زمن ما وقف القائد خلف نافذته يتأمل الطقس الغائم المعتاد لليالي الشتاء الحزينة.. تهطل الامطار كالخيوط الشاحبة في صدر الظلام .. من غزارتها خُيّلُ إليه أنها رِماح من كبد السماء تنغرز في قلب الجو المكفهر، فتنفجر البرودة معممة على الجو سيادتها. يدقق النظر في الأشجار المصطفة حول المنزل.. تتوسطها بساتين من أزهار مختلفة الأنواع ، يشعر بارتجاف وُريقات الشجر تحت ضربات النسيم المتلاحقة.. يسمع دبيب الحياة الخافت الهارب من عنفوان المطر ، وحفيف أثواب الواقع المُلطخَة بدماء الأحلام. تعزف السماء ألحان الموت على وتر الوجود الشفاف.. فتصل إلى أذنه أنغامها الحزينة وسيمفونياتها المُبكية. تسري الرعشة عبر فقرات جسده الفاني فيبتسم مُردداً كلمات لا يدري لها من المعنى شئ.
عدل القائد من وضع سترته وداعب الأوسمة المُعلقة على صدره فاهتزت أساريره ضاحكة في فخر. سمع صوت أقدام من خلفه فالتفت ليجد الجنرال واقفاً أمام الباب ينتظر الإذن بالدخول. أَذِن له فدخل وأدى التحية في صرامة.
تساءل القائد وهو ينظر إلى الجنرال بعينيه البنيتين القاسيتين :
- ما الأمر أيها الجنرال ؟
- ‏لقد جئتك بأخبار ربما تود أن تسمعها حضرة القائد.
- تكلم.
- لقد اندسست بينهم كما أمرتني.. وقد عرفت الكثير من الأمور التي ربما قد تسعدك.
- عظيم.. فلتخبرني بكل ما عرفت ، فأنا أشعر شعور مَن استيقظ بغتة مِن بعد غيبوبة استمرت لعقود.
- لقد وصلت الأمور إلى الحضيض سيدي القائد.. أصبح البحث عن الطعام كالبحث عن السماء السابعة ، لم يعُد هنالك عمل.. لا عمل لا مال لا طعام.
أشعل القائد سيجارة ثم أشار للجنرال بأن يكمل:
- العمل الوحيد المتوفر الآن هو جمع الفضلات والقمامة ، لقد دُمرت مياه الصرف منذ أن وقعت الواقعة. ولا سبيل للحصول على هذا العمل دون التسجيل والتقدم للوظيفة في المصنع. من يتم قبوله يحصل على عربة صغيرة يدور بها في الشوارع لجمع القاذورات واستبدالها من المصنع بقوت اليوم. ومن يعمل دون التسجيل في المصنع والحصول على بطاقة العمل يتم ذبحه فوراً. هنالك بعض المحتالين الذين يقتلون العمال ويستحوذون على بطاقاتهم الخاصة. ولكن أولئك يتم كشفهم سريعاً ويقتلون بأبشع الطرق؛ كي يكونوا عبرة لمن يفكر في مثل ذلك الأمر.
- وكيف يقتلونهم ؟ - تساءل القائد -
- يتم سلخهم وتعليقهم في الشوارع لكي يتعظ الباقون. ولكنهم لا يبقون على حالهم تلك كثيراً ، فبمجرد أن يُنفذ عليهم الحد؛ حتى تُسرق جثثهم ويتقاتل على التهامها الناس. إنها أثمن وجبة يمكنهم الحصول عليها في حياتهم. هنالك أيضاً الذين ما إن يموتوا في بيوتهم حتى يُصلي عليهم أهلهم ثم يشرعون في التهامهم. وهكذا تجري الأمور في الأنحاء كلها.
- وهل لدى الجميع بيوتٌ يسكنونها ؟
- بالطبع لا سيدي القائد.. إذا استثنينا البيوت التي حُرقت وهُدمت ومات أهلها. فهنالك بيوت يتم التناوب علي السكن فيها. وأما من يمتنعون عن التناوب فأولئك يؤكلون وهم نيام. لقد حضرني موقف شبيه عندما امتنعت عائلة عن الخروج من بيتها بحجة أنهم سكانه الأصليون من قبل حدوث الواقعة. كانوا خمسة. أب وأم وابن وابنتين. فليرحم الرب روحهم . لقد صعد إليهم في الليل لصوص فاغتصبوا النساء أمام رجالهم ثم أداروا فيهم الذبح وباعوا لحومهم مقابل مبلغ زهيد من المال. وهنالك جرائم عديدة مثل هذه وأبشع تعج الشوارع بها والبيوت. إن استباحة النساء واغتصابهن قد صار أمراً عادياً في كل ركن وزاوية.. وكذلك القتل. هناك أناس رفضوا فكرة التهام لحم البشر فالتهموا قاذوراتهم حتى ماتوا متسممين.
ضحك القائد ضحكة صاخبة وصاح :
- من الجيد سماع هذا. إن فناءهم هو ما نحن إليه ساعون. وأعتقد أننا في ذلك ناجحون حتى الآن.
- هذا ما أراه سيدي القائد.
- أكمل يا جنرال.
- إنهم لفي بؤرة سيدي القائد.. بل هم البؤرة في حد ذاتها. يمثلون المأساة الخام للوجود البشري. لقد أصبح العدم وجودهم يعيشون فيه ويمتثلون له في ذل ومهانة. عندما تنظر إلى وجه أحدهم ترى .. ترى الموت سيدي. أموات يحيون في الموت !! يهطل البؤس والشقاء عليهم مدراراً فيبتسمون لهما في ودٍ وترحيب. إن الضياع ليؤجج التيه ويعمي الإدراك ويُغرق النفس فيما ائتلت عن تغاضيه. إنهم لضائعون سيدي. بل هم الضياع في حد ذاته.
- وما الأنسب لهم من مصير في رأيك ؟
- مصير !؟ هؤلاء لا مصير لهم سيدي.. المصير نتيجة تترتب على ما تحدثه في حياتك فينتج هو عنها. أما أولئك فليس لهم من حياة مقدار ما للحياة من موت. وأفضل خدمة يسدونها لأنفسهم هي أن يرحلوا عن مسار الدنيا. يستمرون في عذابهم حتى يفنوا. بل وهذا أكثر مما يستحقون سيدي.
جلس القائد على كرسيه مولياً ظهره للجنرال.. خلع قبعته عن رأسه وجلس ينظر عبر النافذة في وجوم ثم قال :
- ‏حسناً فعلت يا جنرال. فلتنصرف الآن وفي الصباح لنا من الحديث بقية.
أدى الجنرال التحية وخرج مسرعا وهو يحك كعبي حذائه بالأرض. بينما القائد على مقعده جالس، يجول ببصره في الأفق المظلم ويتأمل حلكة السماء. غير منتبه لذلك الضوء الذي مرق من الظلام فجأة
فغشى عينيه.
مروان زلط 
 مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة