Translate

الأربعاء، 31 أغسطس 2022

قصّة قصيرة : في التاكسي. بقلم : عامر علي إبراهيم ـ تونس ـ

 قصّة قصيرة : في التاكسي.

بقلم : عامر علي إبراهيم
ـ تونس ـ
ممّا روى الشّيخ ابن زينة المختص في ميدان الجبر و الهندسة إضافة إلى اهتمامه بمجال الفقه ودراسة السّلوك البشري من باب الهواية موقفا طريفا حصل له مع سائق سيّارة تاكسي فقال :
كنت ذات يوم جمعة خارجا من المقبرة بالجانب الشرقيّ للمدينة حيث يرقد والدي منذ عشر سنوات بعد أن قرأت على روحه الطّاهرة فاتحة الكتاب و دعوت له مترحّما ما خطر ببالي من دعاء رجوت الله فيه القبول والاستجابة . و من عادتي أن أقطع المسافة حتّى منزلي ذهابا و إيّابا مشيا علّني أصادف مسكينا يستحقّ صدقة فينالني و ينال والدي ثوابها . لكنّي يومها وعلى غير عادتي قرّرت أن أستقلّ حين عودتي من الزّيارة سياّرة تاكسي نظرا للإرهاق الذي شعرت به . محطّة سيّارات التاكسي توجد بالجهة المقابلة للمقبرة لا يفصلهما غير المعبّد الذي تجاوزته متّجها صوب أقرب سيّارة رابضة ينتظر سائقها حريفا ونظرا لحالة التّعب لا أعرف كيف فتحت بابها الخلفي ودلفت داخلها دون أن اكلّم السّائق الذي كان يتابعني منذ خرجت من باب المقبرة فلم يزد عن سؤالي عن مقصدي. بدوري أجبته مقتضبا : النّافورة ، استوضح بكلمة أخرى : المقهى؟ فأومأت له بالإيجاب و أنطلق بي صامتا لكنّه بين الحين و الآخر يتأملني من خلال المرآة العاكسة كما لو كان يودّ أن يرى وجهي بوضوح لكنّ لحافي الأبيض المتدلّي من فوق العمامة البيضاء لا يسمح له إلّا ببعض منه و لم اكترث فوضعت هاتفي الخلوي بجانبي على الكرسيّ و سرحت بخيالي بعيدا لا أرى شيئا غير والدي رحمه الله و لا أسمع غير عِضاته لي قبل وفاته بمدّة قصيرة . انتبهت على صوت السّائق يسألني هذه مقهى النافورة فهل وصلنا أم تريد مكانا آخر؟ .
كان منزلي قريبا من المقهى فأشرت له نعم و دفعت أجرة المشوار ثمّ ترجّلت من العربة. انطلق عائدا، أمّا أنا فقد وضعت يدي في جيب القميص الأبيض الطويل الذي أرتديه لأستخرج هاتفي لأتّصل بصديق الطفولة ابن العاشق الذي وعدته سابقا بإحتساء شيئا من مشروب القهوة المميّز في هذا المحلّ الهادئ قبالة نافورة الماء و أسترجع معه بعض الذكريات الجميلة التي لا تنسى و لا تعاد كما يصفها صديقنا الآخر الشّيخ ابن عمارة و خاصّة تلك التي تتعلّق بابن عجّال و ابن الشّريف و جماعة السبعة و السبعين عذرا، لكنّي لم أجده فقد تركته في سيارة التاكسي. لم يكن ثمّة حلّ غير مطاردة التاكسي من جديد قبل أن يمتطيها حريف آخر فيضيع الهاتف الثّمين و تضيع ما به من معطيات جدّ مهمّة . استقليّت من جديد سيارة تاكسي أخرى كانت من حسن الحظّ خلف التي أنزلتني أمام المقهى و رجوت سائقها أن يتابع مسار الأولى فلا يتوقّف إلّا حيث تتوقّف. لم يطل بنا المشوار كثيرا فقد عاد السّائق المطارد إلى المحطّة دون أن يحمل أيّ حريف في طريقه . دفعت للسّائق الثّاني ما طلبه و قصدت من جديد السيّارة الأولى الرابضة بنفس مكانها الأوّل و من جديد فتحت الباب ودلفت إلى داخلها حيث كان هاتفي في انتظاري، وضعته في جيبي مطمئنّا ثمّ بادرت السّائق الذي لا أعتقد أنّه إنتبه لما حدث بالكلام: "مقهى النافورة يعيّشك ". التفت صوبي ليقول شيئا لكنّه صدم حين رآني فظلّ كما لو أنّه محنّط في وضع إلتفاتة للوراء ،ثمّ استعاد شيئا من شجاعته بعد أن فتح الباب ليضمن الإفلات في حالة ما إذا تطوّرت الأمور للأسوأ و قال بصوت مرتعش :
ـ ألم أوصلك للمقهى منذ دقائق ؟
أجبته و قد فهمت ما أصابه :
ـ أحيانا أذهب مرّات كثيرة لنفس المكان و أعود بسرعة ، حين أكون بمقرّي الجديد أشتاق للقديم و حين أعود للقديم لا أرتاح فيه فأقصد الجديد.
هل فهمتني؟
قال و هو يحاول أن يتأكّد ممّا يخطر بباله : أين مقرّك الجديد ؟
أشرت للمقبرة و قلت : لعلّه يعجبك يمكنك أن تكون ضيفي هناك ، هل تريد أن أحجز لك مكانا بقربي سنكون جارين إن شئت .
لم يرد على اقتراحي هذا بشيء و إنّما فرّ هاربا من السيّارة لا يلوي على غير النجاة من براثن حريف غريب يريد أن يستضيفه بالمقبرة ...
السّائق الذي أعادني لآخذ هاتفي فهم الحكاية و جرى خلف الأوّل ضاحكا ليفسّر له ما جرى ، أمّا أنا فقد بقيت منتظرا عودته ليوصلني من جديد لمقهى النّافورة وهاتفت ابن العاشق لأستحثّه على القدوم للمقهى لأروي له طرفة لا تحصل دائما .
قد تكون صورة ‏سيارة‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة