Translate

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

مكلومٌ يا ولدي للكاتب المبدع / داود سلمان عجاج العراق

 مكلومٌ يا ولدي

للكاتب المبدع / داود سلمان عجاج
العراق
مضتْ ثلاثُ ليالٍ ولم يذقْ طعمَ النومَ فيها، منذ السبتُ المجنون، ذلك اليومُ الذي بدأ منذ صباحه الباكر تُنسجُ خيوطُ الكفنِ الأبيض، ليسرقَ الموتُ منه فلذةَ كبدهِ، موتٌ مجاني بسلسلةٍ متواليةٍ قد لا تتوقف، رغم عدم تصديقه بلحظةِ الرحيل، لكن هي الناسَ تتحركُ من حوله، تواسيه، تحاولُ أن تُخرجَ بعضا من تلك الأحزان التي أخذت تجثمُ على صدره، والاستغرابُ يجعله يقفُ بذاتِ الدهشةِ من المواساةِ المتكررةِ بين الحين والآخر، وأصواتٌ تتسابقُ في دواخله، تسأله بشكلٍ متتابع.
- هل رحلَ مصطفى؟
يحدقُ في سقفِ الغرفة، يصيبه الرعبُ، وناقوسٌ حزينٌ يدقُ في رأسه بضجيجٍ صاخب، يتحولُ على شكلِ ضرباتِ فأسِ متتالية.
- لا, لا يمكنه أن يرحلَ بهذه السرعة.
تحضرُ التفاصيلُ كلُّها، كيف لا يتناولُ طعامه قبل أن يمدَ والده يده، لا يرفعُ نظره بوجهه، لذا بدأ يشعر بالإختناق، صخرةٌ تقفُ على الصدر، فالأحزانُ والآهاتُ تكتمُ الأنفاس، ليقفَ الزمنُ، والروحُ تدخلُ في سديمٍ بعيد المدى، والليلُ حالكٌ كالحقد، ومراسيمُ عزاءٍ يراها تمتدُ لمسافات، كراسي بالوانٍ حمرٍ كلونِ الدم، الماء، القهوة.
- ترى ما الذي حدث؟
تتوسعُ الفاجعةُ في دواخله، تتحرك، تلامسُ قلبه، تدمع عيونه، يزدادُ هلعه، يصرخُ باسمه.
- اين ذهب مصطفى؟
بين دروبِ الفقدِ تاه، رمى الفؤادُ أجزاءه بشكلِ شظايا متفحمة، والفكرُ أَخْذ يشتكي، يجوبُ الكونَ، يرتعش، تتعالى الرياح، الأصوات، نواحٌ يخلعُ نياطَ القلوب، عاصفةٌ من الصراخِ تهبُ تملأ مساحةَ باحة الحوش الواسعة، ليبدأ الغولُ يغرسُ أنيابه بين الثنايا، وأخذ الرعبُ يدورُ دورته، مع إيمانه بالقدر، بأنه سيقودُ الجميعَ إلى ذلك الأجلِ المحتوم، والأحجارُ تحزُ الوجدانَ، يسأله حفيده.
- أين أبي؟
تتناثرُ الأحلامُ كشظايا الزجاجِ المتكسرة، وتغيبُ النجومُ من الليل، والسماءُ أخذت تكتسي لون الرماد في وضح النهار والشمسُ في كبدها، والأقدارُ وضعته أمام اختبار الخيارِ الأوحد من دون إنذارٍ مسبقٍ، وطائرُ البومِ ينوح، يناغي طائرَ الموتِ، لذا أخذ يركضُ وراء سرابٍ مجهول، يبحثُ عن شيءٍ لا يعرفُ سره.
يواسيه زميلٌ له يجلسُ بالقربِ منه.
- الصبرُ, الصبرُ, انما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى.
يحاولُ أن يجيب, إلا أن كلماته تبقى مسجاة على مقصلةِ الانتظار, لذا أخذ يوشرُ إلى قلبه والدموع تنهمرُ من عينيه.
- جمرةٌ هنا تتحرك.
فأجهشَ ذلك الزميلُ على بكائه.
ما كان يَظُنُ أن ترميه سهامُ المنايا، ليتقاسمَ طعمُ الرحيل، لذا بدأت الحروفُ تهربُ منه خجلة، تسكنه الحيرة، وتتسللُ ألوان لدموعه قبل أن يجيب، والنبضُ يُوخِزُ صدره من الألم، فتخرجُ مرارةَ الرحيلِ، بعدما يداهمه شبحُ الغياب، فتنمحي ما ظل من لون عينيه، ويهشمُ الموتُ بقايا العمر.
- اتكفي الدموع؟ وحروفُ الكلماتِ تمتصُ ذاكرةَ الحنين.
كيف سَيُبْحِرُ بموجه الغادر؟ وإن عاشَ، فسيبقى بقلبٍ متفحمٍ، يتشظى بعطره، والرحيلُ الماكرُ ينامُ على الأرصفةِ الدامية، يصحو ولا فجر يستقبله، سوى بقايا خريفٍ يهدده شتاتُ النهايات، وستدومُ مواسمُ النواحِ وتمطرُ النوائبُ، لتسقي وجدَها أزهارا سودا بلونِ كبده، ويشتعلُ في أوجِ الكلمات.
- مكلومٌ أنا يا ولدي.
فتُقتَلُ الروح، يتعاطى السبات، ويناجي الموتَ بِكُلِّ لحظةٍ، بعدما ملّته السكرات.
داود سلمان عجاج
العراق
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏لحية‏‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة