Translate

الأربعاء، 12 يوليو 2023

قصة قصيرة: "علامة فارقة" للكاتب المبدع / حميد الهاشم - العراق

 قصة قصيرة:

"علامة فارقة"
في لحظة واحدة ،كنت أرى الكل ، ليس لاني في مكان مرتفع ، بل لأنني هكذا ، أرى اللحظة كلها ، ميّتها وحيّها.
بلهفة دخلوا القاعة ، دخل بعدهم، نازلا من سلم جانبي ، نحن المعلقين كنا ننتظر أن يدخلوا ، ننتظر أن ينظروا لنا ،لم يأت أحد لي ، سوى هذا الرجل الذي وقف قُبالتي ، يدّعي أنه يعرفني ، بيد إني في نسيان منه.. خاطبني:
" لقد فعلتُ كل الذي تمردتَ أنت عليه، هربتُ بعدك إلى الغرب ، التجأت إليه ، حتى إني تزوجت فيما بعد هذا الغرب، وتزوجني".
ما زلت لا أتذكره، لكني أشتقتُ لمعرفة تفاصيل ادعائه صداقتي أو مرافقتي قبل أن أكون معلّقا.
هو يعرف مع من يتحدث ، أنا لا أعرف من الذي يتحدث معي الآن ، رغم أنه يبدو ليس متيقنا تماماً من أنني أنا أنا.
للوهلة الأولى كنت أجهله، أنْ أجهله ؛ذلك يخّلف عندي شلالا ً من الأسئلة، وأنْ عرفته أشعر أنه سيوّلد عندي تيارا من الندم...كل الذين عرفتهم بعد تحديقهم..أما شلالا وأما ندما.
اقترب مني أكثر ، عيناه تسمرتا في ملامحي ،أحنى رأسه الأشيب على كتفه الأيمن ، غرق في الذاكرة بعيدا ، كأنني لمحت بللَ دمعةٍ بدأ ينزّ من عينه، نعم..نعم، أنها دمعة، رفع يده لمسحها بكم جاكيته الفاخر.
دعها يا رجل ، يبدو أنها أجمل ما في لحظاتك الآن.
خاطبته دون أن أخاطبه.
أطلق آهة مع كلمات أربعة بينما هو يمسح دمعته.: " أنه..هو".. "أنه هو".
الآن تيقن من أنني أنا هو المُراد.
كنت قد تركتُ الزمن خلفي ، تركت الوطن لزمن هذا الرجل الذي يحدق بي ويحادثني منذ نصف ساعة أو أكثر.
بعد تلكم الكلمات ، أطلق جملة طويلة:
" ما كان الأجدر أن أن ترحل وتتركني..ما كان الأجدر أن تدخل الجنة وحدك وتتركني".
ثم أكمل، شيء أقرب للفضيحة:
لقد عاشرت امرأة شقراء ، تقطن إحدى ضواحي باريس ، عامان من الزنا العلني ، قبل الحب كانت مرحلة الخمر يا صديقي ، أعذرني ..ليس لي أن أنسى من إنك أحد أبطال الفضيلة."
أنا أرى الجميع في هذه القاعة المليئة بالجميع.
نصف هذا الجميع أموات ،نصفهم الآخر على قيد التأمل لما هو معلق ما فوق الجدران..صور كثير معلقة ربما بقدر المجازر الجماعية ، الأنين والحنين والحشرجات والآهات تتعالى في هذه القاعة ، قاعة الشهداء ، الشهداء ممن لم يعودوا إلى ذويهم ، لاخبرَ ، لاجثمانَ ، لا عزاء ،السكوت قبل ثلاثين عاماً مع حبس الأنفاس علامات العزاء العلنية ،ومن يخرق السكوت بدمعة ومن لم يلتزم بذلك يلتحق بهم.
الآن نحن معلقون ، صورا فقط ، بعد الأطاحة بمن أطاح بحياتنا.
أنا.. صورتي تلك ، وهذا الرجل يدُعي صداقتي والتي أنكرها عليه الآن، لا أعرفه ، هو مهمتي الآن ، وإلاّ ليس له الحق ادعاء رفقتي ، الأكثر من ذلك أنه يحاججني إني..تركته ومضيت إلى جنتي.
تذكرت أمي التي لا توحد في هذه القاعة، تذكرت أبي وأمي الذي ربما الآن في قاعة أخرى للبحث عني وهما يتفحصان الجدران المزّينة بنا.
إخوتي ، لا أحد.
صورتي دون ألوان، أسود وأبيض.. وصديقي مطاطيء الرأس مازال قُبالتي ويعلن أمام البياض متمتما:
" الأسود نحن.. والأبيض أنتم".
تحدث الرجل بصيغة الجمع هذه المرة.
ثم أردف بصيغة المفرد، مستعيناً بفقرة الأجدر:
" كان الأجدر بي أن أترك الجحيم.. الحياة..وألتحق بك..معك"
المتعاكسات التي أردفها والتي جمعتها منه.
مرة الجنة.. وأخرى الجحيم.
أنتم الأبيض..نحن الأسود.. يتوسط ما بين الجمع والمفرد.
"يا صديقي... أنني لم أعد أنا.. أنا قبلتُ القسمة على نفسي.. وأصبحت أكثر من واحد.. أما أنت فلم تكن كذلك..فمضيتَ إلى وحدك بوحدك."
هكذا الآن يخاطبني.
"أنا ذاك الذي كنت أشبهك..حين تم اعتقالك.. حين كنا طلبة في الإعدادية.. لا أدري لماذا لم أُعتقل وقتها..لم أكن أعرف الحكمة من ذلك..يبدو أنني أعرف هذه الحكمة الآن "
ويبدو أن ملامحه بدت تطفو في ذاكرتي ، تماشياً مع ادعائه في معرفة حكمته.
حسنا..حسنا..تذكرتُ..
القلب هو العلامة الفارقة ، حين كنا معا كنت أعرف قلبك، وحين ذهبت العلامة الفارقة لم أجد الطريق كي أعثر عليه، أو عليك.
أكمل مناجاته معي:
" أعرف أنك ستبصق على وجهي بعد ما سمعت، لا أخفي عليك أني أصبحت من المرابين الكبار ، الربا جعلني مليارديرا ، السياسة أعادتني إلى القمة حين عدت إلى بلادنا ، بلادنا التي اعتقلتكَ وأنت في ربيع العمر قبل سنوات وسنوات ،وذنبك الوحيد هو أنك تحب الحرية والفضيلة.
الغريب يا صديقي ، اني بكل آثامي وتحولاتي الآثمة صرت مديراً لميراثك، نعم صرت مديرا لكل ميراثك؛ كل ما تبقى منك، وماتبقى لك في دائرة الشهداء السياسين ، بعد أن عدتُ ، صرت مديراً لها... أنا المسخ.. أنا الذي لا أشبهك في شيء"
حميد الهاشم / العراق.
*( القصة فائزة بالمركز الأول في منتدى المشكاة الأدبي/ تموز 2023)
قد تكون صورة ‏شخص واحد‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة