صراع في المهجر
للكاتب المبدع / عبد المجيد بنداش
المغرب
التقت ليلى برجل فرنسي في سن مبكرة ، عندما كانت في الثامنة عشر من عمرها ، وقعت في قصة حب تشبه قصة روميو وجولييت.
كانت عائلتها من الريف المغربي ، محافظة على القيم العائلية وتتميز بالتواضع والحشمة ، كان احترام الوالدين أمرا مقدسا ، حيث يقدس الرهبان لكونه يوزع صكوك الغفران. أما دور المرأة فكان يقتصر على شؤون البيت من الأكل والشرب وخدمة الزوج ، فكلمة الرجل هي العليا، كلامه وحسب اعتقاده حقيقة مطلقة، يصعب إقناعه عندما يركن في زاوية العناد، يعتبر نفسه من العارفين على الرغم من أنه لم تطأ قدماه أبواب المدرسة.
هاجرت الأسرة إلى فرنسا بحثا عن لقمة العيش والهروب من الفقر المدقع الذي حل بالقرية بسبب سنوات الجفاف المتتالية. هاجر معظم السكان إلى المدن الكبرى من البلاد ، يعمل بعضهم في الحقول الزراعية تحت وطأة استغلال البرجوازية التي تقاسمت الكعكة مباشرة بعد الاستقلال، وبدون أدنى حقوق اجتماعية. أصبح معظمهم من الباعة الجائلين في الأزقة ، يدفعون عرباتهم بشقة الأنفس ، وأحيانا يهربون من تهديد قوات الأمن في أثناء حملات تطهير الطرق من الازدحام ، ويهتفون بصوت عالٍ بنوع وسعر بضائعهم.
منذ أن اكتشف والدها المأساة التي أصابته كالصاعقة ، مأساة خطوبة ابنته بالفرنسي، انفجر مثل البركان بسبب شدة الصدمة فكيف تتزوج المسلمة مع نصراني؟
كان يكرر صباح مساء ، شبه مجنون ،
- \ "ما يا رومي أذ يرشل زيلي؟ \".
إن شدة الكارثة التي حلت به أشعلت في داخله مشاعر الانتقام ، بدأ يتساءل كيف يتخلص من وصمة العار التي كانت ليلى من ورائها، ليلى من سلالته ودمه.
أما الأم فاطمة فتعاني في صمت رهيب، كانت امرأة عاجزة عن التعبير عن رأيها ، خاضعة تركع لعرش زوجها، علاقة تقترب من العبودية ، اتخذت موقفاً غامضا، خائفة من تعسف زوجها وتمرده ، فلا مجال للحوار معه.
\ "معزة ولو طارت\"
أقسم أن يطرد ليلى من المنزل ولو كلفه ذلك السجن والقيل والقال.
منذ الصيف الماضي ، كانت الأم تتوقع أن تتزوج ابنتها ليلى من ابن أخيها سعيد ، الحاصل على شهادة جامعية في إحدى الجامعات التي تنتج العاطلين عن العمل ، عسى أن تنقذه من براثن البطالة ، أو الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت، أو الانتظار في محطة تنقله إلى صحراء قاحلة يسميها البعض الموت البطيء.
في غضون أيام قليلة ، تدخلت مساعدة اجتماعية لإنقاذ ليلى من تهديد والدها بالقتل حيث رفعت هذه الأخيرة دعوى قضائية ضد الأب بموافقة ليلى، غرابة الأمر، فتاة تعرض أباها إلى القضاء،
قررت المحكمة الفرنسية بمنع الأب من التواصل مع ابنته ، وإلا وضع في السجن ، مما جعله يتراجع عن قراره بالانتقام وإجبارها الدخول إلى المغرب مع زوجته فاطمة ، ثم تمزيق أوراق إقامتها حتى لا تطأ قدمها فرنسا مجددا.
كان ارتباط ليلى برجل غير مسلم إهانة وضربة قاتلة في معركة الحفاظ على سمعة وشرف الأب ، ولا سيما أمام أنظار الجيران.
منذ تلك اللحظة، انتشرت الفضيحة كالنار في الهشيم في المسجد الذي كان الأب يؤدي فيه الصلوات الخمس ، أصيب بالاكتئاب الحاد ، فأصبح مدمنا على تناول الأدوية،
أما بعض الجيران من أصل فرنسي ذوي الميول العنصري ، نشروا شائعات زادت الطين بلة ، كانوا يرددون في حانات النبيذ أن والد ليلى إرهابي وسلفي يريد فرض الحجاب على ابنته،
حاول الوالد منعها من الزواج لكن دون جدوى.
تمكنت ليلى من تحقيق حلمها رغم أنف واستنكار والدها. احتفلت بزواجها حسب الطقوس المسيحية وحدها بين أهل زوجها، ليلى كانت عنيدة كأنها ورثت هذا الجين من أبيها، لا تتراجع إلى الوراء، ولو أدى بها الأمر إلى الخسارة.
قضت السنوات الأولى تحت سقف الحب مع الأمير الساحر، تذوقت طعم الحرية التي كانت تؤمن به ، تلك الحرية المزيفة ، تعلمت التدخين ، شربت الخمر مع زوجها ميشيل ، أمضت الليالي في الرقص وتتناول المخدرات والكحول من الويسكي إلى البيرة في النوادي الليلية في عطلة نهاية الأسبوع، أجبرته على تغيير اسمه ميشيل بعيسى كي تتظاهر أمام أنظار الناس بأنها متزوجة من رجل فرنسي اعتنق الإسلام.
سافرت رفقته إلى تركيا ، وإسبانيا ، ومراكش ، والشواطئ الرملية الذهبية بالمغرب ، تزدحم بدورها بالمهاجرين المغاربة أصحاب السيارات الفاخرة واللباس لأكبر العلامات التجارية ، بحثا عن سمرة طبيعية تتباهى بها أمام رفيقاتها في العمل، مرتدية ثوبًا خيطيا شفافا ، على عكس والدها الذي كان يزور قريته وعائلته سنويا ويقدم الهدايا للفقراء ويحتفل بوعده الولي الصالح المدفون في قمة الجبل ، لم تطأ يوما قدمه الشاطئ قط ، على الرغم من أنه يبعد مسكنه ببضعة كيلومترات قلائل عن البحر. مرت الأيام ، كبرت ليلى ، ودخلت عامها الثلاثين ، لم تعد تلك المراهقة التي تقبل كل ما هب ودب من تصرفات وجنون زوجها. بدأت العلاقة الزوجية تأخذ منعطفًا ، إذ لم تكن قادرة على الاندماج مع هذا العالم الجديد ، العالم الذي يغري الكثير من الشباب. يشبه تلك المرأة التي تبدو أنيقة وجميلة وراء الماكياج، لكن تتغير ملامحها في الصباح كوردة ذبلت،
تكتشف ليلى يوما بعد يوم الاختلاف في الثقافات والتقاليد ، تعيش مع زوج مدمن على الكحول ، وأكثر من ذلك ، يكبرها سنا بعشرين عاما ،
انتهت سنوات الرومانسية
والحب الأعمى ، حان وقت السنوات العجاف ، بدأ الزوجان يعيشان في صراعات لا تنتهي ، فتعارضت و تطاحنت ثقافة الزوجين ، يحاول كل منهما فرض قيمه على الآخر ، خاصة في تربية الأبناء ، كان الزوج يحتفل بالأعياد المسيحية ، والجدة تذهب كل أحد إلى الكنيسة رفقة الطفلتين، لكن ليلى ، رغم أنها لا تطبق الشريعة الإسلامية ، فهي لا تتحمل استحواذ وسيطرة الأب على البنات.
تحول انجذاب وغرام ليلى المراهقة لميشيل(عيسى) إلى عداء وكراهية. بدأت ليلى تشعر بالندم على المغامرة التي قادتها إلى طريق مسدود، قطعت الحبل وصلة الرحم مع والدها ووالدتها منذ ما يقرب من عشر سنوات منذ تدخل المحكمة ، الأمر الذي عزز وعبد طريقها الغرامي مع الفرنسي.
بعد صراع طويل ، انتهت مغامرة ليلى بالطلاق ، فوجدت نفسها وحيدة في غياب أهلها وأصدقائها المسلمين الذين كانوا يخشون زيارتها بسبب سمعتها القبيحة.
في أحد الأيام ، قررت ليلى زيارة والدها ، كانت تتوقع منه العتاب، أرادت أن تطلب منه السماح وتخبره بأنها مطلقة وتريد التوبة والعودة إلى المنزل.
عند وصولها ، وجدته جالسا على كرسي بالقرب من العمارة الذي كان يعيش فيه في حي مكتظ بالمهاجرين من مدينة باريس، هذا الحي معروف بالانحراف إنه حي بارباس ، وأطفالا صغارا يدورون حوله ويسخرون من أقواله، بدا متعبا على وجهه ، وابيض شعره ، وكثير من تجاعيد الوجه من ثقل العار وفقدان ابنته في المهجر، اقتربت منه بخطى ثقيلة ومترددة ، قبلته على رأسه ، ابتسم والدها وعانقها بحرارة ، تفاجئت لردة فعله غمرتها الفرحة،
أسرعت إلى المنزل نحو صالة الضيوف ثم باتجاه المطبخ، فجأة ، قفزت والدتها دون أن تدرك عندما رأتها امتزجت الدموع بالفرحة في آن واحد، بدأت في تقبيلها عشرات المرات. ثم طلبت منها الجلوس في صالة الضيوف مع بناتها لتحضير الشاي.
قبل أن تتوجه ليلى إلى صالة الضيافة ، سألت أمها مندهشة:
- هل سامحني والدي لقد قبلني بحرارة عندما استقبلني؟
فأجابت الأم بحزن:
- ابنتي والدك يعاني من مرض ألزهايمر، فقد ذاكرته ولا يتذكر عن ما يدور حوله، سقطت ليلى وأغمي عنها عند سماع الخبر،
أخرجت الأم بسرعة الضوء علبة من عطر الورد ومفتاح كبير، عطرت ابنتها في حضور الفتاتين اللتين كانتا ترتجفان من قسوة المشهد ثم وضعت المفتاح في يدها اليمنى، بعد نصف ساعة من الانتظار والدعاء ، استيقظت لكن وجهها ظهرت عليه أعراض جلطة ، حيث تجد صعوبة في النطق وتحريك يدها وساقها اليسرى،
في غضون دقائق قليلة، وصلت سيارة الإسعاف وخدمات الطوارئ ، ثم نقلتها مروحية إلى أقرب مستشفى لتلقي العناية المركزة.
وتبين من خلال الفحوصات الطبية الأولية أنها تعاني من الضغط الدموي وتوتر عصبي، كما عثر الأطباء بعد تفتيش ملفها الصحي أنها قامت بمحاولة انتحار منذ ما يقرب من سنة،
في حين بقي الأب على حاله جالسا على جانب الرصيف فوق الكرسي الحديدي ، تحت مراقبة الأطفال الذي يمزحون معه،
لم ينتبه لصرع ليلى، ومازال يبتسم ويبتسم كعادته كطفل صغير منذ أن أصيب بمرض ألزهايمر اللعين،
لن يستعيد ذاكرته، ولن يتذكر ليلى وزواجها ...