الشهادة
بقلم الكاتبة المبدعة / نعيمة مفيد
المغرب
لا أزال أذكر ذلك المساء الصيفي، عندما حصلت على شهادة الماجستير،كانت فرحتي عارمة لا تضاهيها فرحة،اعتقدت أنني سأعبر وأسرتي مستنقع الفقر،وأعالج والدي الذي كان منغمسا في فراش المرض لشهور،وأغادر سراديب هذه الفئة المسحوقة التي أتشرف بأن أكون منها، أردت أن أجتاز نظرات الشفقة التي تلاحقني من المعارف والمقربين، لا أريد أن أرى نظرة العطف في أعين الجيران والأصدقاء، لأن لي إرث من كبرياء، قد بعثت من رحم القيم، أكدح ولا أتسول ولوكان بي شلل والأمل في روحي كل يوم يتجدد.
اجتزت الزقاق بسرعة، دققت الباب، فتحت والدتي التي زغردت من الفرحة، فقفز والدي كعاصفة من صدر الغرفة وهو الذي لم يبرحها منذ مدة طويلة، قال بصوت ملؤه الفرحة وابتسامة عريضة تدثر وجهه: عرفت أنك حصلت على الشهادة قبل أن تتكلم، عرفت من خلال عينيك المضيئتين والمتوهجتين كالمنارة، والذي من زمان لم أر فيهما هذه السعادة . أول مرة وبعد سنوات من المرض أرى والدي يضحك كالطفل، أما والدتي فقد دعت كل جاراتها لتريهم الشهادة وتحتفل بها، أنفقت كل معاش والدي على هذه الحفلة مرددة باسم الله ماشاء الله ابني نال الشهادة الكبرى.
اعتقدت أن هذه الشهادة ستحلق بي بعيدا عن الفقر والحاجة في فضاء تملأه الورود، لكني وجدت أشواكا وعراقيل، وجدت أن الشغل صعب المنال، وأبواب الوظائف موصدة، صار حلمي إلى محرقة الضياع، أصبح نسيم فجري جافا،تحولت أحلامي إلى أضغات، عبست الأيام في وجهي ولاح على محياها الحزن، فدخلت في صراع مع البطالة التي تؤثر على الكرامة، ومع أسرتي التي تشكو أحيانا وتعاتب أخرى. انضممت إلى فئة المعطلين، فئة الأغنياء في عقولهم والفقراء في جيوبهم، ركبنا نفس المركب الذي كان يؤدي بنا أحيانا إلى نيل حظ وافر من الضرب والشتم والقمع أن نحن نظمنا وقفة احتجاجية للفت الانتباه والمطالبة بحقنا في الشغل.
كنا نجلس كل مساء بمقهى الحي نكتتب لجمع ثمن براد أتاي نتحلق حوله، وكل واحد منا ينفس عن الحرب المشتعلة داخله التي تضغط على أعصابه بكل قوة منتظرا أن تضع أوزاها بعد أن يجد عملا ليتصالح مع ذاته.
عندما تبدأ طلائع الظلام تزحف على ما تبقى من ضوء النهار أعود إلى البيت الذي يلفه الصمت إلا من أنين أبي المتقطع الذي يصدره بين الفينة والأخرى أو من همهماته بالدعاء والابتهال إلى الله عساه يخفف عنه وطأة المرض وضيق الحال. أجلس بغرفتي حيث أجد سلوتي في خزانتي، أسافر في متون الكتب وثمارها، أغازل هذا وأحاور ذاك وأراقص الآخر يحملونني على جناح المتعة فأنسى زماني ومكاني، حين يهجم علي النوم وينتصر أضع رأسي على علبتي السوداء، أتقاسم معها أحداث يومي وكل أفراحي وأحزاني ، أبللها بدموعي، وسادتي التي شاركتي حياتي التي تنقصها الحياة.
أصبحت الأصباح والأماسي سيان، ولكن لابد من مصاحبة الرجاء، في كل صباح كنت أتأبط شهادتي، وأبدأ رحلة التسكع بحثا عن عمل، لأعود مساء خاوي الوفاض كمن يمسك بزبد البحر فيصير رغاء في كفه وإن أصر على إمساكه تقاطر من بين أصابعه، ولكنني سأتشبث بالأمل حالما..ناظرا.. إلى الأفق البعيد لعلها تطالعني إشراقة من وراء التخوم. أخبرني صديقي بأن وزارة التربية الوطنية أعلنت عن تنظيم مباراة لتوظيف الأساتذة، سعدت كثيرا بهذا الخبر وقلت: هذه المرة ابتسم لي الحظ ابتسامة عريضة عازفا لحن الحياة فهذه الوظيفة ستنتشلني من البطالة رغم أن دراستي كانت بعيدة عن مجال التدريس، أعرف أن من الصعب أن يزاول الإنسان مهنة بعيدة عن اختصاصه كأن يصبح الأستاذ طبيبا والحداد نجارا ،كمن يعيش مع زوجة لا يحبها ولإعتبارات لا يمكن تركها، لا قيدا ولا حبالا تربطهما ومع ذلك لا يتركها، هذا ما سأفعل بالضبط، سأتشبت بالفرصة فإن ضيعتها قد لا تأتي مرة أخرى، أو سيطول انتظارها. سأرضى بهذا النصيب وأركب قطار التحدي لعله يوصلني إلى مبتغاي، لأن التحدي عندي من الشيم.
غادرت البيت متوجها إلى مركز تكوين الأساتذة، وقفت في الصف و قلبي يخفق من الفرحة، حين وصل دوري قدمت ملف الترشيح للموظف، تفحصه كطبيب يتفحص جثة فارقتها الروح وقال: ملفك مرفوض.
قلت: ولماذا سيدي؟
قال: لقد تجاوزت الثلاثين عاما وهو الحد الأدنى لقبول الترشيحات.
قلت: أبلغ من العمر ثلاثين سنة سيدي.
قال: لا ، لقد تجاوزتها بخمسة أشهر.
لفت بي الدنيا لفات عديدة، وارتجفت من هول الصدمة حتى كدت أقع على الأرض، تمالكت نفسي وبلعت ريقي الذي كان يخنقني وقلت شكرا وخرجت. قرار تعسفي عصف بكل أحلامي في لحظة وصوب لي طعنة قاتلة للأمل الذي عقدته على هذه الوظيفة. عدت إلى البيت محطما أجر أذيال الخيبة، لأبدأ رحلة البحث عن عمل من جديد.
بقلم نعيمة مفيد
المغرب