Translate

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2021

طفل يموت مرتين. بقلم / أحمد علي صدقي/المغرب.

 


طفل يموت مرتين.

بالنهار كان سعيد يجوب أكبر عدد من شوارع المدينة قاطعا المسافات.. همه بيع بعض المناديل أومقصات أظافر أوعلكات ليقتات منها.. يمشي كيلومترات وكل ما يجمعه في يومه هو قليل ريالات لا يسمن ولا يغني من جوع.. ما كان يجمعه بكثرة هو شتم و سب و لطم وبسمات شامتة ونظرات محتقرة و تزميرات مفاجئة و تصادم في الشوارع مع السيارات لأن الارصفة احتلتها المقاهي وجعلت منها بهوا لها.. يرجع بالليل الى مقر له بضواحي المدينة، يفترش الارض ويتغطى بالسماء وموسدا نعليه البلاستيكية المرقعة لينام.. وياليته يخلد لنومه بسلام. فكثيرا ما يقض مضجعه متسكع سكران يتحرش به..
كم كان يرى نفسه محتقرا من الجميع.. الكل يعيش في رغد إلا هو يرى نفسه كذبابة فوق جلد عفن.. كانت نار الحقارة تلهب داخله فيفكر في انتقام حتى ولو غير مباشر..
تجرأ يوما وقرر الانتمقام.. دخل العمارة.. قصد مصعدها.. كان هدفه الصعود الى سطحها. يريد رأية المدينة من فوق. يريد أن ينظر من يمشون في شوارعها و يتكبرون عليه في حجم صغير يشفي غليله.. يريد أن يتحسس أنه يدوس الكل تحت أقدامه.. يريد أن يحس أنه فوق والكل تحت أقدامه...
فتح المصعد للدخول.. رأى حقيبة مرمية فوق أرضيته.. أخذها فشغلته فلم يتمم صعوده.. غادر العمارة.. لما فتح الحقيبة.. وجد بها أموالا كثيرة وصورا.. أخذ على عاتقه أن يخبئ آماله على رفوف الألم و لا يمس ما بالحقيبة.. قرر تركها كما هي فما عد ما بها من مال، فقد دفعه شعور انساني أن يبحث عن صاحب الصور لعله يجده فيسلم له حقيبته وينال اجرا منه وجزاء من الله.. كانت هذه مسؤولية زادته تعبا إلى تعبه فأمسى يجوب المقاهي و المطاعم باحثا عن صاحب الصورة ليفرحه بحقيبته فيفرح هو بوفائه لعهده...
سعيد هذا، طفل في الرابعة عشر من عمره. هاجر المدرسة بعد موت أمه. طفل في عنفوان شبابه. جميل الطلعة خفيف الظل وسيم الوجه مبتسم دائما في وجه الجميع رغم الظروف والأقدار التي رمت به في شوارع هذه المدينة القاسية. القاسية بمعاملات أناسها.. برصد أبواب منازلها في وجهه.. بحرارتها التي تعفن جسده حين يختلط عرقه وهو يطوف شوارعها بدخان السيارات والمعامل.. ببردها الذي، كلما اجتاحتها موجاته، برد الليل عليه، فكان إبرا تلدغ جلد وجهه الرقيق.. بشطط رجال مخزنها وركلاتهم و طردهم له وكأنه ليس له حق العيش الكريم في بلده.. كانت المدينة الأسمنتية تكابده البؤس و الحرمان بلا شفقة ولا رحمة. كانت غولا يطارده بالليل النهار.. كانت جحيما عفنه بالعيش في أوساخه.. جحيما جعل له من الاوساخ غداء لبطنه و غشى جلده بقشرة تيبست فأصبح كجلد تمساح.. لم يعد يهتم بالنظافة فضاع الوجه الوضاح و تبخر الجمال.. ضاع الذكاء و غسل الظلم عقله... ورغم هذا وذاك لم ينقد عهده.. تابع البحث عن صاحب الصورة..
يوما ما، وقد أخذ منه الجوع مأخذا.. مر أمام مطعم.. رأى من خلال زجاجه رجل الصورة التي بيده.. دخل خلسة من النادل.. تفقد ملامح الرجل.. تيقن أنه فعلا صاحب الصورة.. تقدم إليه.. وقف أمامه.. كان الرجل منهمكا في تناول وجبة غداءه.. قال له وهو يقدم له الصورة:
أأنت هذا؟ كم بحثت عنك أيها الرجل.. ثم فجأة توقف عن الكلام.. تقلص وجهه و زاغ بصره.. احتبست أنفاسه ثم أطلقها في الهواء كانفجار.. عطس.. انتشر رداده هنا وهناك فطال وجه الرجل. من أنفه خرج رغاء فسقط فوق الطعام.. قام الرجل غاضبا.. لطم الطفل بعنف على خده.. ارتمى رأسه بحاشية الطاولة.. فقد وعيه.. كان الجرح عميقا برأسه.. اجتمع الناس حوله ،فمنهم من هاتف الاسعاف ومنهم من هاتف الشرطة ومنهم من أمسك بالرجل.. كانت الصورة التي سقطت من يد الطفل هي فعلا صورة الرجل...
وصلت سيارة الشرطة هي الأولى للمكان.. وُضِع فيها المتهم وبيده صورته وحقيبته.. تأخرت سيارة الاسعاف قليلا و عند وصولها كان الطفل قد سلم روحه لخالقه...
أحمد علي صدقي/المغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة