كورونا وأهل الريف
سافر بعد أن أتم تعليمه الجامعي إلى احدى بلاد الخليج العربي، ليجمع مهر محبوبته من بين براثن الغربة وأنياب الرق المقنَّع تحت مسمى الكفالة...
عاد بعد عامين ليجدها قد تزوّجت من موظف حكومي، وافق عليه أبوها برغم أنها أبدت عدم رغبتها في الزواج منه، لكن هيهات هيهات أن تلقى مثل هذه التوسلات آذانا صاغية في مثل هذا المجتمع الريفي...
وأَدَتْ حبها ودفنته في تلافيف مخها وسويداء قلبها، وما كان منها إلا أن أذعنت لأمر أبيها، وإن كانت صورة فتى أحلامها لا تفارق خيالها لحظة؛ بحسن سمته، وأناقة هندامه، وطيب خلقه، ونور وجهه من مداومته على الوضوء ومحافظته على الصلاة.
كتم صدمته بخبر زواجها لم يبدها لأحد، استحضر أول صورة لها طبعت في ذهنه؛ وهي تجلس خلف أبويها في الحقل وغروب الشمس، واختلط شفق الغروب بشفق وجنتيها، ممسكة بكتاب تلوح به بين الحين والآخر لتهش الفراشات التي تزاحمت على نور وجهها...
ثم أطرق مليا، وتذكر أخر لقاء بها قبل سفره بساعات تحت شجرة سامقة أشهداها على العهد "ألا تكون إلا له حتى أخر العمر وألا يكون إلا لها حتى أخر العمر“...
رفع عينيه إلى السماء، تصنّع رباطة الجأش، افتعل ابتسامة عريضة على شفتيه...
تزوج من غيرها وسافر ثانية مثخنا بالجراح، مخبئا جثة حبه القديم في مقبرة تفوح عطرا بين أضلعه كلما نبشتها مخالب الذكريات...
طالعتنا وسائل الأخبار المسموعة والمقروءة والمرئية عن منظمة الصحة العالمية، من توخي الحذر وأخذ كافة التدابير والاحتياطات الاحترازية والوقائية، لانتشار فيروس كورونا المستجد، والذي سيسبب وباء وجائحة عالمية قد تودي بأرواح الآلاف من البشر، بل قد يتخطاها إلى الملايين إن لم نلتزم بحظر التجول وارتداء الواقيات واستخدام المطهرات...
أصيب الموظف الحكومي نظرا لطبيعة عمله واختلاطه بالأجانب بكورونا وتم عزله بمستشفى الحجر الصحي، وقامت الجهات المختصة بمنع الدخول إلى قريته والقرى المجاورة لها أو الخروج منها، وأخذوا مسحة من الحلق لجميع المخالطين له، والذين ظهرت عليهم بعض الأعراض.
أظهرت نتائج المسحة إيجابية مسحة زوجة الشاب المسافر وتم عزلها هي الأخرى بمستشفى الحجر الصحي...
عاد الزوج المسافر بعدما علم بإصابة زوجته بفيروس كورونا، فور وصوله وأثناء ذهابه إلى مستشفى الحجر التي بها زوجته، مر على مجموعة من الشباب: شُعث، غُبر، في أسمال بالية، من قرية الموظف الحكومي المصاب المجاورة لهم، يهشون بالعصي على أغنامهم في طريقهم إلى المرعى...
سمعهم يتغامزون ويلسِّنون عليه أنه الزوج المغفل، الذي يزور زوجته ليلا هذا الموظف وهو نائم في العسل في غربته، ولذلك انتقلت إليها العدوى، وتعالت ضحكاتهم الساخرة وهم يضربون كفا بكف...
انتفخت أوداج الزوج غضبا وتقدم ناحيتهم مزمجرا: اخرسوا، قطع لسانكم، والله لتطيرن في هذه الكلمة الرقاب، ولطم أحدهم على وجهه...
وعاد مسرعا ليخبر أبيه وأعمامه وأهله بما حدث، وما يحاك لهم بليل وما تلوكه الألسن من شرفهم وسمعتهم دون تروٍ أو برهان، وأن الخبر ينتشر انتشار النار في الهشيم، مخلفا لهم العار والشنار...
استلّوا بنادقهم من مخابئها وعمّروها وساروا في سرداب الثأر للعِرض مدجّجين؛ التقى الجمعان عند منعطف الجهل، تبادلا اطلاق الأعيرة النارية، ولولا تدخل الشرطة والمشايخ والعقلاء من القرى المجاورة ومن الطرفين لراح ضحية هذا المنعطف الكثير...
بعد كر وفر، وشد وجذب، توصّلوا إلى جلسة عرفية للفصل بين الطرفين، وأُرجِأت لحين شفاء المريض والمريضة...
ظل الزوج يقتله ما يقال من وراء ظهره من خيانة زوجته له بدون دليل، وزوجته لا تعلم عما يقال عنها شيئا، ولم يستطع رؤيتها إلا مرة واحدة لا تسمن ولا تغني من جوع، من خلف ألواح الزجاج العازلة لوح لها ولوحت له من خلف الأسلاك الموصولة والخراطيم المثبتة بجسدها.. ليس لدى من يتكلمون في عرضها أدلة تدينها إلا الإصابة بڤيروس كورونا، وليس لديه أدلة تبرئها إلا إحساسه.
بدأت حالتيهما الصحية تسوء يوما بعد يوم، مات المصاب ثم المصابة ومات معهما السر، وظلت بعض الأفواه في الخفاء تنهش لحمهما بعد الموت بدون دليل...
جاءت لحظة الصفر، حان موعد الجلسة العرفية، اجتمع الخصمان في صوان كبير تحت غطاء أمني، استمع المحكّمون لكلا الطرفين ثم اختلوا بأنفسهم ساعة، جاءوا بعدها لإعلان الحكم.
قام أكبرهم سنا وأكثرهم علما وحلما، بسمل وحمد الله ثم قال: توصلنا بعد المداولة إلى أن يتزوج الأرمل من الأرملة.
د. ابراهيم مصري النهر
مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق