Translate

الأحد، 8 مايو 2022

"نزيف قلب" فدوى الحريزي / تونس




 "نزيف قلب"

تعرفت عليه في ريعان أنوثتها وقمة توهج سحرها الأخاذ. كان لا يشبه أناقة ولا شأن من تقدموا لخطبتها إذ لم يكن على قدر كبير من الوسامة ولا حتى الإثارة.
بشرة سمراء داكنة... شعر كسواد الليل تتموج فيه بعض خصلات الشيب... عينان سوداوان تتراءى منهما نظرات انكسار وشفقة على نفسه أمام جبروت رقتها... موظف بالبريد بأجر زهيد لا يمكنه من سد حاجياته إلى جانب مصاريف أمه المريضة.
لماذا عشقته حد النخاع؟... لا تعرف... ربما لأن البقية تقدموا لها مفتونين بجمالها... تدفعهم غريزة الامتلاك لجسد مفعم بالخيرات... تحفة سيزينون بها منازلهم ويتباهون بها.
أما هو... فقد عشق روحها... فهامت هي وجدا في كله.
ومارست السعادة بين أحضانه... وتعرت من كل قيودها وجمحت بكل ثقة على ساعديه وتركته ينهل من شهدها حد التماهي.
كانا على تنافر شكليهما مثل نغمتي الموت والحياة... هي ببياضها الناصع المشرب بحمرة... وهو بقتامة لونه... كلحظتي شروق الشمس وغروبها... متفارقتان... متلاصقتان... متباعدتان زمنيا... وطيدتان وجدانيا.
وظل حبهما سرا في سراديب صدريهما... لا يعلمه غير جدران بيت جده المهجور الذي كان يلتقيان فيه آخر الحي... وظلت تنتظر حتى يتمكن من جمع المال ليتزوجا.
انقضى النهار... وتراجع المساء زاحفا... منهكا... بعد أن لملمت الشمس آخر عقود لها... وتركت ساحة الوغى لمردة الليل... تنشر الظلام مرفوقا بسكينة مقدسة.
رن جرس الهاتف مدغدغا ذلك الهدوء الرهيب... إنها صديقتها ليلي:
-مرحبا... كيف حالك
-بخير... أردت الاطمئنان عليك... تركتك بعد آخر زيارة شاحبة الوجه... هل راجعت الطبيب؟
-لا... لا داعي... قليل من الإرهاق فقط... ماهذا الضجيج حولك...انا بالكاد اسمعك؟
-آه.... الليلة عرس جارنا علي
فتحت فاها.... تلبد ذهنها... ربما لم تسمع جيدا
-علي........... من علي؟
-علي...موظف البريد في حينا... أمه على فراش الموت... وقد أصرت على تزويجه بابنة خالته قبل موتها لذلك أقام عرسا بسيطا نظرا لاستعجال أمه ولقلة ذات اليد.
سقطت السماعة من يدها... كم تمنت لو تتوقف كل حواسها... كم تمنت لو يتعطل ذهنها فيستعصي عليه فهم ما يجري.... ولكن... بركان من العذاب بدأ يثور في داخلها... في هيجان كبير... من أخمص قدميها... إلى أعلى رأسها.
يتزوج.... كيف يتزوج... منذ سويعات فقط كانت برفقته... عاشت معه الشبق... ولحظات العشق المجنونة... أحست رجفته... ظنتها رجفة الوله المحترق... ولم يدر بخلدها أنه كان يحتضر على راحة صدرها... وأن تلك الرجفة... لم تكن إلا سكرة الموت... في غياهب الشغف المشجون.
دخلت غرفتها ثم ولجت المطبخ... وغادرته مسرعة
-رحاب... إلى أين؟ الوقت متأخر....
لم تجب أمها...ركضت كالمجنونة... الطريق مظلم... الصمت يخيم على عتمة دربها... تحاول فتح عينيها لتتضح لها الرؤية.. فتتوهج أمامها فوانيس العرس... تغمض عينيها.. تواصل الركض... أصوات الطبول تقرع أذنيها وسط ذلك الصمت..... مازالت تركض.... تلهث... الدماء تتقاطر على الأرض...الطريق يلف بها ويدور كدوامة مجنونة.
توقفت...تاهت... ضاقت عليها الأرض بما رحبت... ظلت كل الأشياء تدور من حولها كإعصار مدمر... تراءى لها علي وسط تلك الفوضى...ببدلة العرس... التي اشترتها معه ذات مرة من العاصمة... وربطة العنق الحمراء التي اصرت عليها رغم أنه كان يحبذ اللون الأزرق... والحذاء والجوارب اللذان كانا هدية منها في آخر عيد ميلاد له.
احست بالغثيان... عادت إلى الركض.... وظلت الدماء تتقاطر... أنفاسها بدأت تتقطع... ونبضها يتباطىء شيئا فشيئا.
فتحت عينيها ببطىء... بياض ناصع يلف المكان....حتى لباسها أبيض... ترى... هل هو البرزخ؟ عالم مابعد الموت... العالم الذي تمحي فيه احباطات الدنيا وانكساراتها. ولكن الألم يعتصر قلبها... حتى في العالم الآخر لازالت تتألم! ؟؟؟؟
قطع أفكارها أصوات خارج الغرفة
-دكتور... كيف حالها الآن؟
-لقد ضمدنا معصميها.. الحمد لله لم تقطع كل شرايينها... توقف النزيف... ولكننا اضطررنا إلى إجهاض الجنين.
-جنين..... أي جنين؟
-ابنتك كانت حاملا سيدتي.
توقف جفنها عن الحركة... دارت برأسها في أركان الغرفة رفعت يديها بوهن شديد ووضعتها على بطنها.
جنين..... أي أنها كانت تحمل قطعة منه في جرابها... اشتد بها الوجع إلى درجة أنه فقدت معه كل الأحاسيس. حاولت أن تخفي نفسها براحة يديها... ولكن راحة يديها لم تسع كلها.
فقدت علي... وقتلت ابنه.... أي حرقة هذه... وأي صبر يستطيع أطفاءها.... أخذت تئن.... ألم داخلها طغى على جروح ما تحت الضمادات.
سمعت خطى الطبيب تبتعد رويدا... حاولت التكلم... منعها الألم... نادت بصوت متحشرج كأنه يخرج من أعماق بئر عميقة:
-تعالوا.... ضمدتم جراح الجسد... ونسيتم جراح قلبي.... قلبي ينزف حد الموت... تعالوا... أوقفوا نزيف قلبي....
ضاع صوتها المتقطع وسط صخب المستشفى. أغمضت عينيها في محاولة يائسة للهروب من ذلك الكابوس... فتناهى إلى سمعها صوت رضيع... يهز صدى بكائه أرجاء الغرفة.
فدوى الحريزي تونس
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏نظارة‏‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة