الكلب الراعى
يتنزه "عربي" فى مدينة الأكابر،سأم من الشغل المتوالي طوال أيام عمره،لو كان آلة لأصابها العطب منذ سنوات،وللحق بها التكهين،ولكن المكن لا يأكل ولا يشرب،غير مسئول عن عيال،وهم لا يتلم،قال له بعض الأصدقاء أن المدينة تحيط بها الغابات والمستنقعات،يمرق الوقت فيها كالشهب،سينسى تعب السنين،ويرتق جسده البالي،يزيَّت المفاصل،ويستبدل الخردة بالجديد،وكأن للغواية بريق.
يتمهل الخطى،الشارع هادئ إلا من هسيس هنا وهناك،في انحناءات الشارع سكون وريبة،فهو لم يعتد مثل هذا الهدوء،فالحياة فى عرفه بلا زحام طعام ماسخ لا نكهة ولا رائحة،ومقاعد على الرصيف الواسع شاغرة،منحوتة من الخشب بمنمنمات بديعة،يردد فى سريرته:
يرحم أباك يا أبو العربى لو شاف هذا السكون ما مات.
من عمارة شاهقة يخرج كلب مهول،شكله يثير الرعب،فراؤه كثيف،لونه أسود بحمرة خفيفة،عيناه تبرقان،أذناه منتصبتان مثلثتا الشكل،يتوقف "عربي" ليحافظ على بعد المسافة بينه وبين الكلب؛فرملت قدماه دون إرادة منه،فذكرياته مع الكلاب قل عنها يا حفيظ احفظنا.
فوق الرصيف طفل يلهو،ملابسه رثة متسخة،تي شيرت مهترئ،سروال قطني متنسلة خيوطه فى أكثر من موضع،يصيح علي الولد،لا يلتفت له،يمتطي سيارته البلاستيك،يدور،يرجع للخلف،ينغم نبرات التنبيه:
بيب..بيب.
ربما كان منشغلاً في عالمه!
وربما أسره الرصيف ببلاطه اللامع وطراوته!
السلسلة المطوقة لرقبة الكلب مقطوعة،اكتشاف "عربي" عظيم؛أليس كذلك؟
ما جدوى السلسلة طالما الكلب طليق؟
يتمشى،يشارك البني آدمين التنزه ،يدفس رأسه فى الأرض،يشمها،وكأنه يقص أثر أنثاه،يرفع رأسه وكأن جهوده باءت بالفشل،يتبدل هدوءه شيطنة.
يلمح الطفل،يقترب،يقعى على قدميه الخلفيتين،يتموضع بهيئة المستعد للهجوم،يتريث ،يهجم علي ذراع الطفل اللاهية بمقود العربة الصفراء،سرعان ما يستغيث،يصرخ،تمزقه الآلام،يرفس بكل خلاياه.
يتناجى عربى:
أيمكنني إنقاذ الطفل؟
يفتش جيوبه عن عصا،مطواة،مسدس،لاشيء فيها سوى بعض وريقات،يتقدم خطوة نملة،يتراجع قفزة نمر،لا يحتمله جسده فيتهاوى؛يلوم نفسه:
أهذا وقته يا فالح؟
خيالات النجع تزاحم ذهنه:
" تسوخ قدماه فى إبليز الترعة،ينكفئ على وجهه،الكلاب تلاحقه،هلع وصهد وآلام مبرحة."
سائل لزج أسفل أذنه اليسرى،أشجُت رأسه؟
لِمَ السؤال والدم يسيل؟
يدوس على الجرح،مازال الدم يتدفق،يدبق أنامله،يستل منديل القماش الأبيض من سرواله،يكبس الشج،يستهلكه الوقت ما بين التوجع واللافهم،لم يستوعب المشهد بعد،ربما كان الطفل دمية،والكلب كرتون مقوى!
وربما كان الحدث برمته من صناعة مخرج سينمائي،تبثه ماكينة عرض مندسة فى إحدى البلكونات المواجهة!
يدعك عينيه،يغلقهما ويفتحهما على التوالي.
هاهي امرأة من بعيد تصفر صفيرا حادا متقطعا ،تترنم في دلال نزق:
اتركه ،لم يحن وقت الغداء بعد.
يزوم الكلب معبرا عن غيظه ،يغرس أنيابه أكثر،تبتعد المرأة،تقترب من "عربي" ،يبدو عليها التوتر،تنظر فى جميع الاتجاهات،وكأنها تستشرف عدد الحضور،تفحص الوجوه،وجودها يرققه،هذا ما يبدو للرائي،ولكن قى دواخله بركان متقد وحفيف جسد ملتهب،يتناجى:
"ما بال الجسد اللدن يخبل عقلك؟
تسيب مفاصلك،ترتخى أعصابك،وتُمنى الجسد بوجبة لحم كالمهلبية،لا تسرح كالأهبل،أيتركك الكلب تنغمس معها فى دلو المتعة؟"
الكلب يجر الطفل بعيدا،يقبض على قدمه بأسنانه،تتداخل خطوط الدم فوق الرصيف،أضحى الرصيف كلوحة طفل عابث بالألوان.
الصغيريقاوم الانسحاق بصوت واه،ببقايا أظافر لبنة،بأنفاس غاربة،الفرفور يحاول الرفس،خار عزمه،انكشف صدره المخضوضب بالدم.
ذو السترة الواقية الواقف أمام مبني الزجاج يجرب خطوه الرتيب،يحمل بندقية آلية وهراوة من البوص المضفر،يقترب ببيادته الضخمة،يرفع ويخفض رنين اللاسلكي،أصوات تتداخل،يقصد مسرح الكلب،يشرئب "عربي" بعينيه،لير من فوق الرؤوس نجاح إنقاذ الطفل،وشكم المتوحش أو قتله،هذا ماتمناه،ولكنه لم يتحقق، وما أن يدنو الحارس من الكلب حتي يتحسس"عربي" وجهه المتواري خلف الدم، زغللة في عينيه،وشيش في أذنيه:
"فى الخور يستبدلون عارضتي المرمى بالصخور،يراوغ "عربي" لاعبى الدفاع،تهتف حناجر شباب وكهول النجع،تنثال الأهداف،يركض الكلب هائجا،يتعثر فى فزعه،ينط شواهد القبور،يفر للصحراء،رمال كثيفة وأحجار مسنونة وكلب منقوع بكراهيته،لا يعلم يقينا كيف تخلص من نذير الشؤم هذا،يختبر مشوار العودة انهياره."
اللاسلكي يتذبذب،فيتقهقر حامله،يدور للخلف،يلاحقه "عربي":
------------
أتعلمنى مهام وظيفتى؟
هأ..هأ..
ذاب كفص ملح،همبكة فاضية،آلى وعصا ولاسلكي،كأنه مارينز يا خي!
لم يحاول-مجرد محاولة-تخليص الولد من بق الكلب،شمال..يمين..معتدل مارش،الدور الذى ارتضاه بالرواية ما كان.
أيأكل الكلب الطفل؟
هكذا تساءل أحد المارة ،لا يملك "عربي" أجابة،ولكنه يسأل الحشد المتنامي:
ألا يتحرك أحد ؟
تجيب المرأة وكأنها تفرج عن هم أرقّها طويلا:
ولكنه كان أليفا.
ما ذنب الطفل؟
أخشى أن تسوء حالته النفسية.
ها..ها..والطفل يا سنيورة؟
لم يُهندس الرصيف ليلعب.
طوابير من السيارات،المرأة تصرخ في هاتفها المحمول ،تأمر وتشخط،سيارات تعبر يميناً،وسيارات تعبر يساراً،والكلب يفرغ لتوه من إزدراد الذراع ،تتذمر أبواق النظارة:
الكلب مفتر.
تقر المرأة في وجل:
ما الجديد؟
جميعكم حضرتم لرؤية هذا المشهد اليومى،أتزعزع إيمانكم بقداسته؟
يستنكر "عربي":
لم أمكث فى مدينتكم إلا ساعة،أفيون القداسة نفد.
يسأل "عربي":
أين أبواه؟
لا أحد يرد،فما جدوى السؤال؟
وماذا سيفعل الأبوان؟
ألم ينته المشهد؟
لم يبق سوى تبادل الحسرات،وقليل من التفكير فى الهوامش،ليكتمل العرض،ويتفرق الناس.
الأصوات المنطفئة فى الصدورتردف "عربي" بالإغفاءات:
"يستطيل الليل ولا نوم، اهتاجت الكلاب،نباح ممطوط،وآخر قصير،وثالث متقطع،أمسى أثير القرية متخما بالنباحات، وشواشي أعواد الذرة تصفر لحناً جنائزياً،يشعل خرقة الزيت،تطفئها الرياح،يشعلها ثانية،لهاثها يبتلع النار،يسرجها ثالثة ،يردف الجسر الترابي،يتسلل من بوص الذرة الندي،يبتعد،لو أضيئت الشمس لما رأيت ضيفه،سمانة ساقه اليسرى تؤلمه بشدة."
تكتسي اللوحة بالصمت الأسود،المئات والمئات يتكدسون بالشارع، ينظف الكلب أسنانه من نثار اللحم واللُّغام الأحمر،المرأة تغادر،يتبعها الكلب،تربت فوق ظهره،يتقافز وراءها،أين المرأة،كلما ابتعدت الصورة تاهت المعالم،ما يرى سوى كلبين يتغازلان،أفن عقل "عربي" :
كلب وامرأة،كلبان دون امرأة!
أين نخوتك يا فتي الجنوب؟
مائة سؤال وسؤال يهجم علي عقله،دعه الآن،فالكلب لمحه،واحد،أثنان،ثلاثة،يا فكيك...فجأة نبتت الأسوار،حاطت المدينة.
ويُحكى أن "عربي" لم يغادر المدينة.
هناك من رآه بصحبة الكلب،والبعض رآه برفقة المرأة التى كانت مع الكلب،أيضا شاهده البعض وهو يحفر قبرا،عموما تباينت الرؤى والمشاهدات.
تمت بحمد الله
بقلم / عصام الدين محمد أحمد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق