Translate

الخميس، 9 يونيو 2022

المقامر قصة قصيرة بقلم : محمد البوركي – المغرب


  المقامر

قصة قصيرة

ساقوني – قسرا – إلى مستودع الأموات بالمستشفى الإقليمي ، أزيح الغطاء عن الجثة المسجاة في صندوقها ، تراءى لي وجه أزرق انطمست معالمه ، دققت النظر، الندبة السوداء الموشومة على الجبين بارزة .
" غالبا ما تنتهي ملاسناتنا إلى عراك نتراشق فيه بكل ما يقع تحت أيدينا : كؤوس ، قنينات ، منفضات سجائر ، كراسي ... في إحدى تلك الاشتباكات أصيب صاحبي بنيران صديقة ، شظية زجاج انغرزت في جبهته ، فتدفق الدم نافورة على وجهه و ملابسه ، لم يتوقف النزيف ، حملناه على جناح السرعة إلى قسم المستعجلات ، عولج ، اندمل الجرح لكن الوشم بقي ."
نهرني صوت خشن أجش مستفسرا : هل تعرفت عليه ؟
حركت رأسي بالإيجاب ، و أسناني تصطك من شدة البرودة والهلع.
أعادوني إلى الكوميسارية ، لاستكمال فصول التحقيق الجنائي ، جلست قبالة ضابط الشرطة الذي بادرني قائلا : وجدنا جثة صديقك متحللة بالمطرح البلدي للنفايات خارج المدينة ، و قد أفاد تقرير الطب الشرعي ، بعد التشريح ، أنه تلقى ثلاث طعنات في بطنه ، و أصيب برضوض على مستوى الشق الأيمن لجمجمته . أنت المتهم الرئيسي في هذه الجريمة ، مدان حتى تثبت براءتك .
استنطقني عن علاقتي بالهالك و عن جوانب من حياته . أدليت بأقوالي و المقرر يحرر كل ما تلتقطه أذناه في محضره :
" اعتاد أن يرتاد مقهاه الأثير كل يوم ، حيث يقضي معنا جل أوقاته ، يدخن بشراهة ، و يثرثر دون انقطاع ، كان موظفا بسيطا في إحدى الشركات ، تراكمت عليه الديون ، عجز عن تسديدها ، باع كل ما يملك ، تقاعس عن أداء عمله ، تم توقيفه و طرد بصفة نهائية .
كان مولعا مثلي بالرهان ، مهووسا بالأرقام ، يملأ المطبوعات ، و يتابع عن كثب نتائج سباق الكلاب و الجياد ، و يدفع مقابل ذلك أموالا طائلة ، تاركا زوجته المسكينة تقاسي الضنك و النكد ، و من حسن الطالع أنها عاقر لم ترزق بذرية . لا يعود إلى بيته إلا قبيل الفجر بقليل منهك القوى ، نتن الرائحة ، رث الهيئة .
في إحدى الأمسيات ، ابتسم له الحظ أخيرا ، كتمنا عنه الخبر حتى لا يصدم فيصاب بسكتة قلبية مميتة ، تشاورنا في الكيفية التي نزف بها البشرى دون أن يناله أذى ، اهتدينا إلى عرضه على طبيب نفسي يهيئه لاستقبال الخبر . أثناء الحوار طرح عليه سؤالا : تصور أنك فزت بمبلغ خيالي في القمار ، كيف سيكون رد فعلك ؟ لم يجب بل خر مغمى عليه .
حينما استفاق ، بشره الطبيب مؤكدا أنه ربح مالا وفيرا . كاد صديقي يطير فرحا .
اتجه إلى منزله متأبطا الغنيمة ، حين اقترب وجد جمهرة من الناس تسد منافذ بيته . سأل أول من صادفه ، أخبره بوفاة المشمولة برحمة الله زوجته . شق طريقه وسط حشود المعزين ، نظر إليها وهي مكفنة نظرة أخيرة ، تباكى ، أثناء سيره وراء الجنازة ، نطت من عينيه دمعتا فرح .
" إذا جاء الخير يأتي دفعة واحدة ، مال وفير لن يقاسمني فيه أحد ، سأعيش كما يحلو لي دون رقيب و لا حسيب " : همس لي بعد يوم من ذلك بهذا السر، و هو يتوجس خيفة أن يسمعه أحد أو يراه .
أقسم بالله ، لم أشاهده أو أعثر له على أثر منذ ذلك الحين ".
أقفل المحضر ، و أمرني الضابط بالانصراف حتى إشعار آخر .
بقلم : محمد البوركي – المغرب 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة