يَباب
قصّة قصيرة
أنا لستُ بحلم بل هو واقع...
لا أرى أمامي سوى قطع وأشلاء... أجزاء مِن أشجار مبعثرة... أحجار بيت متناثرة... زهور مقطّعة ومرْمية... أخشاب ربّما كانت سورًا لحديقة... عُشُّ عصفور يرزح على الأرض وبداخله فِراخ... طير بلا جناح يحمل بمنقاره بعض قطع منَ الخبز... رأس هنا... يد هناك... بعض الأصابع... أشياء أخرى مفصولة عن بعضها البعض لا أستطيع تمييزها...أشلاء... أشلاء... أشلاء... لا شيء سوى أشلاء...
أنا لستُ بحلم هي حقيقة!
أقف ساهمًا محتارًا أمام هذا المشهدِ الّذي يهصرُ القلب، والذي كان في يوم مِن الأيّام جميلًا ببيوته وسكّانه وأشجاره وشوارعه... جاء مَن قطَّعه وحوّله إلى يباب! هل مِنَ الممكن إعادة تكوينه، أَمْ سيبقى القبح متفوقًا على الجَمال؟ هل باستطاعتنا إلصاق أعضاء مبتورة وإعادتها إلى الحياة مِن جديد؟ أسئلة كثيرة جالت في خاطري. وما علينا إلّا أنْ نحاول؛ فنحن في زمنِ المعجزات. ألَمْ ينجح الأطبّاء في وصل أصابع أشخاص مِن جديد بَعْدَ أنْ قُطعت بسبب حادث مأساوي؟ ألَمْ يُعيدوا أرجلًا وأيادٍ مبتورة إلى مكانها؟! حتّى الأَعيُن والآذان نجحوا بإعادتها إلى مكانها في الرّأس. والأغرب أنهم استطاعوا إعادةَ الحياة لأموات بعد أنْ توقّف نبض قلبهم! أليست هذه معجزات؟ كم سهل أنْ تَقطع أو تَكسر أو تَهدم أو تَقتل، وكم صعب بعد ذلك أنْ تَجمع وتُلصق وتَبني وتَخلق الشّيء مِن جديد. لكنّه ليس بالأمر المستحيل. وكم تكون بليدًا وبلا طموح أو إبداع إنْ لم تحاول إصلاح ما تمَّ تخريبه. ونحن صغار كنّا نُفكك ألعابنا لنرى ما يوجد في داخلها، ثمَّ نحاول تركيبها مرّة أخرى. أحيانًا ننجح، وأحيانًا نفشل، لكنّ المهم أنْ نحاول. مِن هنا تبدأ ثورةُ العقل، مِن هنا يبدأُ الإبداع. أليستِ الثّورة هي هدم وبناء؟ فلماذا لا أحاول بناء ما تمَّ تخريبه؟ الحياة تولد مِن رحمِ الموت، ولولا الموت لاستحالتِ الحياة. سأحاول أنْ أصنع أنا تلكَ الثّورة، سأحاولُ أنْ أخلقَ حياةً مِن هذا الموت.
قلت لكم إنَّني لا أحلم، أنا بكامل وعيي!
ها أنا أمسك بأحدِ الأفنان المَرميّة، وأضعها بجانب ما تبقى مِن إحدى الجذوع الجذلى فتنجذب إليها كالمغناطيس وتلتصق بها. أبحث عنِ الأجزاء الأخرى للشّجرة... أجد بعضها... أحاول جاهدًا أنْ أضع كلّ قطعة مكانها... إنّها ترفض أنْ تكون على شجرة غير شجرتها، أو بمكان ليس لها، أو بأرض ليست أرضها. فهي ليست كالبشر تحتلُّ أرض غيرها لتعيش هي على حساب أصحاب الأرض الأصليين. وبنفس الوقت، لا تتقبل جسمًا غريبًا يدخل إليها أو يلتصق بها، لئلا يتشوّه منظرها، فتقاومه حتّى تلفظه، كما يلفظ الجسم بقايا الطّعام الفاسد.
أنا لا أحلم... فها أنا أمسك ببعضِ القطع المتناثرة وأعيدها إلى مكانها حيث كانت... وها هي بعضُ الأشجار تشمخ وتورف مِن جديد... أحملُ العُشَّ بفراخه وأعيده إلى مكانه بينَ الأفنان، وها هيَ العصفورةُ الّتي تحملُ الطّعام بفمها، تقف بجانب زغاليلها فرحة بعد أن أَعَدْتُ لها جناحها...
لقد نجحت بمهارة أنْ أُلَمْلِمَ معظمَ القِطعِ المتناثرة ووصْلها مع بعضها البعض. وها أنا أيضًا أنجح في جَمْعِ حِجارةِ البيت وبنائه مِن جديد. أَلَمْ أقل لكم أنَّني لا أحلم؟! ها أنا أُعيدُ الحياةَ للوحة كاملة كانت مقطّعة ومبعثَرة. كم أنا فرحٌ لأنّني نجحت في ذلك. ولَم يبقَ أمامي إلّا جمع بعضِ الأشلاء المتناثرة لبعض الأشخاص، لكي أعيد جمال لوحةِ البازل الّتي أمامي كما كانت.
عامر عودة - فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق