Translate

السبت، 4 يونيو 2022

الجرح والذكرى بقلم / ناجح صالح


 الجرح والذكرى

=========
جلست الصبية ذات الربيع الثالث عشر الى جانب أمها تستمع اليها وهي تروي لها رواية أبيها الراحل ، ورغم أن الصبية لم تذكر عن أبيها منذ فارقها قبل سنوات سوى الشيء القليل حينما كان يحملها ويداعبها الا أنها كانت تشعر بأنه كان قريبا منها وأن أنفاسه تلاصق أنفاسها .
نظرت الأم بحنان كبير الى ابنتها وهي تقول :
- حسنا .. لقد أعدت عليك الحكاية عشرات المرات لكني لن أخيب رجاءك ما دمت لا تشبعين من سردها .
- انه أبي .. أفتقده يا أمي ، لو أنه كان معنا لكانت حياتنا أفضل .
- كان أبوك رجلا شريفا فاضلا وكانت يده نظيفة . عرف بين أقرانه بالنزاهة والاخلاص ، ولكن هكذا شاءت الأقدار أن يفارقنا في ساعة لم نكن نحسب حسابها ، لقد مات مقتولا ..أتدركين ذلك ؟
رفعت الصبية رأسها من خلال شعر أشقر وعينين صفراوين قائلة :
- أدرك ذلك يا أمي وأفهمه .
- كان عائدا عصر ذلك اليوم الى الدار واذا بيد غادرة تمتد اليه وتطلق عليه النار ثم تلوذ بالفرار ..هكذا كانت الحادثة كما رواها شهود عيان .
- ترى من فعل ذلك ؟ هل كان له أعداء ؟
- لا يا ابنتي لا ، لم يكن له عدو البتة ، لقد أحبه الناس بعد أن بادلهم هذا الحب .
- والجاني ألم يعرفه أحد ؟
- أتظنين أن أباك وحده الذي قتل على هذه الصورة .. آلاف مثله قتلوا هكذا وليس ثمة خيط لمعرفة الجناة أو هكذا يقولون .
- أين القضاء من هذا كله ؟ وأين هي العدالة ؟ أيعقل أن تزهق أرواح الناس دون معرفة الجناة !
- ما تزالين أنت على الفطرة يا ابنتي .. ان هذا الوطن يعيش اليوم أسوأ أوقاته ، لم نكن نعرف هذا من قبل الا أنه منذ جاء الاحتلال الى وطننا تغيرت الأخلاق وسادت الفوضى واضطرب حبل الأمن .
من جديد احتضنت الأم ابنتها وغمرتها بوابل من القبلات .. ليست لها سواها وهي بذرة أبيها وتوأم روحها،
لم تعد لذة الحياة مجدية لولا أنها بقربها .
يا له من جرح أليم يمزق فؤادها كل يوم بل كل ساعة منذ رحيل الزوج العزيز .
أضحت حياتها خاوية منذ ذلك الحين غير أنها تجد في ابنتها عزاء لهذه الحياة .
كل ساعة تستذكر الحادثة حتى في نومها ، حادثة مشئومة جزعت لها جزعا قاتلا الا أنها حين فاقت من الصدمة وجدت في ابنتها بعض الملاذ الذي تركن اليه .
وتذرف الدمع وتمسح دموعها ،ثم تبتسم في وجه ابنتها لعلها تحيي بادرة أمل تلوح لها تنقذها من جحيم الفراق الذي يجتاح كيانها .
وقالت الصبية بعد فترة صمت :
- أنت شجاعة يا أمي ، وقفت وحدك تواجهين هذه المحنة بصلابة ، وها أنا أراك تزاولين الخياطة لتوفري لنا لقمة العيش من غير ذل السؤال لأحد .
- أجل لا أريد أن أكون عالة على أحد ، وعزة النفس هي خير ألف مرة من السؤال ، أتريدين أن أذل بعد ذلك العيش الكريم !
- لا ، ان روح أبي لا ترضى ذلك .
صبية ذكية تشعر بالمرارة لفراق أبيها وبالرثاء لأمها ، وهي في هذه السن تتحسس الفاجعة كأنما حدثت أمام عينيها ، انه الخيال الخصب الذي يحتويها وانه السرد المتكرر من لدن أمها عن ذكرى أبيها وساعة استشهاده .
ويطوف بها الخيال كأنما هي تحادث أباها وتكشف له خبايا نفسها ، ترى هل غابت صورته الحقيقية عن عينيها أم أنها ومضات تأتيها بين حين وحين عن طول قامته وملامح وجهه وابتسامته وحديثه وكرمه .
وهي هذه الصبية الجميلة تقف الى جانب أمها تطيعها في كل أمر ، وتتمنى لو كانت ذكرا لتبحث عن الجاني الذي أحال حياة أسرة الى حزن وشقاء .
وقالت لأمها وهي تسترجع صورة أبيها :
- أراك كنت تحبينه حبا شديدا .
- أحبه ! لن يبرح قلبي حبه ، ليتني افتديته بنفسي ، ليتني كنت حاضرة معه في تلك الساعة لوهبته روحي ولكن هكذا شاء القدر ، غير أني أقول مع نفسي مرارا شلت اليد التي اغتالته ، وأرى أن الله سيأخذ بثأري من قاتله لا محالة لأن الظالم لن يتمهل بحياته طويلا ، أجل وأفوض أمري الى الله .
- ترى ما الذي جناه القاتل من فعلته .. سفك دما فحسب بلا مبرر وبلا ذنب .
- نفس مريضة ملطخة بالعار ، واني أجزم بأن حسابه بل وعقابه لن يتأخر ، ان دعوة المظلوم لن ترد .. كوني على يقين يا ابنتي أن الله سيرد مظلمتي في يوم قريب .
ورفعت رأسها الى السماء تتمتم بكلمات بينما بدا وجهها مشرقا كأنما كسي نورا .
وقفت الصبية تنظر الى أمها باجلال واكبار قائلة :
- أنا على يقين يا أمي بأن دم أبي لن يذهب هدرا .
بقلم / ناجح صالح

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة